30-08-2014

عن فن قبول الآخر والتعاون فيما هو خير وبر

أورد الفقيه الحنفي ابن عابدين فتوى في حاشيته وخلاصتها أنه إذا تنازع اثنان على طفل، وكان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً، وادعى المسلم أن الطفل ملك له (عبد أو رقيق)، وادعى الثاني أنه ابن له فإنه يحكم لصالح الذمي،

لأن تنشئة الطفل على الحرية وإن كانت على غير دين الإسلام، أفضل من تنشئته على العبودية وإن كانت على الإسلام. ذلك أن حرية المرء وكرامته مرتبطان بإنسانيته، فيسبقان دينه ويتقدمان عليه... كم أود أن يقرأ أهل الغلو والمجموعات الضالة هاته الفتوى التي تعبر عن سماحة الفكر والدين، وإنها لمصيبة عظيمة وداهية عظمى ليس لها من دون الله كاشفة ما قام به أناس يدعون أنهم من الإسلام والإسلام براء منهم في نصارى العراق بل وفي حق المسلمين أنفسهم..

وهناك تفاصيل موزعة على كتب التاريخ التي حفلت بذكر النصارى واليهود الذين تبوءوا أرفع المناصب في الدولة الإسلامية في العهدين الأموي والعباسي، الأمر الذي كثيراً ما أثار غيرة المسلمين وحسدهم لهم، وكتبوا في ذلك أشعاراً محفوظة. لكني أخص بالذكر ما أورده الدكتور مصطفى السباعي في كتابه «من روائع حضارتنا» ونقل عن خلف بن المثنى وصفه للحلقات العلمية الشعبية التي كانت تنعقد في العهد العباسي الذي قال فيه: لقد شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة، وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني)، والحميري الشاعر (وهو شيعي)، وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق ثنوي). وسفيان بن مجاشع (وهو خارجي صفري)، وبشار بن برد (وهو شعوبي خليع ماجن)، وحماد عجرد (وهو زنديق شعوبي)، وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي) وابن نظير المتكلم (وهو نصراني) وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي) وابن سنان الحراني الشاعر (وهو صائبي) كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في جو من الود لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في دياناتهم ومذاهبهم!

ولقد سرى هذا التسامح إلى البيوت والأسر فكان يجتمع في البيت الواحد أربعة إخوة أحدهم سني، والثاني شيعي، والثالث خارجي، والرابع معتزلي، وكانوا يعيشون على أتم وفاق، حتى إنه لقد كان في البيت الواحد التقي والفاجر. هذا ينصرف على عبادته وذلك يستغرق في مجونه، وما تذكره كتب الأدب من هذا السبيل أن أخوين كانا يسكنان داراً واحدة، وكان أحدهما تقياً يسكن في الطابق الأرضي والآخر ماجناً يسكن في الطابق العلوي، فسهر ليلة هذا الماجن وعنده بعض أصحابه يغنون ويطربون ويضجون، مما أزعج التقي ومنعه النوم، فمد رأسه إلى أخيه الماجن وناداه: أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض، فأجابه الماجن على الفور: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم.

والقرآن الكريم يدعونا إلى التعاون فيما هو خير وبر. ذلك أن الله سبحانه وتعالى إذا كان قد أراد الناس مختلفين، وخلقهم شعوباً وقبائل لكي يتعارفوا، وإذا كان قد أمر المسلمين بالتعاون مع بعضهم البعض ومع غيرهم في البر والتقوى، ونهاهم عن التعاون في الإثم والعدوان، وإذا كان الأصل أنه في غير حالة العدوان على المسلمين أو فتنتهم في دينهم أن يكون البر والقسط هو اليد التي يمدها المسلمون إلى غيرهم، إذا كان الأمر كذلك فإن الطريق يغدو مفتوحاً أمام المسلمين للاشتراك مع غيرهم في «حلف فضول» جديد لإسعاد البشر وإقامة عالم يسوده السلام والمحبة والمنافع المشتركة. وحلف الفضول هو ذلك الذي عقده وجهاء قريش في الجاهلية لنصرة ضعفائهم، وامتدحه النبي محمد صلى الله عليه وسلم قائلاً أنه لو أدركه لالتحق به. وحري بالمسلم أن يحذو حذوه في مد اليد لكل من يريد إقامة ذلك العهد المنشود.

هذا التواصل تحقق داخل المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ، وله شواهده الكثيرة. وما كل الفسيفساء التي تتوزع على أرجاء العالم العربي والإسلامي إلا دليل على أن كل آخر حفظت له الدولة الإسلامية كرامته وحقه في المشاركة والبناء. ويعرف الباحثون جيداً أن الحضارة الإسلامية لم تقم على أكتاف المسلمين وحدهم، وإنما كان لغير المسلمين إسهامهم المقدر فيها، سواء كانوا يهوداً أو نصارى. ويعرف هؤلاء جيداً أن المسلمين ما فتحوا بلداً إلا وأبقوا على كل مكوناته الثقافية والاجتماعية كما هي، على العكس تماماً مما فعله الأوربيون الذين لم يسمحوا لغير ديانتهم، وأحياناً مذهبهم البروتستانتي أو الكاثوليكي، بالبقاء في البلاد التي يحكمونها...

أما أن كل محاور يشعر صاحبه بأن كلا منهما في موقع سواء مع صاحبه، من حيث تحري الحقيقة، التي لا تتجلى إلا بالتمحيص والمراجعة والبرهان، وهذا أسلوب فعال في استمالة المحاور إلى التفكير الموضوعي، والقرآن الكريم هو أول من أصل هذه القاعدة الحوارية في أكثر من موطن. فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (سبأ- 24)، وقوله تعالى: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (القصص- 85)، وقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (القصص- 49). وبهذا يؤكد القرآن أن في مقدمة أخلاقيات الحوار انطلاقه بالنسبة للجميع من مبدأ نصرة الحق، وتحري الحقيقة، مهما كان مصدرها، بكل تجرد ونزاهة. والتسامي عن الأنانية والأهواء، التي تحجب العقل عن التماح الحق، أو تزج بالمرء في المكابرة والجحود.

كما أن ممثلي الفكر الإسلامي من فقهاء ومتكلمين ومفكرين استوحوا في إطار القيم التي جاء بها القرآن، آداب المناظرة وطرق التفاهم، وصاغوا منها أخلاقيات للحوار لا نجد أفضل في ذكر بعضها ما أورده الفقيه الحنبلي الكبير، نجم الدين الطوفي، وذلك تحت عنوان آداب الجدل: إن من هذه الآداب ما ينبغي للخصمين أن يستعملاه في مناظرتهما ومنها ما يشتركان فيه جميعا، ومنها ما يختص بكل واحد منهما. أما الأول وهو ما يشتركان فيه، فيلزم كل واحد منهما قصد إظهار الحق في مناظرته، لا قصد إظهار فضيلته، وأن لا يبالي، قامت الحجة له أو عليه، كما نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال ما ناظرت أحداً فباليت مع من كانت له الحجة. فإن كانت معه اتبعته. وليلن كل منهما لخصمه الكلام، ولا يغلظ عليه، وليتلق ما يصدر عنه بقبول ولطف وتحسين، مثل أن يقول: ما ذكرته حسن منجه، لكن يرد عليه كذا أو يعارضه كذا. وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة..

وإن عرض أحدهما بصاحبه من جهة البلادة أو قلة العلم ونحوه، مما يصعب على العلماء، كقوله في أثناء المناظرة: هذا شيء إنما يفهمه الفضلاء ويدرك معناه الأذكياء، أو: هذا نقل يعرفه من وقف على المقالات واطلع على الكتب المطولات وأشباه ذلك، فليعرض نفسه على مسامحته والإغضاء عنه، حتى إن أمكنه أن يوهمه أنه لم يفهم ذلك عنه، أو لم يلق له بالاً فليفعل. فهو أصون لهما جميعاً وأحرى أن لا يكون بينهما شر كما قال القائل:

ليس الغبي بسيد في قومه

لكن سيد قومه المتغابي

وقال المتنبي:

ومن جاهل وهو يجهل جهله

ويجهل علمي أنه بي جاهل

مقالات أخرى للكاتب