23-08-2014

قِصَّةٌ قصيرةٌ أوْ قِصصٌ قِصَارٌ ؟

المُرَبِّي النَّمْلَ: (1 - 3)

لما انتقلنا إلى العاصمة لإتمام دراساتنا العالية (ومِنَّا من أنهى البكالوريوس، ومِنَّا من حصل على درجة الماجستير، ومِنَّا مَن حصل على درجة الدكتوراة؛ فدرجة أستاذ، وهو الآن في سبيله إلى دكاتِرةِ - بصيغة الجمع - الدكاترةِ، وأستاذِ الأساتذة !)..

وكان لصديقي شيخ من مشايِخه في الرياض يعلم ماذا يعني وإن جَهِل كثيرٌ من لِداته وبعضُ مشايِخه بعضَ ما يعني، وكان على عِلمٍ بمنابعه الثقافية، وكان يرى في سيرةِ وأفكارِ تلميذه ما يظنُّه كثيرٌ من عارفيه تناقضاً، أو جنوناً، أو غروراً.. وما كان شيخُه يرى فيه ذلك؛ بل يراه على سجيَّةٍ ودِربة لا تناقضَ فيها ولا جنونَ ولا غرور؛ ولهذا لقَّبه شيخه بـ(باقعةُ البواقِع).. على أن سوءَ الفهمِ في اتِّهامه بالتناقض والجنون والغرور كان موجوداً في قريته المدينة قبل أن نرحل معاً إلى العاصمة.. ولقد لازمتُ صديقي باقعةَ البواقِع في قريتنا المدينة منذ الصِّغَر.. لا أكاد أتعدَّاه إلا وقت النوم أو تناولِ الوجبات الثلاث مع أهلي، وكنتُ أتحيَّن الفُرصَ المناسبة له ولوالده الذي يتلقىَّ بعض أصدقاء ابنه بكل بشاشة وكرم، ومعرفتي به شهادة عِيان على نَسَقِ معرفةِ نجيب محفوظ أبناءَ حارته في قَصَصَه الرِّوائي (أولاد حارتنا)، وسَمَّيته روائياً؛ لأني كما أسلفت شاهد عِيان في كل ما يقول.. وصاحبي يُدْلِي علناً بما لم يأْلَفْه أبناء بلده من الولعِ بالغناء وأشجان الحبِّ؛ فوصفوه بضعفِ العقل.. ولو لا محافظتُه على الصلاة جماعةً، وتَخلُّفه في المسجد لتلاوة القرآن: لَاتَّهَمُوهُ في دينه، ولكنهم اتهموه بضعف العقل، وما كان ضعيفَ العقل، بل كان لوذَعِيّْاً أريباً، وكان يحبُّ أن يَفْهم كل ما يسمع؛ فكان يقتنع بما فَهِمه أو يحاكِمُهُ؛ فوصفوه بالعناد والتَنطُّع، وهم يسمعون من المشايخ في المسجد كراهةَ المراء، ويقولون لهم: (رحم الله من ترك المراءَ وإن كان مُحِقّْاً)، ويأثرون لهم الحديثَ الصحيح عن فضل مَن ترك المراء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن له بيتاً في الجنة؛ ولهذا يتعوَّذون من جدله، ويقولون: «نعوذ بالله من حالِك»، ويرون في جدله ما يناقِض صلاتَه وتلاوته.. مع أن العاميَّ مفطور بلهجته الدارجة على التساؤل حول كل كلام يسمعه ولم يَسْتَبِن ما وراءه مِن قصد؛ فيقول: «وِشْ تَقْصِدْ».. أيْ أيَّ شيئٍ تقصده من كلامك؛ فيقتنع أو يعارض، وربما أقنعَ ناقِدَه.. وقصَّ عليهم صاحبي في قريتي المَدِينة ثم العاصمة لَمَّا عادَ من العاصمة إلى مَسقط رأسي في إحدى زياراته القصيرة وقد سألوه عن صاحبهم الجدليِّ؛ فقال: «إن له شبيهاً به في الرياض، وإن له شيخاً من الأموات رحمه الله أخذ عنه المذهب الظاهِري، وتتلمذ على كُتُبِه، وسلك مَسْلَكَه في ممارسة حاته، وصرَّح بكل ما يعتقد؛ لأن اجتهاده قاده إلى أن مسلكه على أقلِّ الأحوال من اللمَمِ المعفوِّ»، فقالوا: (نعرفه، وقد عاش معنا بهذه الصفة الله يهديه، وزَبَّبَ قبل أن يُحَصْرِم، وعساك أن تُبَصِّره وتَعِظه).. إلا أنَّ عارضَتَه إلى هذه اللحظة فيما ظهر لي سيلٌ جارِف؛ لأنه على ثقةٍ بصواب ما يقول أو يفعل، أوأنه من اللَّمم المعفوِّ، ولا ذنب له إلا أنه مفطور على حُبِّ الجمال، وارثٌ حِدَّة الطبع من شيخه ابن حزم القائل:

