Tuesday 03/06/2014 Issue 15223 الثلاثاء 05 شعبان 1435 العدد
03-06-2014

استحلاب الرغبات

أهدي لي قبل سنة قلم فخم من ماركة شهيرة وبعد استخدامه بأيام معدودة بدأت كتابته تقطّع ثم توقف عن الكتابة نهائياً، ودرت الرياض كلها بحثاً عن «بوتيك» هذه الماركة، هكذا يسمى لأنه لا يليق هذه الأيام أن تطلق على متاجر الماركات أو معارضها أي اسم غير «بوتيك» حتى لا يعدك الآخرون متخلفاً

وجدت البوتيك أخيراً في مول صغير كله بوتيكات، وما إن دخلت أحاط بي رجال «زكرت» أجانب بهدف معرفة وتخمين حجم جيبي ثم إخافتي لأدفع بدون أن أفكر. وما أن ولجت إلى هذا البوتيك إلا وشاهدت شخصاً مزركشاً كالطاووس ويتكلم من أنفه زفيراً فقط، ويتصرف وكأن الكون كله يدور حوله، وكلما أتوا له بصحن بضائع طلب صحناً أغلى وهو جالس لا يتحرك إلا بشكل مبرمج كالروبوت. خزرني البائع العربي بعينه فقلت لنفسي: خل أعطيه من الآخر خوفاً من أن يزيد في الفلسفة بفرنسيته المكسرة فيحصل ما يحمد عقباه. بادرته قائلاً: يا أخي أنا إنسان عادي وحصل وأن أهدى لي قريب هذا القلم التعيس من ماركتكم، وقد توقف عن الكتابة، فهو مظهر ولا مخبر، شكل فقط ولكنه لا يكتب! استغرب واستدعى لي أحد صبية المحل الأقل شأناً وتفرغ لخدمة مجموعة من السيدات المكتنزات اللائي يملأن الكراسي بشكل كامل، ويبحثن عما صغر حجمه وغلا ثمنه وبرزت ماركته. اشتريت عبوتين للقلم حتى لا أضطر للعودة لهذا البوتيك مرة أخرى، كل واحدة منها بقيمة قلم ممتاز، وصدقوني فإنها لا تكتب، صريخ ولا كتابة، ماركة ولا وظيفة. فأصبحت أحمل هذا القلم للمظهر وبجانبه قلم أبو خمسة ريالات للاستخدام الفعلي. فتذكرت عبارة قرأتها أن الماركات اخترعها الأذكياء للضحك على الموسيرين الأغبياء.

ولو لاحظ أحدنا جميع سيداتنا، حفظهن الله وسلمهن، لوجدهن يحملن حقيبة اليد ذاتها، إن أصلية أو تقليد، ماركة ذات حرفين ونقشة واحدة، ولو قدمت لهن هذه الحقائب قبل أعوام، أي قبل موضة الماركات، دون ذكر للماركة طبعاً لتقرفن منها. وهناك ماركة أخرى، كان تصميمها سابقا للبطانيات الإنجليزية، ولرجال الريف ثم تم التلاعب بخطوطها ليزين بها القوم رقابهم وأكماهم بصرف النظر عن شكلها أو أناقتها. ودخلت مرة معرض هذه الماركة ووجدت معطفاً بلاستيكياً له رائحة كريهة قوية، يعني لا كشمير ولا صوف أصلي ولا غيره من الأنسجة الفاخرة، مصنوع في الصين وثمنه آلاف الريالات.

طبعاً الموضة غزت الرجال أيضاً فالكبكات ماركة متفق عليها، والحذاء بدون شراب ويشبه النعال يتوسطه حرفان كبيران معدنيان يحرص الشاب على رز رجله ليبيدهما. وحكى لي زميل أنه اشترى قبل ثلاثين عاما، قبل أن يدمن الناس الماركات، من قالري لافاييت في باريس قمصاناً قصيرة الأكمام من ماركة معينة كان الجميع يلبسها في فرنسا، وبعد أن عاد للسعودية تصدقت بها والدته لوجه الخير دون علمه على أنها قمصان تليق بالعمال فقط ولا تليق به، واليوم هذه الماركة هي مقصد الشباب ويتسابقون عليها.

ويقال إن اهم شيء في صناعة كماليات اليوم هو صناعة الماركة لا الجودة. ولا يهم أين تصنع الماركة: الصين، فيتنام، بنقلاديش المهم أنها تحمل الماركة التي تتم الدعاية لها بشكل مدروس دولي. ويصرف على دعاية وصناعة الماركة أكثر مما يصرف على البضاعة ذاتها والمهم أن يشعر الجميع بالنقص وأنه أقل من الآخرين إذا لم يقتنوها. وتتجلى هذه المظاهر في دول العالم الثالث أكثر من دول العلم الأول، فدول العالم الثالث هي إمكان تفريخ الأغنياء الأغبياء. وكنت في مقاطعة «ماكاو» الصينية في مؤتمر، ولاحظت طابوراً طويلاً جداً من الناس نائمين أمام متجر، عفواً «بوتيك»، ينتظرونه ليفتتح تخفيضاته في الصباح، وعند السؤال قيل لي إنهم صينيون من بلاد الصين الأصلية حديثو الثراء والنعمة، وليس بينهم أي فرد من مكاو.

