Wednesday 11/06/2014 Issue 15231 الاربعاء 13 شعبان 1435 العدد
11-06-2014

المبالغات الاحتفالية: لزوم ما لا يلزم

فى مقال سابق (الجزيرة- 14-11-1433هـ بعنوان : ظاهرة المبالغات - شحن عاطفي أم إرث ثقافي؟) زعمت أن ميلنا إلى المبالغة فى التعبير الشخصي (المواقف مثلا)، أو التعبير الاجتماعي (التفاخر بالقبيلة - الإسراف فى الاحتفالات مثلا)

إنما هو صفة انحدرت إلينا من إرث ثقافي، وأرجعت هذا الإرث إلى ثقافة أنتجتها الظروف البيئية والمعيشية التى كانت سائدة فى جزيرة العرب قبل ألف وخمسمائة سنة؛ حيث إن القبائل كانت تعيش فى بيداء مترامية الأطراف، متباعدة ومتفرقه، تتنازع على الموارد الشحيحة، وتشد الرحال بحثاً عنها؛ فهي فى حاجة إلى الصيت الذائع الذى تُعرف به، وتهابه الأعداء ويجذب الحلفاء، ويعزز هوية الانتماء للقبيلة والشعور بالذات؛ وهذا يحتِّم اللجوء إلى المبالغة فى الفخر بالقبيلة أو بالموطن أو بالقوه - شعراً ونثراً، لأن اللغة واحدة و يفهمها القاصى والدانى. وقد انتقل هذا النمط من التعبير من جيل إلى جيل، فكان له التأثير الراسخ فى ثقافتنا. ولعل الإسراف فى الاحتفالات واحد من صور المبالغة فى إظهار العواطف تجاه الغير أو مشاعر الفرح، أو فى مظاهر الوجاهة وأساليب التقدير والاحترام. والمبالغة هنا ليست فى الشعور نفسه، بل فى الصورة الظاهرية للتعبير عن ذلك بما يفيض عن الحاجة، ويكاد ينقلب إلى دافع لتعظيم الذات بإبراز كرمها. ولعل النماذج التى أذكرها فيما يلى تؤيد هذا الزعم أو تنفيه :

أ-- الاحتفال بالأعراس : جرت العادة أن يدعى المئات من الضيوف للمشاركة فى فرحة الزواج (وتناول طعام العشاء)، مرة فى حفل للرجال ومرة فى حفل للنساء. وفى الغالب يحضر معظم المدعوين للمباركة والتهنئة، ولا يجلس إلّا أقل من نصفهم لتناول العشاء الذى قد ترمى بقاياه فيما بعد. تكلفة الحفل (للرجال وللنساء مجموعةً) من إيجارٍ وعشاء وما يقدّم فيه من حلويات ومشروبات وطربٍ (أحياناً) قد تبلغ ثلاثين ألف ريال لذوى الدخل المحدود، ومئات الآلاف لذوى الدخل غير المحدود.

ولنفترض إذن أن متوسط التكلفة هو خمسون ألف ريال، فهو فى كل الأحوال عبء يحتمله البعض ويقترض له البعض الآخر.

فى عام 1432هـ بلغ عدد الزواجات (148000)- حسب إحصاءات وزارة العدل. لذلك يمكن تقدير ما أنفق على حفلات الزواج فى ذلك العام بحوالي سبعة بلايين وأربعمائة مليون ريال. ألا يكفى نصفها، فنوفر أكثر من ثلاثة بلايين ونصف البليون ريال، يدخر منها البعض ليوم أسود، ويستثمرها البعض الآخر فى نشاط نافع ؟

صحيح أن من متطلبات الزواج إشهاره، وأن فى تكريم العروسين معنى المودة والتقدير، وأن مناسبة العرس هي مناسبة فرح وسرور ؛ لكن ذلك كله يمكن تحقيقه بحفلٍ بسيط يقتصر على عدد محدود. بل أظن العريس- وكذلك العروس - يشعر كل واحد منهما بالبهجة والسرور مع أقرباء وأصدقاء وجيران يعرفهم أكثر من سروره مع جمع غفير لا يعرف أكثرهم، وفوق ذلك يظل مدة الحفل متوتراً.

ب- الاحتفال باجتياز الامتحان: هذه بدعة اجتماعية طرأت بشكلها المحموم فى السنوات الأخيره- لا سيما بين الطالبات- وتسبب خسائر مادية للأهل الذين لا يريدون لبناتهم أن يكنّ أقل من زميلاتهن. صحيح أن النجاح فى الامتحان حدث سعيد، يسعد به الطالب والطالبة، وبدرجة مماثلة الوالدان أيضا؛ لكن الصحيح أيضا أن الاحتفال فى حجمه وأسلوبه هو أشبه بإعلان النصر على عدوٍّ غاشم تمثله الدراسة أو المدرسة. وكان يكفى لو تمّ الاحتفال بالمناسبة فى حفل ختامي تقيمه المدرسة فى نهاية العام الدراسي مجدولٍ ضمن نشاطها اللاصفي، ويحمل طابعاً ثقافياً فنياً مرحاً- كما هو حاصل بالفعل فى بعض المدارس ذات الإمكانيات؛ فإن الطلاب وأولياء أمورهم سيجدون ذلك خيراً وأعظم جدوى. وليس فيما ذكرته شيء جديد، فقد عمّمت بالفعل وزارة التربية والتعليم محذرة المدارس والطالبات من إقامة حفلات خارج المدرسة، لكونها لا تخلو من بعض المخالفات التربوية، فضلاً عمّا فيها من مبالغة تكبّد الطالبات تكاليف مادية تفوق طاقة بعضهن وتحرجهن وأسرهن -(صحيفة الرياض فى 5-8-1435هـ).

ج-- الاحتفالات الرسمية : أكثر ما يلفت الانتباه فى الاحتفالات الرسمية هو عدم التناسب بين مظهر وحجم الاحتفال وبين الحدث الذى أقيم من أجله الاحتفال. فعندما تقيم إحدى المؤسسات التعليمية حفل تخرج لطلابها فإن المناسبة تستدعى فعلاً شيئاً من الفخامة والاعتزاز، فعدد الطلاب المتخرجين كبير، وعدد ذويهم الذين يحضرون الاحتفال كبير أيضا، والمدعوّون من كبار القوم ومن ذوى العلاقه يشهدون حدثاً فريداً يمثل بالنسبة للطلاب خاتمة ناجحة لرحلة الدراسه تنقلهم إلى بداية رحلة المستقبل؛ وعندما يكون الاحتفال مقاماً فى مقر المؤسسة فإنه يبدو طبيعياً غير متكَلَّف. قارن ذلك بحفل الافتتاح لبعض المؤتمرات العلمية، حيث يدعى عدد كبير من الضيوف، بعضهم من عِلْيَة القوم، ويدعى الإعلاميون والمصورون، وتوزع الدروع ...إلخ. - ثم ينفضّ السامر بعد نصف ساعة، وتخلو القاعة إلا من المشاركين والحاضرين لفعاليات المؤتمر الذى أقيم من أجلهم . وأمّا ما أُنفق من مال وجهد تنظيمي لحفل الافتتاح فيتبخر مع انتهاء الحفل. وقس على ذلك مناسبات أخرى مشابهة. وهناك شكل آخر من الاحتفالات الرسمية يتمثل فى الحفاوة بكبار الرسميين الذين يقدمون لزيارة الفروع والمناطق إمّا للتفقد أو لافتتاح مرفق جديد. لا يكتفى المحتفون بكرم الضيافة، بل يعلنون ترحيبهم على مساحات كبيرة من صفحات الجرائد. ما ينفق على الذبائح وعلى الإعلانات يمكن توفيره لدعم الخدمات التى جاء الضيف يتفقدها أو يفتتحها، أو لأغراض أخرى تنفع البلده. المسؤول الزائر يقوم بواجبه ولا يلزم لذلك المبالغة في تكريمه كما لو كان يتفضل على البلدة بمنّة من عنده. والخوف كل الخوف هو أن يتصور المسؤول عن الفرع أن هذا التكريم شهادة رضا تغفر له ما تقدم من تقصير أو ما تأخر (إن كان مقصراً)، أو أن يظن الأهالى أنه بدون هذا الاحتفاء لن يتحقق المقابل الذى ينتظرونه، وهو تلبية مطالبهم.

خلاصة ما نخرج به من هذه النماذج القليلة، هي أن جميع الصور الاحتفالية المبالغ فيها ليس لها من معنى إلا الاعتقاد الواهم بأنها تُعْلي من قيمة الشيء المحتَفَل به- ومن ثم قيمة المحتفلين أنفسهم - كلما كانت فخمة أو صاخبة، فيتولّد من ذلك شعور خادع بالرضا عن النفس. والواقع أن الاحتفالات التى تخلو من هذه المبالغات تحقق الغرض المنشود، سواء كان فرحة عرس أو فرحة نجاح أو فائدة علمية أو ترحيباً بمسؤول زائر، دونما حاجة لإهدار الوقت والمال الكثير. لذلك فهي لا تعدو أن تكون نوعاً من (لزوم ما لا يلزم).

مقالات أخرى للكاتب