قالوا تحفَّظْ فإن النَّاس قدْ كَثُرَتْ

أَقْوَالُهُمْ وَأَقَاوِيلُ العِدَا مِحَنُ

فقلتُ هل عَيْبُهُمْ لي غَيْرَ أَنّْنِيَ لا

أقول بالرَّأْيِ إذْ في رأيهم فِتَنُ

وأَنَّنِي مولَعٌ بالنَّصِّ لَسْتُ إلى

سواه أنحو ولا في نصره أهِنُ

لا أَنْثَنِي نحو آرَاءٍ يُقَالُ بها

في الدِّين بل حسِبيَ القرآن والسُّنَنُ

يا بَرْدَ ذَا القول في قلبي وفي كبدي

ويا سروري به لو أَنَّهُمْ فَطِنُواْ

دَعْهُمْ يَعَضُّوا على صُمِّ الحصى كمداً

من مات من قوله عندي له كفنُ

إني لأعجب من شأني وشأنهمُ

واحسرتا إنني بالناس مُمْتَحَنُ

ما إن قصدت لأمر قطُّ أطلبهُ

إلا وطارت به الأظعان والسُّفُنُ

أمَا لهمْ شُغُلٌ عَنِّي فيشْغلُهمْ

أَوْ كُلُّهُمْ بِيَ مَشْغُولٌ وَمُرْتَهَنُ

كَأَنَّ ذِكْرِيَ تسْبيحٌ بِهِ أُمِرُواْ

فليس يغْفِلُ عَنِّي مِنْهُمُ لَسِنُ

لو بِيْعَ ذِكْرِي على ما قَدْ تكاثر مِن

طُلاَّبهِ لم يكن يُدْرَى له ثمن

إن غِبْتُ عن لَحْظِهِمْ هاجوا بغيظِهِمُ

حتىَّ إذا ما رأوني طالعاً سَكَنُواْ

دعوا الفضولَ وهُبُّوا للبيانِ لكيْ

يَدْرَيٍ مقيمٌ على الحسنى ومفتتن

وحسبي الله في بدءٍ وفي عقبٍ

بذكره تُدفع الْغَمَّاءُ والإحنُ

قال أبو عبدالرحمن: تَمَنَّيْتُ لو لم يَسْتَشْهِد بي صديقي الرِّوائي في قَصَصه؛ لأنه سَيُذكِّر بي مَنْسِيَّاً، والمُسْتوعِبون لِمُرادِ النصِّ قِلَّة.. ولا سيَّما وأنا في سنِّ التورُّع والتحرُّزِ ومحاسبةِ النفس؛ لهذا كنتُ أحرص على البحث عن الدليل المُحقَّق بتدقيق، ولا أقول إلا ببرهان؛ وأما التَّفَتِّي والتَّقَوِّي بأشجان الحب والطرب فقد انِهَمكْتُ في الطرب ردحاً من السنين مُسْتَمِعاً لا سامعاً صفَيرَ البوق متَناوِحاً مع صَخَب الموسيقَى، وما لي حُجَّةٌ إلا اجتهادُ الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى لنفسه من غير مُحاكمة.. وأَلِفْتُ الطرب الشعبي بقرع الرجالِ الدَّف (الطبل) المُصْمَتِ؛ وما ذاك وربي بلائقٍ برجولتهم؛ وإنما الطبل غيرُ المُصمت يليق قرعُه بالنساء في أيام العيد والأفراح.. ثم أنَبْتُ، وبقي في ذاكرتي مما كان فبان تجارِبُ جماليةٌ أستقطر منها ما يجعل الطرب في مناسباتٍ محدودةٍ في دائرة محدودة بين (استماعٍ مُباحٍ وتَرْكه أفضلُ، وبين لَمَمٍ معفوٍّ عنه).. وجعلتُ أيضاً ما في ذاكرتي من تجارِب جماليةٍ حصَّلتها في سِنِيِّ الانهماك مُوَجِّهاً إلى بناء النظرية الجمالية من أجل تطوير علمِ العَروض، وتوسيع ما هية اللحن التي يُقيم الشاعر بها وزن شعره بالتغنيِّ به حسب وصية حسان بن ثابتٍ رضي الله عنه؛ ليكون اللحن مضبوطاً بوزنٍ يستقرُّ عليه سماعُ الأُذُن في مدة زمنيةٍ ومساحةِ مكانية ثابتة؛ وذلك هو ما يُسمَّى بالكوبليه؛ فنَتَخَلَّص من ضيق المأثور الغنائي من أوزان العرب؛ لأن كلَّ أمَّةٍ لا تكون تجرِبتها التاريخية نهائيةً ولا مُطلَقة، بل تَجارِب الأمم متلاقحةٌ يُكمِّل بعضها بعضاً.. وأما أشجان الحبُّ فلا أزال على صوابِ ما هي عليه مِن اجتهادِ الإمام ابن حزم لنفسه، إلا أنني هذه المَرَّة لستُ أسيرَ تقليده فيما اجتهد فيه لنفسه، بل أخذتُ به عن اجتهادٍ في جمع نصوص الشرع في المسألة الواحدة بِدِقَّةِ الاستنباط، ثم رأيتُ أنَّ الحبَّ البشريَّ الذي يتَعلَّق به شهوةُ (الباءة.. أي الجِنْس عند الخواجات) قسمان: الأولُ حُبُّ الأنثى مِن اللائي خَفَّفَ الله بهنَّ علينا جميعَ أعباء حياتنا الدنيوية: والحكمُ في هذا أنه لا يَحلُّ لنا التعرُّضُ لهنَّ لا بمغازلة، ولا بتحديدِ نظرٍ وتعمُّد رؤية؛ فكل هذا مُحَرَّمٌ علينا شرعاً؛ وإنما نستبيح منهنَّ بالعقد الشرعي، والوِصال المطهَّر، ونتلقى أخبارَ جمالِهنَّ أو جاذبيتهنِن نسائنا الأقارب اللائي يرينهنَّ، ونُلْحِفُ في السُّؤال عن ديانتهنَّ وعِفَّتِهنَّ وتعامُلهن بميزان الأخلاق والدين.. ثُمَّ ننظر بتحديق الحدقة مفاتنهنَّ عسى أن يُؤْدَمَ بيننا، فتستديم العشرة والمودة مع الصبر والرحمة والعدل والتنازلِ عن بعض الكمال؛ لأن الكمال في المخلوقين متعذِّر.. وبما أن هوى النفوسِ (قُلَّبٌ)؛ فلا يعجبك شيئٌ من مَفاتِنِ خطيبتك؛ فتغُضَّ النظر عنها، ثم كانت في أحضان زوج استغنتْ به بتوفيق من الله.. ثم إذا بكَ تشتعل بسعير العشق لخطيبتك التي تغاضيتَ عنها، ولا تجدُ في الدنيا كلِّها ما يُغنيك عنها - وهذا من كيد الشيطان -: فاعلم أنك بُليتَ بالهوى مِن غير تأثُّمٍ ولا تَقَصُّدٍ، فأنت غير مسؤول من ربك: لماذا تعشق؟.. ولكن استعن بالله في سلوكك؛ فابسط الرجاء في بنات المسلمين أن يهب الله لك منهن قُرَّة عينٍ لك بالعقد الشرعي المُطَهَّر.. ولستُ أُنكر أنه مباح لك في دِينِ ربِّك أكثرُ من واحدة، ولكن الله جلَّ جلاله لم يُلزمك ذلك رحمةً منه، ولقد جَرَّبت التعدُّدَ؛ فعشتُ في جحيم أضرَّ بصحتي ومداركي، وشتَّت شملي، ولم أَرَ السعادة واللذة الدائمة وإن وهن العَظم واشتعل الرأس شيباً إلا مع الواحدة ذات الجمال والجاذبية معاً، وذاتِ الدين والصبر والعقل الحصيف؛ فترى آثارَ ذلك في محبةِ الناس لها مِن أقاربِك وجيرانك وكلِّ نساء عرفنها، وكل رجالٍ بلغهم خبرها، وكلُّهم يدعون لها بظهر الغيب؛ فتعيش نعيمَ الدنيا كلَّه بالعقل الحصيف والدين المتين؛ فإذا أسدل الله عليك ستره في رُوَاق الليل عشتَ نعيمَ القلبِ الخفَّاق كلَّه.. وأما ذلك الهوى الذي عَلِقَ بك على الرُّغْمِ منك فاستعن عليه بالله ثم بالحب الوهمي؛ فتَمحق كيدَ الشيطان بكيدِكَ إياه كيداً كاسحاً؛ فتقول: ما أشهى هذا السَّعيرَ الذي أشعلتَه في قلبي؛ فأهلاً به ومرحباً؛ فهو عندي نعيمٌ يتعذَّرُ ولا يَتَحقَّق بحصانةٍ من ربِّي، وهو عذاب مرغوب فيه؛ لأنه رَغْبة لا أمد لبلوغها، ولن أبلغها أبداً.. وتأكَّد أنك غير مُحاسب، لأنك غير مُخْتار، وتذكَّر تبصرةَ الإمام: (وهل يلزمُ الإنسانَ إلا اختيارُه).. وزِدْ عدو اللهَ الشيطانَ الرجيمَ كيداً، فاردح له بِشَدْو السِّت:

الحبُّ كُلُّه نعيمْ

ما فيهْ عذول بِيْلُومْ

ولا فيه حبيبْ محرومْ

واضبط له الأنغامَ؛ فانطق كلمةَ (كله) هكذا (كلُّ)، وانطق كلمة (ما فيه) هكذا (مافِهْ)، وهكذا (ولا فيه حبيب)، وكلمة (عذول) انطقها بالزاي هكذا (عزول)، والحب انطقها (الهب) بالهاء ومحروم انْطقها (مهروم).. افعل ذلك مُوَفقاً؛ فتصفع الشيطان وأنت مَطْرُبانيٌ لا يَشُقُّ هو غُبارَك (قياساً للأنغام مسافةً زمانيةً، وقياساً مكانياً ثابتاً، وُنُطقاً بالحروف أفندياً لذيذاً).. افعل ذلك لتقهر عدوَّ الله بأنك على ربح من الله في دينك ودنياك إن لم تصحبك الآلات الموسيقية؛ لأنك ربضتَ في الشبكة عن غير قصد؛ فأنت معذورٌ غير مُخْتار.. ولأنك ضامنٌ رِبحاً دنيوياً فيه تقويمُ شخصيَّتِك؛ فقد ذكرتُ في مُناسبة سابقةٍ أن الحبَّ الوهْمِيَّ الذي يَدْلَهُ به العاشق عن تَمَنِّي ما هو مُحَرَّمٌ أو عن ارتكابه صاقِلٌ النفسَ، مُتْرِعُها شَفَافيَّةَ؛ فذاك العاشِقُ أريحيُّ بشوشٌ طروب كريم؛ وإنما يُخْشى عليه السرف، وهو أشَفُّ حِسِّاً، وأدقُّ وأبعد غوصاً على الحقائق، وأصبرُ على مُنَغِّصات دنياه، وأسرعُ إلى الانعتاق منها بكلِّ بشاشَةٍ، وأدْوَمُ على الصحبة، وأوفَى الناس في شكران الجميل وردِّه بأقصى ما يملكه ولو بالثناء والدعاء.. وهو أذْربُ الناس مِقْولاً، وأصْفاهم عِشرة، وأطيبُهم مُنادمةً بخفَّة نفسٍ متواضعة مشكورة، وآنسهم مجلسَاً لا يشعر جليسه بطولِ زمن المنادمة، ويَسْتَبْطِئُ العود إلى مثلها، وأبعُدهم عن الغِيبة والنميمة - وهما حالقتان، والمُقِلُّ منهما، والمُتَّعِظُ المستغفر المنيب إذا دُكِّر: سالمٌ -، وأما التعلُّل بأن في لِعْب الورقة التي فيها (سِق صَنّْ) هروباً من هاتين الحالقتين: فذلك تسويلٌ من الشيطان؛ لأنني جَرَّبتُ هذه اللُّعبةَ سنينَ طويلةً مُتَقطِّعةً في مناسباتٍ عارضة بمهارة؛ فرأيتُ أنها داءٌ يحمِلَ أكثر وأكبر مِن