وينافس الصينيون على شراء الماركات الروس، الذين بدلوا من بعد فقر ثراءً بعد أن باعوا بلادهم بأبخس الأثمان لمستثمرين أجانب ليشتروا بالأموال شققاً، ويخوتاً، وماركات في لندن ودبي وغيرها.

وتذكر بعض الأبحاث أنه يصرف على الدعاية مبلغ 450 بليون دولار سنوياً، وتكلف الثلاثين ثانية على التلفزيون الأمريكي في حدث مهم 3 ملايين دولار. ويشاهد الإنسان العادي في عالم اليوم معدل 5000 آلاف دعاية يومياً. وكانت الدعايات في السابق في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وسيلة إعلام للناس بوجود المنتج قبل أن يكتشف التجار قدرتها على إغراء الناس، فتحول شكل الإعلانات من الإعلام للإغراء، ومن هنا تفنن الإعلاميون في الدعايات والتأثير ولجؤوا لحيل كثيرة تصب في نهايتها بتحسيسنا بالنقص، أو شذوذنا الاجتماعي إذا لم نقتن بضاعتهم، فكل الناس لديهم هذا المنتج إلا نحن، وهذا إحساس ذو قوة فتاكة وعلى وجه الخصوص في مجتمعات كمجتمعنا، وليس أدل على ذلك من مناسباتنا الاجتماعية التي تستنزف دخولنا في أمور شكلية لا قيمة لها.

والدعايات تخاطب أعماراً مختلفة وعلى وجه الخصوص الشباب، فكثير من إعلانات السجاير موجهة لهم، ورغم طباعة التحذيرات المتنوعة من خطورة التدخين على الصحة، إلا أن دعايات السجاير تعتمد قوة تأثير الصورة، وتستثير الغرائز، وتخاطب الشاب على أنه مدخن فعلاً بأسلوب: التدخين مضر لصحتك، ولكن صحتك تهمنا فصممنا لك سجائر أقل ضرراً، نيكوتين منحفض، فلتر قوي إلخ.. أي أن التحذير يستغل بذكاء لصالح الدعايات.

وقد تطور شأن الدعاية والإعلان باكتشاف علم النفس أن الرغبات لدى البشر عنصر نشط، حيث تولد الرغباتُ رغبات أخرى فتم الربط بين الرغبات، واستحداث رغبات جديدة بناء على رغبات أخرى. فالدعايات تربط شيئاً بشيء آخر، النجاح بنوع الشماغ، الجمال بنوع الكريم، وغالباً ما يستخدم أناس مشهورون، أو ناجحون، أو أقوياء لأهداف الدعاية: حذاء فلان، بلوزة فلانة، مشروب فلان إلخ. وأحياناً أخرى تربط السعادة والبهجة بالمنتج فتعرض صورة لشخص سعيد مبتهج يرقص مثلاً وبيده هذا المنتج. وتهدي بعض الشركات منتجاتها لأشخاص معروفين بشرط أن يبرزوها بشكل معين، وتعد الأفلام السينمائية أهم منابر الدعاية والإعلان. فعندما تشاهد البطل يقود سيارة معينة وينتصر على جميع سيارات خصومه فذلك ليس محض صدفة.

أما أسوأ أنواع الدعاية فهي تلك التي تستخدم العلم والمؤسسات العلمية، والأبحاث العلمية المزورة التي تبدو جادة وملتزمة ولكنها تستغل للدعاية، ويحدث ذلك للأسف في مجالات الدواء والغذاء فشركات الأدوية تدفع لهذه المعاهد التي تصدر دراسات مقيّسة بجودة منتجاتها ومناسبتها وهي تخفي المعلومات الحقيقية عن المستهلك. وتستضيف شركات الدواء بصفة مستمرة الأطباء في منتجعات خاصة وتهديهم الهدايا بما ذلك عينات أدوية كبيرة مجانية يبيعونها، وهذا أمر معروف وممارسة يعرفها الأطباء. واليوم تلجأ جامعات في الخارج لمنح جوائز وهمية، وتصوير إنجازات غير حقيقية لطلاب من بلدان بعينها بهدف استجلاب المزيد منهم، حيث يجد الدارس نفسه لنشر الدعاية للجامعة لأنه في نهاية الأمر مستفيد منها للدعاية لنفسه. هذا مختصر بسيط عن أمور التأثير العقلي على السلوك الاقتصادي للأفراد والمجتمعات، ولكن الأمر أعقد بذلك بكثير ويمتد لمجالات أخرى كالدين، والسياسة وغيرها.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب