Tuesday 29/07/2014 Issue 15279 الثلاثاء 02 شوال 1435 العدد
29-07-2014

الْهُوِيَّةُ القَاتِلة 1-2

عنوان هذا المقال من باب [التَّناص] وهو مصطلح ينداح في مشاهدنا الأدبية اندياح دائرة في اليم يُلْقى فيه بالحجر. ونظيره في الإرث العربي [الاقتباس]، و[التضمين].

إنه عنوان كتاب غاية في الأهمية، رغم تناقضه مع نسقنا الثقافي، ألفه [أمين المعلوف] وهو نصراني متعلمن، ومجرب مُحنَّك، وساعٍ إلى الوفاق بكل ما يحمله من وثائق،

ومدرك لكارثية صراع الهوية، في راهن الأمة العربية، ولهذا وصفها بالقاتلة.

وجدت هذا الكتاب ملقى بين مجموعة كتب مهلهلة مبعثرة، في إحدى المكتبات التي تبيع الكتب المستعملة، فاشتريته بثمن بخس. وقلت في نفسي: ما أضيع أمة تُعْلي من شأن التوافه، وتحقر الفكر، وخلاصات التجارب.

هذا الكتاب، عالج فيه مؤلفه جانباً مما سلف من حراك الهوية، الذي يعيد نفسه بإلحاح، ليكون الكتاب شاهداً على العصر. وهكذا تكون الأفكار الإنسانية، التي لا تختزلها الطائفيات، ولا العرقيات، ولا الإقليميات. وما أحوج أمتنا إلى مثل هذه المحصلات الفكرية، المشبعة بالتجارب، وإن تناقضت مع مسلماتها، فليس شرط التواصل التمثل.

لا أريد الانسلاخ من الهوية، ولا المزايدة على ثوابت الدين، ومسلمات الأمة، ولكنني أريد بهذه الإشارة أن نكون بمستوى شمولية الإسلام، وعالميته، ورحمته. على حد:- [كل كبدٍ رطبةٍ فيها أجر].

والكتاب الذي عشقت عنوانه، واتخذته عنواناً لمقالي جدير بالقراءة، والتأمل، لا من أجل التسليم لمقتضياته، وتبني أفكاره، ومستخلصاته، ولكن للتعرف على صراع الهوية من أصوات متعددة الانتماءات والمشارب، والوقوف على أساليب المواجهة، وتفادي أي تصرف يؤدي إلى فقدها، أو فقد السمة المحققة لها. إذ ما أكثر مدعي الانتماء إلى الإسلام الذين أضاعوه، وأضاعوا أنفسهم:- {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.

لقد كان انتماؤهم صارماً، وعنيفاً، وليس إنسانياً. حتى لقد أحرق المتطرفون هويتهم بأيديهم، ولم يتمكنوا من تشكيل الهوية التي يحلمون بها.

الهوية مطلب فطري إنساني، ومكتسب عفوي، لا مشاحة في ذلك، ومن حق المنتمي المحافظة عليها، والعمل على حضورها في مشاهد الانتماء. شريطة ألا تكون عنصرية، ولا نفعية ذاتية [براجماتية] تبرر بغاياتها وسائلها.

ومن ثم لابد من السماع من الآخر، وإسماعه، وعدم المساس بحقه المشروع، تمشياً مع:- {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}.

ولا يمكن أن تكون الهوية سليمةً، ومعقولةً حتى تُراعَى مُحَدِّداتها الفكرية، المتسمة بالتوازن، والإنصاف، والاعتراف بحق الآخر.

والذين لا يستحضرون خطورتها، وأهميتها، لا يدركون حجمها، ولا يستوعبون أثرها في الفناء، أو البقاء الإنساني.

ولكي نستبين شطراً من خطورتها، فإن علينا أن ننظر إلى الوضع العربي، وأن نقعر الروية في مصائر تتجرع الأمة العربية مراراتها.

فالطائفية، والعرقية، والإقليمية هي محاور الصراع في الوطن العربي. وحين نتجاوز صراع الهوية مع المعتدين على سيادتها، نجد أنفسنا ملزمة بتقويم الموقف حول الصراع بين أطياف الهوية الواحدة.

ليس مهماً أن يكون صراع الهوية عبر المنتديات الفكرية، والثقافية، ومنابر الصحافة، وأروقة الجامعات، ومواقع التواصل شريطة ألاَّ يتجاوز الصراع القول إلى التصدع، أو الصدام. الخطورة تكمن في تصفية الأجساد، وتلويث السمعة، والتحول من الانضباط إلى الفوضى.

والهوية ليست سمة سلوكية وحسب، بل هي إلى جانب ذلك بنية تحتية متفاعلة، تتسم بالترابط، والثبوت، والقناعة. ثم هي ليست وثيقة للمراجعة، ولكنها منجز يرفض الاندماج في الآخر، ويفضل الانغلاق على السمة الجمعية.إنها انتماء يتمظهر بوطن محدد: أرضاً، وتاريخاً، وعنصراً، وفئة، وعقيدة. إنها مجموعة سمات حسية، أو معنوية محددة. ولكي تكون هوية إيجابية، فإنه لابد من الانضباط الصارم، والنظام الفاعل، والاعتدال في التعامل مع الآخر.

والهوية تَضْمُر، وتَتَّسع حسب وعي الأمة. تكون أممية، وتكون فئوية، وكلما وجد الإنسان نفسه متماهية مع فئة، قبل تقزيم ذاته، واندماجها، ليسعد ببواعثها التطمينية.

وسرعة التحولات في الهوية مرتبطة بقبول القيمة، والمعيارية فيها. والهوية تختل عندما تصاب بكارثة النزاعات الفكرية، أو السياسة، أو الدينية، أو غيرها داخل المنظومة الواحدة. وأي تناقض جمعي، أو دولي يذكي حدتها.

وهي حتمية، أي لا مناص من قيامها في كل تجمع بشري. ومن المستحيل أن تكون عدمية، بمعنى ألاّ توجد هوية ذات سمات. قد تتجلى العدمية عند بعض المفكرين الملحدين، ولكنها لا تلبث أن تكون إرثاً وثائقياً. نجد ذلك عند [سارتر] و[عبدالله القصيمي] في جزء من الهوية، وهو الجزء [اللاهوتي].

أما من حيث عنصر التشكل، فإن التاريخ وحده الذي يشكلها، ويحدد معالمها، لأنها عبارة عن تراكمات كسبية، يتشبع بها الإنسان. إنها مجموعة من السمات المتأصلة بالتدريج.

والهويات قد تكون قوية، وفعالة، وابتكارية، ومزدهرة وأصيلة، ومتفاعلة، ومتصالحة. وقد تكون عنيفة، منغلقة، متعالية، جمودية ماضوية شكوكية. وصدق الانتماء لا يكفي للتّوفر على هوية مشروعة.

ونحن هنا لا ننظر إلى الهوية الذاتية من حيث محددات الشخص أمام السلطة التشريعية، أو القضائية، إذ هناك هوية شخصية، وهوية أممية، والأخيرة هي المقصودة.

و[المعلوف] وهو يعالج إشكاليات الهوية يقرر من دون مواربة أنه لا يحلم [بعالم لا مكان فيه للدين] وحلمه ينحصر في [عالم تنفصل فيه الحاجة إلى الروحانية عن الحاجة إلى الانتماء] وهو بهذا يتمثل النزوع العلماني.

ونحن نمضي معه إلى حد يحكمه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم:- {أنتم أدرى بأمور دنياكم}. وعلمانية [المعلوف] شمولية، وليست محددة، وذلك حين يقول:- [ولا يكفي فصل الدين عن الدولة، بل يجب كذلك فصل الديني عن الانتمائي]. وهو لكي يحسم التطرف، والإرهاب، والحروب، أوجب العمل على إيجاد هوية بصورة أخرى. كما يمضى في توسيع مثالبها، حين يرى أن تضخيم الذات، ومنازعة الآخر من مُصْمياتها، وذلك حين يقول:- [فقد تَوَجَّبَ على أبناء هذه الشعوب الاعتراف بأن مهاراتهم قد تقادمت، وأن كل ما ينتجونه، لا يساوي شيئاً بالمقارنة مع ما ينتجه الغرب].

ويصف هذا الصنف من المتعالين بالخيبة، والإحباط، والإهانة، وأن شخصيتهم مجروجة في الصميم. ولا سيما أنهم يعيشون في عالم يملكه الآخرون.

وتطلعه إلى عالم هويته تقبل الحداثة، وترفض التقهقر. وعِلْمانِيَّته الشاملة حملته على ممارسة النقد العنيف للمسيحية، فضلاً عن الإسلام. فهو قد وصف السلطات الكنسية بالتعذيب، والاضطهاد، والذبح، والنخاسة، واستعباد النساء، وأبشع أشكال الاستبداد، ومحاكم التفتيش. ولكنه عاد ليلطف من تحامله حين طرح هذا السؤال:-

هل هذا يعني أن الدين المسيحي بطبيعته دين مستبد، وعنصري، ورجعي غير متسامح ؟.

لقد نفى ذلك، وأحال التقصير إلى القادة، وكل هذه التساؤلات تمهيد للنظر في الشأن الإسلامي، وهو يستعرض سائر المبادئ، والمذاهب كـ[الشيوعية] و[ النازية] ويخلص إلى أن جميع الديانات، وحتى العلمانية، لا تحتكر التطرف، ولا تحتكر الإنسانية أيضاً. والهوية عنده هي الرأس المدبر لكل هذه الصراعات.

يتبع...

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب