31-08-2014

كنا وكان أساتذتنا (رؤى حول التعليم)

لقد شدني عنوان المقال (كنا وكان أساتذتنا) الذي رصف بمداد من نور في العدد الأول, من مجلة الجزيرة، في ذو القعدة 1379، كتبه الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري -رحمه الله-، يقول: لقد كنا طلبنا العلم للعلم وحده، لا نبتغي من ورائه وظيفة ولا مالاً, بحسبنا أن نتعلم, وأن ننير مظلم أدمغتنا, لنشعر بالعزة والكرامة, وكنا نجهد أنفسنا كل الاجتهاد في التحصيل، فنسهر الليل حتى يكاد ينشق عمود الصبح, على مطالعة كتاب أو كتب، أو نسخ كتاب أو كتب، أو استذكار

كتاب أو كتب, على ضوء شاحب متهافت, منبعث من مصباح غازي من الصفيح, يرسل علينا نوره الخافت مع دخانه القاتم الذي يؤذي العيون, ولا يتورع عن إيذاء الصدور.

وكنا مؤدبين مع أساتذتنا، نجلهم، ونحترمهم، من أعماق قلوبنا، ونتدارس سيرهم، ونعجب بعلمهم وورعهم، وتفانيهم، وكانوا يحبوننا، ويسرون من جدنا، ويشجعوننا على بذل كل غال ومرتخص لتحصيل الهدف المنشود, وكان إعجابنا، وتقديرنا لهم منبثقاً عن شعورنا العميق بأنهم هم الذين يهبوننا المعرفة، والحياة المتسامية، وما كانوا حريصين على جمع الدنيا، ولا كانوا متكالبين عليها، إنها في واد, وهم في واد آخر، وكانوا يتقاضون من المدرسة رواتب محدودة غاية أمرها أنها تؤمن لهم قوت الكفاف شهراً بشهر، وكانوا مع ذلك يشعرون بمنتهى السعادة من هذه الكفاية الكبيرة، فكانوا يرون المادة وسيلة لا غاية، ولذلك ما كانوا يهتمون بأمرها لا في قليل ولا في كثير.

وكان تعليمهم ناجحاً، وكان إنتاجهم مباركاً موفقاً، لأنهم يعلّمون بقلوبهم قبل ألسنتهم، وبسمتهم قبل قولهم، وكانوا يرون في طلابهم (نحن) صورا مصغرة من صورهم, ومرايا تنعكس عليها صفاتهم, ولذلك كانوا مدفوعين بطبيعتهم المثلى إلى تعليمنا بحق وعناية عميقة، وكانوا يرون ما يقومون به في السبيل أمراً مهماً يمثل شيئاً من وقاية الدين أن يضيع, والعلم أن يزول, والوطن أن يتفكك, وذلك بضمان تسلسل العلم بواسطة التعليم نفسه، منهم إلينا, ومنا إلى من بعدنا, كما تسلسل العلم من أساتذتهم إليهم، وهكذا دواليك صعوداً إلى الأجيال الماضية, وهبوطا إلى الأجيال القادمة.

ويختم الأنصاري بقوله:

لا يرتقي شعب إذا لم يعتنق

أبناؤه للعلم والأخلاق

فالعلم يرفعهم إلى أوج العلا

والخلق يحميهم من الإخفاق

رحمك الله يا أستاذنا عبدالقدوس، إنه رصد تربوي أشرقت به وريقات المجلة الصفراء، فأصبحت مثل العسجد, واصطفت عباراته لتصنع خطة بناء التعليم الوطني الذي ننشده في معلمينا وطلبتنا اليوم، تعليم غايته نهضة شامخة عرضها السموات والأرض, تعليم مُنطلَقه فكر الإسلام الخصب الوارف الممتد في كل زمان ومكان، ومن الواضح اليوم لكل ذي بصيرة أن البناء الحالي للتعليم يقوم على أراض ممحلة لا تصلح للاستزراع، فلا بد أن ننطلق من القناعة بإصلاح مصانعه، ثم الوصول إلى جوامعه، وحصر منابعه, حتى لا تتكدر مصباته, وتختصم أفكاره, وتفتر عزائمه, وتُخترق شرائعه, وتنضب ودائعه، وتخبو شموسه وروائعه، ثم يكون حديثا للعامة والخاصة، تتسابق الطروحات للنيل من محاضنه لما وهنت أن ترتفع بمرتاديها من أبنائهم، وعجزت أن تعقد الصلات بينهم وبين معلميهم كما كان أسلافهم، وتقاصرت عزائم قادتها أن تتصدر مراكب المجتمع، وتحمل راياته، وتلبي حاجاته.

فالتعليم واجب وليس سلطة، كما أوردها قائد التربويين ووزيرهم خالد الفيصل في خطاب الاستعداد والامداد, وحين صنف التعليم قيمة, تصنعها مهارة, تنتجها معلومة، ولابد لاستزراعها لتؤتي أكلها من عزيمة تتساوق مع الإمكان والمكان, حيث مهوى أفئدة المسلمين, ووميض وادي عبقر, وحيث الريادة العالمية التي قادها خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله-، إيماناً منه أن بلادنا جديرة بأن تكون إماماً وعلماً.

وختاماً فإن في محاضن التعليم مشاعل تنادي من يوقد ضوءها, ويحميها من الرياح العاتية, ويكرم مرتاديها, ليغادروها وقد أوتوا منها بقبس ووجدوا على النار هدى.

آخر البوح من أعماقي:

فيا خادم البيتين يا خير قائد

تفضّل فإن الفضل باسمك عُمّدا

يكلفك التعليم هما وهمة

وترقب في الإصلاح عزما وموعدا

لعل عقولا مقبلات كنوزها

تلاقي لها في ساحة العلم مرفدا

فدار كهذي الدار للمجد قبلة

حري بها في العلم أن تتفردا

مقالات أخرى للكاتب