الدواء؛ لكثرة السفاهة بين الفريقين، وسوء الأدب والعربجة، والعتاب الجارح، والمُشاتمة والمُهارشة.. وتزداد هذه القبائح إذا وُضِعَتْ مكافأةٌ مِن متبرِّعٍ للمنتصر من الفريقين؛ لما في ذلك من الغبن في التنافس؛ وهل كانت حرب داحس والغبراء المُبيرةُ إلا من التنافس في إضمار الخيل وطِرادِها؟.. وأما اللَّعِبُ رِهاناً يتحمَّلُه أحد الفريقين، وهو خاسر الرهان فذلك قِمارٌ مُحَرَّمٌ، ولا وجهَ للتعلُّلِ فيه؛ فمن أباح القمارَ بهذه الصفة كلعبةِ الشطرنج قديماً وحديثاً فهو مخادِعٌ نفسَه ودينَه، مُرْتكِبٌ مُحَرَّماصريحَ الحرمة.. وقد تخلَّصتُ من كثير من المهارشة بإدخال علم المنطق المُفْحِمِ؛ فمرةً كانت الغلبة لي ولرفيقي، فقلت له: (أُبَشِّرَك اطْبَعَوا).. أي غرقوا؛ فقال أحد خَصْمَينا لصاحبه: (ما نطبع وأبو فلانٍ موجود)؛ فقلت: (كيف يطبع المعدوم.. لا يطبع إلا الموجود)؛ فعميتْ عقولهم عن سُبُلِ المُهارشة، وذكرتُ (سِقْ ضَنّْ)؛ لأن أحد السراةِ رأى القهوجيَّ إذْ فقد الفوطة يُنشِّفَ كوب الماء بالشُّراب الذي لبسته رجله، ومُدَّة لبسه في السفر طويلة؛ فقال: (سق صن) ليقول زميلُه (قَبْلَكْ)؛ فَيَشْربُ زميله الحليب الذي عافه هو؛ لأنه أولى بالكأس، أو لِيتعَلَّل بأنه لا شهيَّة له في الكأس؛ لأنه مُتَحَمِّسٌ للعب، أولأنه شرِبَ الحليبَ كثيراً؛ فيأخذه أحد الفريقين!!.. وأنت في كل هذا على طريقٍ لا حب؛ لأن عَلَنَ المُسْلمينِ قطعاً معصوم، وهؤلاء الفقهاء والورعون والمشاهيرُ والمساتير تفتَّوا وتَقَوّْوا بمباح الحبِّ الوهمي في أشعارهم؛ لأن النفوسَ تصدأُ كما يصدأُ الحديد، وكان التغزُّلُ هو المُقَدَّم في أشعارِهم، وتخيلوا إثارة الحب في أوصاف تَحَرَّوا فيها الإثارة كتغزُّل كعب بن زهير رضي الله عنه في مُضْنَيِةً رِيقها بالراح معلول، ولا يُشْتَكَى منها قِصَر ولا طول، هضيمةَ الكِشْحٍ، متناسبة الأرداف:

هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً

لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ

تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إِذا اِبتَسَمَتْ

كَأَنَّهُ مَنْهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ

ومعاذ اللهِ أن نُؤَثِّم عَلَنَ المسلمين على مدى العصور، والرسول صلى الله عليه وسلم استمع كلام كعب بن زهير، وأثابه، وأُضيف الشعر إلى البُردة التي كساه إياها، ومثل هذا لا يُوَثَّق بالأسانيد مع وجودها واشتهارها؛ بل يُوَثَّق بالتواتر.. ولولا جهل القحطانِّي العامي بالحكم الشرعي لَكِدْتَ عَدُوَّ الله بمثل كيده لَمَّا أراه الشيطانُ في المنامِ أجنبيَّة ينكحها؛ فلما استيقظ أخَذَ ينفخ في قربة على مَهَلٍ حتى تَوَرَمتْ بالهواء؛ فقبض على فِيها بِشدَّة، وصب على رأسِه من الهواء، وصار يمسح بيده اليُمْنى على ما فوق السُّرَّةِ وما تحت العورة إلى أن تطهر بالهواء، وأفْرغ القِرْبة؛ فقال كلمتَه المَشْهورة (اِحْكاً بحْكا)؛ فهذا مثلُ الحبِّ الوهميِّ الذي لا يتحقَّق نكِاحُه أبداً، والحبُّ إنْ تنكحه فِسد.. وأما الحب البشري الذي تتعلَّق به (الباءةُ) فهو قسمان أيضاً: قِسْمٌ من الأوصاف لمحاسنَ تكون في الأنثى والرجل؛ فذلك استحسانٌ للصورة لا يُلحظُ فيه العشق المُحرَّم للمرُدان كما حصل للإمامين ابن حزم وصديقه ابن عبدالبر رحمهما الله تعالى في قصيدةِ (وذي عذلٍ فيمن سباني حسنه)، ومنه عشق قبيح للباءة في المردان، وقد بُلينا به في شعرِ صفيِّ الدين الحِلِّى.. إلى عهد ابن حُجَّة الحموي.. إلى وقتٍ قريب كما في قصيدة محمد مهدي الجواهري السِّينيَّةِ بوصل الهاء.. ولا أعلمُ التغزُّلَ بالمُردان إلا عند محمد بن داوود الظاهري، وذلك إثْمٌ وليس من العمل المشكور، وعسى الله أن يغفر له ويرحمه؛ لأنه لم يَتَمَنَّ وصالاً فاحشاً مُحَرَّماً؛ وإنما كان في غاية العِفَّة مِن مُقارفة هذا القبح؛ وإنما أوقعه في هذه الورطة إدامَتُه النظر في معشوقه الذي ألَّفَ له كتاب الزَّهرة، وهكذا ابن كليب ومعشوقُه، وفي أخبارهم جميعهم اضطرابٌ، ولأخبارهم قَصَصٌ يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

قال أبو عبدالرحمن: أحسست أنَّ صديقي لا يودُّ مزاحمتي له في الرواية، وهو إنما يريد قِصَّتَهُ عن مُرَبِّى النمل لا غير.. ومالي لا أُزاحمه حفظه الله؟.. أَوَ لمْ يُذَكِّر بي مَنْسِيّْاً بعد انتقالي إلى العاصمة؛ وهو تذكير يؤلمني؛ لِما لاقيته من نقد وتقريع وإن كان لم يَتَّسِعْ له مُؤَخَّرة موق العين، وقد غادرتُها وليس لي فيها مَضْربُ وتد، ولا أستظلُّ بأسرةٍ ذات عَددٍ ومَدَدٍ؛ لأن ثِقَلَ أُسْرتي الكثيرة جِداًّ في غير مسقط رأسي؟.. وكنتُ اْبنَها البارَّ منذ ثامنِ جَدٍّ، وصرفتْ مِنَح الدولة للبادية، ولمن ليس لهم عراقة كعراقتي في مسقط رأسي؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.. أوَ لا أبثُّ أحزاني وأشجاني، وَأَقُصُّ القَصَصَ عن ذلك مما لا أستطيع كتمانه بلغةٍ جمالية مُجَنِّحة، واتساعٍ علمي، ودِقَّةِ تفكيرٍ صبور، ومُؤانسةٍ يَضْحَك لها البَهِيم؛ فالهمُّ هَمِّي، والعائدة لغيري؟.. ومالي لا أزاحمه حفظه الله ونحن في مسقط رأس واحد: مُنْعِشِ التُّربة، ناطقٍ بمشاهدَ من تاريخنا الجهوريِّ تَرْفَعُ الرأس، زاهٍ بحاضرٍ أنيق المَظْهر، بارِع النكتة، لاحسٍ هموم الدنيا بأن يعيش الفردُ يومه (ولكَ الساعةُ التي أنت فيها)، ترتَجُّ منابرُهُ ومنائره بخشية الله من دينٍ متين ليس فيه شائبةٌ من النُّسك الأعجمي؟.. ومالي لا أشاركه وأنا أبلغ وأوسع علماً بالذي هو صورةٌ مني في تتلمذه على الإمام ابن حزم قَبْلَ سِنِيِّ الورع والتحرز؛ فكلانا مَوْعِظةٌ لنفسه قبل أن يتَّعظ الآخرون؟.. وما الضرر في ذلك؟.. لا ضرر إلا أنْ تتميَّز القصةُ القصيرة عن المُربِّي النَّملَ؛ فذلك مضمون التميُّز بإذن الله، وبعد ذلك فالقارئ في خير مِن القَصَصِ المُشْتَرَكِ اللذيذ؛ فإلى لقاءٍ عاجل إن شاء الله في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم، والله المستعان، وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب