Tuesday 24/06/2014 Issue 15244 الثلاثاء 26 شعبان 1435 العدد
24-06-2014

تَقْمِيشاتٌ من السِّيرةِ الذَّاتية..! 10

قدري المُحْرج أنني من جيل يتهجى حاضره. فكم هو الفرق بين جيل يتمتع بإنسانيته، ويتوسل بإمكانياتها: الذهنية والجسمية لقضاء حاجاته كلها، وجيلٍ تَقُولُ له التقنية الحديثة:-

[… فاقْعُد فإنَّك أنت الطَّاعمُ الكاسي]؟.

أنا لا أغبط الجيلَ المُعَطَّل، الجيلَ الذي تَحَوَّل إلى إنسان آلي. عندما ينقطع التيار الكهربائي، أو ينقطع الاتصال، يُحِسُّ بأنه كومة من الأشْيَاء الهامدة.

جيلنا يستغل كل طاقاته التي استودعها الله فيه. يحرث بيده، ويزرع بيده، ويسقي على النواضح، ويمتح الماء بكلتا يديه، وإذا استوت الثمار على سوقها قطفها بيده، وأكلها طازجة، لأنه لا يملك وسائل الحفظ.

والمرأة في بيتها، وفي مزرعتها، وفي مرعاها، تحصد، وتطحن، وتحتطب، وتخبز، وتبقى كـ[أم زرع] لـ[أبي زرع]. فالرجل والمرأة يُعايشان كلَّ شيء، على حد سواء، من البداية إلى النهاية.

صحيح أنّ في ذلك مشقة، وإبطاء، ولكنه إبطاء المدل المنعم. والأناسي من جيل الآباء، وبدايات جيلنا أمام هذه المسؤوليات، يظلون متحفزين بكل طاقاتهم، وإمكانياتهم، لا يعتريهم خمول، ولا تنتابهم اتكالية، ولا يقعد بهم كسل.

الواحد منهم لا يأكل حتى يجوع، وإذا أكل لا يشبع، يجد اللذة في قليل المأكل، وكدر الماء، وخشن الفراش؟؟. يستمد من الشمس دفئها، ومن الرياح قَرَّها، وحرها. يغرس قدمه الحافي في الرمل، ويُعَفِّر جبهته، وأنفه في التراب تعظيماً لخالقه.

ولأنه من الأرض وإليها، فهو متصل بها، لا يحجبه عنها حاجب. يرى النجوم ساطعة في العشيات، والقمر مشرقاً في الليالي المقمرة، والأشجار وارفة الظلال، والرِّياضَ مزهرة، وكلها لم يتحرف لإنشائها إنس ولا جان. تختلف ألوانها، وأشكالها، وروائحها، وكل شيء بين يدي جيلنا على الفطرة.

أما اليوم فكل شيء مصنوع، الحدائق، والطرق، والتكييف، والماء، وكافة الوسائل. فالصناعات التي زيفت الحياة، وماثَلَتْ كل شيء، فَصَلَت الإنسان عن فطرته التي فطره الله عليها، وعطلت فكره، وشلَّت مهاراته، وأتت له بما يريد، حتى لقد أصبحت كعفريت سليمان، الذي عنده علم من الكتاب، يُحضر لجيل اليوم ما يريده، قبل أن يرتد إليه طرفه.

هذا الجيل فَصَلَته التقنية الحديثة عن جيلنا، وشق علينا اللحاق به، أو التعامل معه، وعشنا معه في حرج، لا نريد إبداء عجزنا عن مسايرته، وليس بإمكاننا التوفر على القابلية لهذه التقنية الدقيقة، التي أتقن استخدامها، ولم يحسن استثمارها، ولم يتوفر على صناعتها، فكان بهذا الاستهلاك غير السوي مرتهناً لنوال الآخر، المغاير له في شأنه كله، والمحاكي له في دقه وجله.

هذه المدنية الآلية التي سُمّيت حضارة من باب التفاؤل، لوَّثَت البيئة، وعطلت المهارات، ووأدت المواهب. ولما كانت البيئة: حسيَّة ومعنوية، كانت الصناعات، ونفاياتها، وأبخرتها تلوث الأرض، والفضاء. وكانت التقنية الدقيقة، وثورة الاتصال تزود الإنسان بالأخبار والصور، حتى لا يَخفَى عليه حَدَثٌ، ولا يتوارى عنه جَسَدٌ، ولا تند عنه حركة، ولما تَقَعَّرَتْ رؤيته للواقع، تعطلت عنده لغة الكلام، فكان السمع والبصر، وخَمُلَ ما سواهما.

لا أحد ينكر أزلية الصراع بين الأجيال المتعاقبة، وهو صراع لا يُجْدي الطرفين. فالجيل الذي ورث من سَلَفَه الحياة الهادئة الوديعة بأرضها العذراء، وسمائها الصافية، وهوائها النقي، يَمْضِي ليُوَرِّث لخلفه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت. وهكذا الدنيا، أجيالٌ تأكل بعضها. والحياة في جزر ومد، سلفنا يَرْوي لنا ويلات الجوع، والخوف، والجهل، والمرض. ونحن نروي لأجيالنا شظف العيش، وضعف الوسائل، وشح الموارد، وصعوبة الكسب، وبدائية الأشياء.

وماذا سَيَرْويِ خَلَفُنا لمن بعدهم؟ أيكون خلف الخلف في وضع كَمُلك سليمان؟ وتكون هذه الحياة المذهلة لنا بدائية عندهم، بمستوى السيف والرمح الرديني.

ومن ذا الذي يستبعد الغرائب؟ وفوق كل ذي علم عليم: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.

ليس مهماً أن نظل في إطار التوقعات، كل الذي يجب على إنسان هذا العصر أن يهيمن على وسائله، وأن يستغلها بأسلوب حضاري، وأن يأتي بما لم تستطعه الأوائل، وأن يصنع فوق ما صنعوا. ثم:-

- هل نقطع بأنّ جيل النفط جيلٌ خائب، لأنه مَعُولٌ لا عائل، ومستهلك لا مستثمر؟

- وهل نُحَمِّل كنوز الأرض التي أمدَّ الله بها من شاء من عباده مَسْؤولية الترف المذموم، الذي عَطَّل القدرات، وشل الحركات؟

لابد أن نحدد المسؤول عن الخمول، وأن نَحُول بين عزماتنا والتردد.

هذه الثروة الباذخة التي تغمرنا دون عناء، عَطَّلت فينا العزمات، وأغرت بنا من لا يخاف عاقبة، ولا يرحم طريدة. نقف مذهولين لحظة مشاهدتنا لضحايا الجفاف، والمجاعات، والعنف، وانفلات الأمن، حتى إذا ذهب الصوت، واختفت الصورة، ابتلعتنا الملذات، واستعبدتنا الشهوات، وأنسانا الفرح ماهو مُحْدق بنا، والله لا يحب الفرحين. وتلك الظواهر تدفع باللاهين إلى الحِمى، ومن حام حولها يوشك أن يقع فيها.

لقد عَجِزتْ المنابر التي تضخ آلاف الخطب في الجُمَع، كل أسبوع أن تحرك شعرة في مفرق ذلك الجيل المترف، فيما استطاعت قالة السوء، وفحيح الأفاعي، أن تزج بشبابنا في أتون الفتن، وأن تُحييّ عندهم النعرات القبليّة، والتعصب المذهبي، والتكفير في زمن التفكير، والغلو، والتطرف، والأخذ بالرأي، ونفي النص، والتمرّد على المرجعية الدينية، والتفلّت على السلطة الشرعية: دينيّة كانت، أو سياسيّة، أو مجتمعيّة.

لم يكن جيلي على شيء من تلك الأخلاقيات، إذ لم يكن لدى أحد منا فراغ يملؤه الوسواس الخنّاس. فكل ساعة من ليل، أو نهار لا تفي بمتطلّباتنا. فعيشنا من كسبنا، وطاقاتنا ليست في باطن الأرض، ولكنها في أيدينا، وسواعدنا. نسير في مناكب الأرض، ونأكل من رزق الله الذي أودعه لنا، بذرة تنشق عنها الصحراء، بعد أن نبذل الجهد من أجل استثمارها.

فأين جيل اليوم من هذا الكدح المتواصل؟:

[إن الشبابَ والفراغَ والجِدة

مَفْسَدةٌ للمرءِ أي مَفْسَدة]

لا قيمة لمالٍ يَسْعى إليك، ولا لِكساء يُنَسَجُ لك، ولا لطعام يقدم بين يديك:-

[فَامْنَعْ نَوَالك عن أخيك مُكَرَّماً

فاللَّيْثُ ليَس يَسِيْغُ إلا ما افترس]

ورضي الله عن الصحابي الجليل [عبدالرحمن بن عوف] الذي قال للأنصاري الذي آخا بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:- {بَاركَ اللهُ لك في مَالِكَ وأهْلِك، دُلُّونِي على السوق} فكان من أغنياء الصحابة ومحسنيهم.

- فأين جيل النفط المسترخي الاتكالي الفضولي من هذه الأسوة الحسنة؟

لو رحت تسأل هذا الجبل عمن يخدمه في بيته، وسوقه، ومصنعه، ومزرعته، ويرعى إبله، وغنمه، ويحرث أرضه، ويطبخ طعامه، ويحلق رأسه، ويدرب لاعبه، ويُحَكِّمُ مباراته، ويصنع سلاحه، ووسائل راحته، ويبني داره، ويدير شأنه كله. لقال: هاه، هاه. وهو يدري أنه الطاعم الكاسي.

فتباً لحياة تقوم على جهد الأجنبي، وصناعة الأجنبي، حَياةٍ مترفة تفيض بالحشف، والغثائية، وسوء الكيل، وتفقد العصامية، وتفيض بالعظامية:-

[ولو لَمْ يَعْلُ إلاَّ ذو مَحَلٍّ

تَعالى الجَيْشُ وانْحَطَّ القَتامُ].

ما أكتبه، وأتأوّه منه، لا يُحْسب على صراع الأجيال الأزلي. إنه اعتراف مُرٌّ بالواقع.

لقد جَمَعْنا في طفولتنا، وشبابنا المبكر بين الدراسة، والعمل. ننام مبكرين، ونستيقظ مبكرين، ننظر تفتح الأزهار، ونسمع صدح الطيور، ولا نجد حرجاً من ركوب الحمير، وحمل الأشياء على رؤوسنا، والاحتطاب، وجني الثمار.

فهل يستطيع أحد من جيل النفط التخلي عن سيئ العادات، فضلاً عن سيئ الأخلاق؟.

السؤال المرعب:

- أرأيتم إن أصبح نفطكم غوراً؟

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب