03-09-2014

النظام والحريات لمواجهة الإرهاب والفوضى

مجرد التخلص من وضع حقوقي مقيّد ومتعسّف لا يُعتبر حرية كاملة. هذا يُسمى في علم الاجتماع: التحرر من، ولكن بدون الحصول على الحرية. إن مثل هذا الوضع النصفي يُعتبر حقوقياً «حرية جزئية»، وفي أحسن الظروف نصف حرية. للحصول على الحرية الكاملة بمعناها الحقوقي اللا متعدي المنضبط تحتاج المجتمعات إلى النصف الآخر، الذي هو حرية أن تفعل ما تريد، وبالطبع داخل نفس الإطار الحقوقي اللا متعدي المنضبط. الحديث هنا عن أنصاف وكامل الحريات لا دخل له بأنواع التحررات الشاذة الصادمة، المرفوضة بالأساس في كل الشرائع والقوانين والأعراف، حتى لو أصبحت في بعض المجتمعات مغطاة بقوانين هي شاذة بدورها، مثل العلاقات المحرمة والشذوذ الجنسي والمجاهرة بما يخدش الذوق الأخلاقي السليم.

الحديث هنا إذاً يقتصر على الحريات الحقوقية، العامة والخاصة، اللا متعدية والمنضبطة.

ناقش الصحفي الأمريكي توماس فريدمان هذا الموضوع في ثلاث حلقات في نيويورك تايمز إنترناشيونال، في شهر أغسطس 2014م. توماس فريدمان نشر مقالاته تحت عنوان: النظام مقابل الفوضى، لكن الأفكار ليست من عنده وإنما استقاها من أفكار وكتابات البروفيسور الاجتماعي الأمريكي دوف سايدمان. الصحفي توماس فريدمان كاتب رأي لامع ومعروف، يهودي الديانة والهوى، أمريكي الجنسية، ولا يستطيع القارئ المنصف أن يشعر نحوه بالود، لكنه لا يستطيع إنكار إعجابه بطريقته الماهرة في عرض أفكاره. حين يكتب توماس فريدمان عن الهند يكون معجباً وودوداً، وعن الصين يكون قلقاً، وعن إسرائيل يكون مشفقاً، وعندما يكون في شأن أمريكي أو غربي يكون منذراً ومحذراً.. أما عندما يكتب في شأن عربي فإنه يصبح متوتراً ومتنكراً يحاول تقديم النصح بطريقة تهكمية واستفزازية. حينما يعرف القارئ خلفيته لا يستطيع لومه، إذ إنه يُعبر عما يراه في صالح أهله وملته وقومه.

أعود لموضوع الحديث في الحريات الحقوقية المنضبطة.. لدينا إذاً، حسب تحليل البروفيسور سايدمان نصفان للحرية.. النصف الأول، والذي من المفترض دائماً أن يأتي أولاً، هو أن تتحرر من، أي تتخلص من وضع أو قيد يمنعك من الحصول على حق أساسي أو ينتقص من كرامتك الإنسانية. هذا النصف الأول بدون النصف الثاني قد يمنحك الشعور بالحرية ولكنه لا يضمن لك التصرف بها. النصف الثاني هو الحصول على حرية أن، أي أن تفعل بحريتك ما تريد وتستطيع داخل الضوابط الحقوقية النظامية.

هنا يلتحم النصفان وتتحقق الحرية الحقوقية الكاملة التي لا يمكن أن يستقر مجتمع وتتعايش مكوناته ويزدهر إلا بالتحامهما. الحرية الكاملة بهذا المعنى هي أن تعيش حياتك، تفصح عن آرائك دون خوف، تختار من يمثّل مصالحك، تبني اقتصادك الخاص، تبحث عن مصادر سعادتك، أي أن تكون أنت أنت.

يستنتج فريدمان أن ما حصلت عليه دول الثورات فيما يُسمى بالربيع العربي، ومن قبل ذلك في كثير من البلدان الأفريقية والآسيوية، هو مجرد النصف الأول، أي التحرر من، لكنها لم تحصل على النصف المكمل، أي الحرية في أن. بسبب هذا النقص حدثت ثغرة أو هوة عميقة بين النصفين المتكاملين للحرية، وأصبحت أسوأ بكثير من التي كانت موجودة قبل الحصول حتى على النصف الأول.. هذه الهوة ملأتها بسرعة فائقة وبدون ضوابط فوضى الأفكار المذهبية الإقصائية وشنائع الحركات الإرهابية والهمجية المتوحشة. أعتقد أن توماس فريدمان لامسَ بدون حسن نية نصف الحقيقة في ذلك.

المؤكد أنه لا الاكتفاء بنصف التحرر من، ولا الاستغناء عن كلا النصفين ومواجهة الإرهاب المذهبي بدونهما سوف يعطي مثقال ذرة من ضمان لاستمرار أي مجتمع كان. الزمان تغير والمفاهيم التعايشية تغيرت وكذلك الحريات الحقوقية وإمكانيات المقارنة مع مجتمعات أخرى توفرت، ومن يعاند سوف يغرق في طوفان الدماء ثم يختفي.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب