19-08-2014

أبو البراء الحلبي

اعتقد الأهالي في بلدة السعد في ريف حلب أن العالم بعيد عنهم وأن ما يحدث في بلادهم لا يعنيهم بشكل مباشر، فعلاقتهم مع العالم تنحصر بأرضهم التي توارثوها أباً عن جد وتعودوا على برد شتائها وقيظ صيفها. لم تبخل الأرض التي أحبوها عليهم بحبها لهم فهي خصبة معطاءة تمنحهم الزيت من الزيتون،

والقمح من سنابل الحقول الخصبة، والفواكه من أشجار الخوخ والتين. وعاش أهالي بلدة السعد متحابين متآخين ليس فقط مع بعضهم البعض بل مع الحيوانات والطيور في حقولهم ومحيطهم. ولم تخطر ببال أحد منهم أن حالهم سيتغير حيث إن السكون في هذه البدة الوادعة يوحي بسلام سرمدي.

وكان أبو علاء شخص فقير معدم، معتر بلغة القرية، لا يملك من قوت غده شروى نقير، يعيش من جرة سحلب يحملها على ظهره ويجوب بها أزقة أحياء البلدة الصغيرة، ولذا فقد تفرد بين ابناء قريته برغبته الدائمة بسرعة قدوم الشتاء واشتداد برده، فالبرد خير مسوق للسحلب وعلى وجه الخصوص إذا أضيف له الزنجبيل، «الزنبجيل» كما كان ينطقها.

«سحلب الزنبجيل يا أبو العبد ولا البرد» كانت أنشودته في الطرقات التي تعود السكان عليها ويوقتون دخول الشتاء بسماعها. لم يكن الجميع يحبون سحلب أبو علاء ليس لأنه غير لذيذ أو محبب للنفس ولكن لأن صاحبه أعزب وكل أعزب في البلده مشكوك في نظافته، فالنظافة حتى للرجال ارتبطت بالنساء. ولذا كان أبو علاء يتعمد طرق الأبواب بقوة حتى يدفع له الناس ببعض النقود ولو لم يطلبوا منه سحلب أما لدرء إزعاجه أو لنفحة بعمل نقود صغيرة من قبيل الصدقة. ولذا فهو يعرف أبواب الخيّرين ويطرقها باستمرار، ولا يعير اهتماماً لأبواب النزقين. وعند الانتهاء من بيع السحلب يقصد أبو العلاء بقالة في ساحة القرية حيث يجتمع بعض شباب القرية ليساعد صاحب البقالة على خدمة الزبائن مقابل قوت ليلته.

اشتدت الأزمة في سوريا واتجهت شمالا، فتحولت البلدة لسجن كبير بسبب صعوبة الخروج منها، فأصبحت أكبر اعتماداً على ذاتها. واختفى بعض شبان القرية للالتحاق بالجيش الحر واختفى معهم أبو العلاء. لم يفهموا ما الثورة ولا أهداف الجيش الحر ولكنها فرصة سانحة لهم لتغيير واقعهم، فرحل للثورة معظم العاطلين ومن ليس لديهم أرض يتمسكون بها، واعتبر بعضهم ذلك مخاطرة تستحق الركوب للهروب من التطاول المتكرر عليهم من أعضاء شعبة الحزب في البلده. فالثورة أضحت حلمًا لهم للانعتاق من أسر الفقر الأبدي الذي طالما خالوه قدر محتم عليهم. أما من أمن قوته فقد أثر السلامة وزاد مؤنة البيت ولم يبع من إنتاج حقله إلا القدر الذي يكفل له شراء السلاح يحتفظ بها من قبيل التحوط.

تواترت الأخبار من القرى المجاورة بانتصارات حققها جيش سوريا الحر فعم البلدة نوع من التفاؤل الحذر لأن الكثير من أهاليها لم يتعودوا التغيير واشتموا فيه نوعاً من المجازفة غير المحسوبة، وكان بعضهم يردد: أرضى بقردك لا يأتيك أقرد منه. شيئاً فشيئا اقتربت الحرب أكثر فأكثر من بلدة السعد مع اقتراب بعض المقاتلين من أطرافها طالبين تزويدهم بالزاد والملبس، وكان أهل البلدة كرماء معهم ليس لأنهم يفهمون أهدافهم أو يؤيدونهم بل لأنهم لا يعرفون بالتأكيد ما يدور حولهم، ويساعدونهم من قبيل الحذر وأمن الجانب من أي غريب، وكانوا يفعلون ذلك دون علم شعبة الحزب حيث أسماؤهم جميعا موجودة على قوائهما، فقد عاشوا دهراً كاملاً لا يعرفون من أمور السياسة إلا شعبة الحزب التي يصل أفرادها من ريف آخر ضمانا لعدم استمالتهم من الأهالي.

فجأة تعالت الأصوات في البلدة بقدوم قوة تنتمي للجيش الحر، فكل من حمل سلاحاً أدعى وصلاً بالجيش الحر، وأكد وصول المقاتلين الهروب المفاجئ لأفراد شعبة الحزب وتركهم معسكرهم بكل ما فيه من زاد وعتاد، فعم تفاؤل كدره عدم اليقين من المستقبل القادم غير المعلوم. وما هي إلا ساعات حتى دخلت قوات الجيش الحر في شاحنات صغيرة يعلوها شباب مسلحون وأصوات أهازيج ثورية قوية، وكانت مفاجأة سكان الحي الذي يقطنه أبو العلاء أن أول شاحنة دخلت البلدة شاحنة من مقصورتين، الشاحنة القائدة، هي شاحنة أبو علاء بائع السحلب وكانت محملة بالرجال والعتاد، دخل بها أبو علاء ساحة القرية مستعرضا ومبتهجًا، فبلدة السعد أصبحت تحت يديه يدور أحيائها وأزقتها ليس بجرة السحلب بل شاحنة تايوتا أحدث موديل. واختار أبو علاء الشوارع التي كانت تقطنها الصبايا الجميلات، فكثير منهن كان يتكشف له ليس إعجابًا به ولكن استنقاصاً لرجولته.

وكان رجال أبو علاء ينادونه بلقبه الجديد أبو البراء الحلبي، وهو يأمرهم بتفتيش المنازل التي عهدها وعرفها جميعها من قبل وكان يستثني تلك الأبواب التي كانت تمد له يد الصدقة. جمع أبو البراء الحلبي الأهالي في ساحة البلدة الصغيرة ليعلن لهم بحمد الله تحريرها من قوات الطاغية بشار، وكان حريصا دائما على أن يظهر ملابسه وساعته وبعض مقتنياته لينظر لها الأهالي وكأنه ينتقم من نظراتهم لمظهره الرث وفقره في الماضي.

يتحول حديث أهالي البلدة إلى تسبيح لمغير الأحوال كيف كان أبو العلاء وكيف أصبح، وكان بعضهم يتندر بتسميته أبو العلاء السحلبي، ولكن ذلك لم يغير من الأمر شيئاً فليس أمامهم إلا أن يواجهوا واقعهم الجديد. خطب أبو البراء في الجمع الصغير وذكرهم بضرورة دعم الجيش الحر لأنه يحارب من أجلهم ومن أجل تحرير سوريا العظيمة، كلام يردده رغم أنه قد لا يعرف من هم قيادة الجيش الحر أو ما هي أهدافه. ولكن كلامه المبهم لم يصب إعجابا أو تأييداً فبالنسبة لأهل السعد لم تكن بلادهم محتلة أو مستعبدة فهم بعيدون عن السياسة ومصائبها ولا يعرفون من الحكومة إلا الجمعية التي تشتري فائض قمحهم ومواشيهم. ولكن الأمر كان مختلفا لأبي البراء الذي لولا ادعاء الانتماء للجيش التحرير لبقي بقية عمره رفيقا لجرة السحلب، ولم تكن هناك قوة أخرى قادرة على تغيير وضعه البأس وتحويله من بائع سحلب إلى قائد يأتمر بكلمته جزء كبير من شمال ريف حلب.

سارع بعض الانتهازيين في البلدة لتزويج أبو البراء وصحبه المقربين ببناتهم حالما اتضح أن شاحنته محملة بالأموال والغنائم التي أمطرت عليه من بيوت أعداء الشعب وحلفاء النظام, أموال كل من ترك منزله وهرب على اعتقاد أنه سيعود لمنزله فيما بعد، فالمال إما لأبي البراء أو للنظام أو للذئب. وكان أبو البراء يتجول في البلدة وهو يتمنى أن يدخل في عقول الناس ليعرف هل هو حقاً «أبو البراء الحلبي» أو «أبو العلاء السحلبي»، وكان يتعمد إغداق المال على من يُعرفون بطول ألسنتهم، ومن يعرف أن الناس ينصتون لهم، وتعمد كذلك التقرب من الصالحين والورعين في البلدة، ناهيك عن إظهار كرم حاتمي في كل مناسبة عامة يجعل الألسن تلعق بالتعجب والانبهار.

انقلبت بلدة السعد رأسا على عقب ليس لأنها ولدت على فجر جديد، أو حرية منسية، ولكن لأن تركيبتها الاجتماعية انقلبت رأساً على عقب. فالحروب قد تأتي بالأعاجيب، وتقلب الموازين، وهي تنفض غبار الرتابة للمجتمعات بقلب سجادة المجتمع إلى وجهها الآخر لتظهر معايير وموازين قوى جديدة تحرك مياهها الراكدة. والحرب، حتى ولو كانت ذات أهداف نبيلة قد يغشاها من يرى في الفوضى والقتل والنهب والاغتصاب فرصاً سانحة تعيد له ما افتقده من ذاته في ظل القيود الاجتماعية والدينية، فالحرب عنف موجه لأخلاق المجتمعات قبل مقاتليها، وإذ فشلت أعراف الأرض في تبريرها بررتها أعراف السماء. أما ملحمة أبو العلاء السحلبي فقد ألهمت الكثيرين مثل أبو جهاد الداعشي، أو أبو قحافة النصري وغيرهم.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب