Saturday 26/07/2014 Issue 15276 السبت 28 رمضان 1435 العدد
26-07-2014

(وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) (3 - 3)

قال أبوعبدالرحمن: وعدت في السبتيَّة الماضية بمزيد تفصيلٍ من نصوص شرعيَّة معصومة مُطهَّرَة عن هداية الإعانة والتوفيق؛ فابدأ ههنا بمثل قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ، يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) (27) سورة إبراهيم (24-27)، وإنك لتجد في هذه السورة - سورة إبراهيم - العَجَبَ العُجابَ من نصوصٍ تُلامس القلب، وتجرُّ المكلَّفين بالسلاسل؛ لينالوا رضا ربهم ونعيمه؛ فلا يضِلُّ ولا يهلك إلا مَن أبى، فأول السورة إحالةٌ إلى تأمُّل كتاب الله الذي أنزله وحَمَّل بلاغَه رُسولَهليخرجهم من الظلمات إلى النور؛ وذلك بإذن ربهم بقضائه الكوني، والله يأذن للقلوب بالإيمان بالأسباب من الدعاء؛ ولهذا موضوع خاص فيه بسط التحقيق والتدقيق في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ) (100) سورة يونس، أعِدُ به مُسْتَقبَلاً إن شاء الله تعالى، وبَيَّن ربُّنا الخطرَ في تغييب المكلَّفِ ما عَلِمه من الحق مع الحيدة بتأويله على مقتضى هواه وعناده؛ وذلك بالإيماء إلى الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً مع أن كل رسول بلغ شرع ربه بلسان قومه؛ ليبين لهم، ثم يعود السياقُ على تَعداد نِعَمِ الله على عباده مما هو من إدراك العقول فيما تُشاهِده من آيات الله في الأنفس والآفاق، وما تشاهده مُشاهَدَةَ معرفةٍ مباشرة كمشاهدة بني إسرائيل نعمة الله عليهم في إهلاك أعداء الله آلِ فرعون، وبما علموه بالتواتر عن قوم نوح وعاد وثمود.. إلخ؛ فلم يأذن الله لقلوب كثيرٍ منهم بالإيمان؛ لأنهم غيَّبوا العلم الضروري، ولجأوا إلى العناد، وادَّعوا الشك فيما لا يحتمل الشك كما قال تعالى في نفس السياق: (فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) سورة إبراهيم (9-10).. والسلطان المُبين من عند الله، وإنما الرسل عليهم سلامُ الله وبركاته يُبَلِّغُونه تذكيراً، ولا أبلغ مما جاءهم من مشاهدتهم المباشرة ومن التواتر مما لا احتمال فيه للشك.. والسياق يُذَكِّرهم ولا يُعَلِّمهم شرعاً ما علَّمهم إياه بقضائه الكوني؛ لأن الله جعل قضاءه الكوني شاهداً لقضائه الشرعي، أصلاً في تَلَقِّي الفهم، حجةً على مَن كفر بشرعه؛ فَمِمَّا ذكَّرهم الله به مما هو موجود في تجربتهم النفسية شُكْرُ النعمة قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) سورة إبراهيم (7-8)، ثم تتابعَ السياق عما هو في مُشاهدَة المكلفين المُخاطبين، وهو بالنسبة لِمَنْ بعدهم لُزُومٌ علقيٌّ بالضرورة؛ لأن آثاره مشهودة، وأخباره متواترة؛ وذلك عن إهلاك الله الكافرين بما رآه المُخاطبون رأي العين، وبِسُكْناهم في منازلهم؛ فهذا حصل لهم بالممارسة والمشاهدة؛ ثم يأتي بعد ذلك ضرب المثل بالشجرتين اللتين صَدَّرتُ بهما، وخلال كلِّ سياق إخبارٌ بالعُقْبى يوم القيامة في أثناء سَرْدِ حُجَّةِ الله على عباده بما هو من ضرورات إدراك العقل بلا أدنى احتمال؛ وذلك هو ما بَثَّهُ الله في الآفاق والأنفس مما لا احتمالَ في نفيه إلا بالعنادِ في الدعوى بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ منير كما في قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) سورة إبراهيم 19 - 20).. ومثل ذلك التذكير بنعم الله مما هو مشاهَدةٌ مُباشِرة، أو تذكيرٌ بما يتلقاه العقل بضرورات لا احتمالَ فيها من براهين الله المبثوثة في الآفاق والأنفس كما في الآيات 32-34، وبث خلال ذلك أسبابَ إذن الله بإيمان القلب من الاعتصام بالله؛ وذلك بالتضرُّع إليه دعاءً واستغفاراً كما في الآيات 12 و 35-41.. وتكرَّر في السياق التحذير من إحباط العمل كقوله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِييَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ) (18) سورة إبراهيم؛ ففي هذه الآية الكريمة أن العمل الصالحَ يَحْبَطُ مع الكفر، وحبوطه ضياعُه مثلُ رمادٍ عصفت به العاصفة فلا يستطيع رَدَّه وتجميعه؛ وهذا شاهد لما روي أن رسول اللهسُئل عن كرم عبدالله بن جدعان وجفنته وأعماله الخيِّرة هل تنفعه يوم القيامة ؟.. فقال عليه الصلاة والسلام: (لا.. إنه لم يقل يوماً: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، ثم ضرب الله المثل بالشجرتين عن إحباط العمل الصالح وعن إثباته ومضاعفتِه.. ويأتي خلال ذلك التحذير من علم الله المحيط بما في الأنفس والآفاق؛ فلا مجال لِمُخادعة الله كما في دعاء أبينا إبراهيم عليه السلام: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) (38) سورة إبراهيم، وقوله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) (42) سورة إبراهيم، ثم يأتي إجمالُ ما مضى تفصيله بقوله تعالى: (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) (45) سورة إبراهيم، والثمرةُ بعد ذلك تثبيتُ الإيمان بالعلم الأكبر الأجلِّ في ختام السورة؛ وذلك قوله تعالى: (هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (52) سورة إبراهيم؛ فهذه الآية الكريمة كما أسلفت عن الثمرة الكبرى من سياق سورة التوبة، وهو تجديد الإيمان بوحدانية الله سبحانه في جميع أسمائه وفي جميع صفاته التي هي اسم له جل جلاله لا يَسْتَحِقُّهُ على الوحدانية والكمال المطلق والتنزُّه المطلق غيرُه من القدرة والخلق والحكمة والعلم والرحمة والعدل، وما عند البشر منحة من الله محدودة الأجل محدودة الفاعلية.. وأما ضَرْبُ الله المثل لعباده بالشجرتين هداية وأجراً مضاعفاً، وضلالاً وعقوبة فقد ختمه الله بقوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) (27) سورة إبراهيم، وفي هذا وعدٌمحقَّقٌ ولابد؛ لأن الله لا يخلف وعده، وهو تثبيت الله المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة؛ فهذا التثبيت هو نتيجة الإيمان بالله، وهو هداية التوفيق والإعانة بعينها.. وفي الآية إضلال الله الظالمين، والظلم هنا الكفر بالله؛ فهذا وعيد محقَّق؛ لأن الله حرم الجنة على الكافرين، ولكنَّ ربنا علَّقه بالمشيئة، وهو أن لا يلقى الكافرُ ربه على الكفر، ويتوب في دنيا، ويتضرَّع إلى ربه بالخوف والرجاء بأدعية الإذن بالهداية.. والمحقَّق عندي أن هذا وإن كان سبق في علم الله أنه من أهل النار فإن الله يفعل ما يشاء ويهدي من يشاء؛ لأنه فعال لما يريد، وأن الله يحقِّق وعده عدلاً منه، ويخلف وعيده رحمة وعدلاً؛ لأنه سبق في علمه جلَّ جلاله أنه يفعل ما يشاء لا رادَّ لفضله رحمةً وعدلاً؛ ولأن المُكلَّف قد يتخلَّصَ بإسلامه لا بإيمانه من عقوبة ولاة الأمر المؤمنين، ولكنَّ صحة الإيمان في علم الله برحمته؛ ولهذا حذَّرهم بعلمه، وأنه غير غائب عنهم طرفة عين؛ فلا حيلة لهم في التخلُّص من نِفاقهم.. ولهذا بقية سأبسطها بالتحقيق والتدقيق في مناسبة أخرى إن شاء الله إن جعل الله في العمر فسحة بتناول الآيات التي فيها (لعل)، و(عسى) ونتائجها من الفلاح والرحمة.. إلخ، وإلى لقاء والله المستعان وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب