Saturday 14/06/2014 Issue 15234 السبت 16 شعبان 1435 العدد
14-06-2014

دلالةُ افتراقِ الأُمَّة

حديث افتراق الأمة إلى بضع وسبعين فرقة حديث ردَّه الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى، وقال: «إنه لا يصحَّ أصلاً من جهة الإسناد، وما كان هكذا فليس حجَّةً عند مَن يقول بخبر الواحد؛ فكيف مَن لا يقول به».

قال أبو عبدالرحمن: أبو محمد يأخذ بخبر الآحاد إذا اتصلَّ إسناده بالعدول، ولم يعارضه نص شرعي صحيح صريح يتعذَّر الجمعُ بينهما، ودافع عنه دفاعاً مُتأَلِّقاً.. والراجح عندي الآن صحَّتُه لغيره، وهي صحة اقتضت تواتره؛ فهو أقوى من حديث الآحاد المتصل بالعدول، وأرجو أن أتوصَّل إلى يقينٍ حول ثبوتِه؛ فقد تيسر لي تحقيقه بجمع مادته من الإنترنت من موقع الشيخ حاكم المطيري، وموقع شبكة الدفاع عن السنة، وموقع ملتقى أهل الحديث.. وهي بحوث مُسْتَوْعِبة بين أخذ ورد في تصحيح الحديث وتضعيفه؛ فلم يبق عليَّ إلا تنظيمُ طُرقِه، وتحقيقُ الاختلاف في المتون ولاسيما الزيادات، والرجوعُ إلى المصادر مباشرة مع ما يستجدُّ لي من مصادر.. وقبلهم محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه الذي أفرده لهذا الحديث بتحقيق سعد بن عبدالله السَّعدان الذي أثراه بالحواشي، وقد اعتمد الصنعاني على جامع الأصول لابن الأثير رحمه الله تعالى في تخريجه والحكم عليه، ثم أفاض بعض الإفاضة في تحقيقه دراية.. والحديث إذا صحَّ من أعلام النبوة في الإخبار بما سيقع.. واختلاف أمة محمد واقع مشهود، وعليه دلائل من الشرع كأحاديث غربة الإسلام، ووجود طائفة على الحق منصورة، وإيصاءِ الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بلزوم الجماعة ومجانبةِ الفِرق إن أدرك ذلك؛ وإنما الخطأُ في تكلُّف بعض العلماء إحصاءَ الفِرَق وَفْق هذا الحديث، والواقع أنه خبر عمَّا يتجدَّد من التفرُّق إلى آخر الزمان.. والظاهر لي الآن أن الحديث لا يشمل الكُفار من (أمة الدعوة)؛ فكل الثقلين حسبما ينبغي أن يكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رسول الله إليهم كافة، ولا يشمل ذلك من ارتَّد عن دينه، وأكثرهم ممن كفر بكل الأديان وأصبح لا دين له، ولعله يشمل من ادَّعى الإسلام وتديَّن لله بالأكاذيب، واستبدل حقائق الإسلام بالخرافات عن عَمْد، وكان حرباً على دُوَلِ الإسلام؛ وإنما هو في (أمة الإجابة) الذين ضَلَّ علماؤهم ببدعة أو فسق أو كفر بتأويل القطعي من نصوص الشرع، ويشمل ذلك العوام الذين اتبعوهم بجهل.. ويجب أن لا يُفْهم هذا الحديث وحده، بل يُضَمُّ إليه النصوص الأخرى؛ لأن نصوص الشرع ليس بعضها أولى بالطاعة من بعض؛ فمن في قلبه ذرة من إيمان لا يخلد في النار، والله سبحانه وتعالى يُعذِّب من شاء من عصاة المؤمنين ويغفر لمن شاء، والوعيد هنا بالنار لا بالخلود فيها، ويُخَلَّقطعاً من عُلِمَ أن باطنه الكفر، وقد يَعذر عبده في تأويله أو جهله فيما يسع فيه الجهل، وقد يُعذِّبه لتقصيره في البحث والطلب.. ومطمع المؤمن حقيقةً أن يدخل الجنَّة بدءاً، وأن يجتهد في الدعاء وفي البحث، وأن يجتهد العامي في سؤال أهل الذكر المعروفين باتباع نصوص الشرع ذوي العلم به رواية ودراية، ولا يتَّكل على علماء الضلال كبعض مشايخ الباطنية والطرق الصوفية الذين ليس عندهم إلا الحكايات والمنامات وما لا زمام له ولا خطام من نصوص ينسبونها إلى الشرع، والأحاديث المسندة وهي موضوعة أو ضعيفة تُعارض القطعي، وهكذا تأويلات نصوص الشرع بما لا يصح في لغة العرب.. والعامي تقوم عليه الحجة إذا بُيِّن له من القرآنِ النصوصُ القطعية كتحريم دعاء غير الله، وأن الردَّ إلى الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. وإذا بُيِّن له أن خيار الأمة الصحابة رضي الله عنهم، وأن ما حدث باسم العبادة كالرقص الصوفي الذي يسمونه ذكراً إنما هو بدعة، وأن الله لا يُعْبد إلا بما شرع.. ويأثم علماء الأمصار في تقصيرهم في الدعوة، وتعليمِ العامة، وكشف تضليل علماء السوء الذين يُلَبِّسون على المسلمين دينهم، ويكتمونهم النصوص الصحيحة الصريحة، ويُغْرونهم بالحكايات والمنامات والأشعار على سبيل التعبِّدِ والكرامات الكاذبة لمن ليسوا أولياء.. وتغييرُ المنكر يبدأ بالدعوة بالتي هي أحسن مع الصبر على الأذى، وما عدا ذلك فهو حَسَبُ القُدْرة بعد المعادلة بين المصالح والمفاسد.. وذكر الصنعاني عن ابن الوزير نقلاً من إحدى رسائل الإمام ابن حزم رحمهم الله تعالى أنه قال عن زيادة (كلها هالكة إلا فرقة): «موضوعه؛ وإنما الحديث المعروف: (إنها تفترق إلى نيِّف وسبعين فرقة) لا زيادة.. هذا في نقل الثقات، ومن زاد على ما نقلَ الثقات في الحديث المشهور كان عند المحدِّثين مُعَلّاْ ًما زاده غيرَ [الصواب رفع (معلاً)؛ لأن خبرَ إنِّ الجملةُ.. أي: كان هو مُعَلٌّ ما زاده]، و(غير) بعدها تابعة لمعلٌّ في الرفع] صحيح وإن كان الراوي ثقة.. غير أن مخالفة الثقات فيما شاركوه في حديثَه يُقوِّي الظن على أنه وهم فيما زاده، أو أدرجَ في الحديث كلام بعض الرواة وحَسِبَه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فَيُعِلُّون الحديث بهذا وإن لم يكن مقدوحاً فيه.. على أن أصل الحديث الذي حكموا بصحته ليس مما اتفقوا على صحته، وقد تجنَّبه البخاري ومسلم مع شهرته؛ لعدم اجتماع شرائطهما فيه».. انتهى كلمه، وانظر حديث افتراق الأمة ص95 - 99/ دار العاصمة بالرياض عام 1415هـ.

قال أبو عبد الرحمن: لست متفرغاً لهذه المسألة، وزيادة الثقة عند أبي محمد حجة، ولكنَّ قولَ الصنعانيِّ: (غير أن مخالفة الثقة) يدل على أنه يريد زيادةَ مخالفةٍ لما رواه الثقات، ولا يريد زيادة فائدةٍ، وههنا زيادة ثقة، لا مُخالفة ثقات.. وأبو محمد فاته كتبٌ حديثية من تأليف أهل المشرقَ، وبعضهم معاصرون له أقلُّ سِنّْاً منه، ولكنْ عنده من كتبُ المسانيد والسنن والتفاسير ذات الأحاديث المسندة ككتب بقي بن مخلد والخشني وابن عبدالسلام وابن وضاح، ولا يَعرف منها المشارقُة إلا ما رواه ابن حزم وابن عبدالبر وبعض المحدِّثين من أهل المغرب والأندلس.. وله نفائس من الكتب غُسِلت وأُحرقت، ولا يُعرف منها إلا ما نقله تلاميذه من شذرات.. وله كتبٌ فقدت بعد حياته كالخصال، والجمع بين النصوص.. والإيصال الذي هو شرح الخصال، وهو أكبر كتبه؛ فقد ذكر ابن خليل العبدري أن الإيصال عزيزُ الوجود في عصره، وابن خليل من أهل القرن الثامن الهجري؛ وهذا النص لم أجده فيما وصل إليَّ من كتبه في هذه المسألة غيرَ قوله الذي مَرَّ، والحديث ليس خبرَ واحدٍ كما قال أبو محمد.. وأورد في الصادع بتحقيق أبو عبيدة مشهور قوله ص626 - 627 برقم 361.. الدار الأثرية بعمَّان الأردن/ طبعتهم الأولى عام 1429هـ: «ثنا أحمد بن قاسم: ثنا أبيْ (القاسمُ بن محمد): ثنا جدِّي قاسم بن أصْبَغ: ثنا محمد بن إسماعيل التِّرمذي: ثنا نُعيم بن حمَّاد: ثنا عبدالله بن المبارك: ثنا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعيّ: عن حَريز بن عثمان: عن عبدالرحمن بن جُبير بن نُفَير: عن أبيه: عن عَوف بن مالكٍ الأشجَعيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تَفْترِق أُمَّتي على بضعٍ وسبعين فِرْقةً أعظمُها فتنةً على أُمَّتي قومٌ يَقيسُون الأُمورَ برأيهم؛ فيُحلُّون الحرامَ، ويحرِّمون الحلالَ».. وهذا الحديث خارجٌ عن موضوع التفرق ما فوق سبعين فرقة، ونقَل بعض مُحقِّقي تلك الكتب نصّْاً لابن الوزير، ولم أجده؛ وأورد ابن حزم الحديث في المحلى 1/62/ ط المنيرية، و11/103 -، وهذا الجزءُ مِن تكملة أبي رافعٍ بن أبي محمد ابن حزم كتابَ المحلى من الإيصال حَسَبَ وصيةِ أبيه العامة.. أورده على الاختصار، وفي الإحكام 8/25/ دار الآفاق في بيروت/ طبعتهم الثانية عام 1403هـ؛ وإنما وجدتُ قوله في العواصم من القواصم 1/186/ مؤسسة الرسالة بتحقيق شعيب الأرنؤوط/ طبعتهم الثانية عام 1412هـ: «وإياك والاغترارَ بـ(كلهاهالكة إلا واحدة)؛ فإنها زيادة فاسدة غير صحيحة لا يؤمن أن تكون من دسيسة الملاحدة، وعن ابن حزم أنها موضوعة غير موقوفة ولا مرفوعة».. وردَّ على ابن الوزير تعريضاً صالحُ بن المهدي المَقْبَلي في العَلَمِ الشامخ ص512 - 513/ مكتبة دار البيان.

قال أبو عبدالرحمن: خلاصة القول: إن الحديث صحيح المعنى؛ لأن افتراق الأمة واقع مشهود، وأن الحديثَ سنداً صحيح فيما يظهر لي الآن لغيره، ولمعناه شواهد صحيحة، وقد صححه في نفسه عدد من العلماء.. وأنَّ إحصاء التَّفرُّقِ بعدد معين، وتصنيفَ الكتب على عدد معين على أن الافتراق حصل منهم في الماضي بهذا العدد غير صحيح؛ لأن التفرق لا يزال، فقد استجدَّت ظاهرة الإرهاب بأعمالٍ ومقاصدَ حرَّمها الله تستبيح قتل النفوس البريئة، وتستبيح دَمَ المعاهَد؛ فهذا خَفْرٌ لذمَّة اللهِ، واستعداءٌ للأمم القوية على أَرْواح المُسلمين الضعفاء عسكرياً.. واستجدت ظواهر تجرح صفاء العقيدة كقبول بعض مجمل العلمانية، والإيمان بالمساواة بين الرجل والمرأة بإهمال التكافؤ وإيجاب التفريق؛ لأن عدم التفريق يُخلُّ بسلوك الُأمَّة على ما يُرضي الله.. وهكذا الإيمان بمشروعية الحرية بإطلاق - وهذا مِصداقُ الحديث الصحيح الآخر: (لَتَتَّبعُنَّ سنن من كان قبلكم) -؛ وإنما المشروع الحريَّة لِما هو مشروع، والأصل أن الإنسان عبد لربه عبودية تشريف في وجوب طاعته شرعَ ربه الذي جعل أداءه حَسْبَ ما يملك الإنسان من قدرةٍ واختيار، وهو عبد لربه على رَغْمَهِ في قضاء الله الكوني كالصحة والموت، وهو يُثاب شرعاً عـلى الرضى والصبر والاستغفارِ والشكر على ما هـو أبلـغ من نِعَمِ الله التي لا تُحصى، ويمنحه ربُّه السعادة وراحة البال في دنياه.. ونصُّ الحديث بصيغة المستقبل، وهو قوله: (تَفْترِق)؛ فالافتراق سيحصل مُسْتْقبلاً على هذا العدد المعيَّن، والوعيد بدخول النار لا الخلود فيها.. وأما من عارض هذا الحديث بأحاديثِ أن أمة محمد أكثرُ سواد أهل الجنة، وأن أمة محمد مرحومة: فلمَ يُذقْ حلاوة الجمع بين النصوص، وسياستها عن علمٍ وفكر؛ لأن هذا الحديث لا يعني أن الأكثرية من أمة محمد هالكون؛ لأن الفِرق المذكورة ليست هي الأكثرية، بل هم مغمورون قِلَّة في كل عصر ومصر في الثُّقوب والزوايا والعتمات؛ وإنما يكون لإحدى الفرق صولة وجولة ودولة بعض الأحيان، ولا تطول صولتهم، ومع هذا يكونون هم القلة.. وأما كثرة الضلال آخر الزمان فليس جمهوره أمَّة الإجابة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو كفر بواح يحصل من أمة الدعوة.. والفِرق على قِلَّتها في سواد المسلمين مغمورة في قرون عِزَّة المسلمين من جهةِ العَدد إلى نهاية القرن الرابع، ثم بكثرة السواد من المسلمين في قرون السلطة الواحدة،في قرون كثيرٍ من دويلات المسلمين الجزئية المباركة، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب