أكد أن السياسات المالية والنقدية الحصيفة للمملكة منحتها مرونة اقتصادية أمام تقلبات السوق البترولية.. الأمير عبدالعزيز بن سلمان:

التحولات العالمية المتسارعة أظهرت أنماطاً جديدة من العلاقات الاقتصادية

الجزيرة - الرياض:

أكد صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سلمان بن عبدالعزيز مساعد وزير البترول والثروة المعدنية لشؤون البترول، أن العالم يشهدُ اليوم تحولات أسرعُ من أي وقتٍ مضى، حيث تواصل مؤثرات عديدة العمل على رسم المشهد المحيط بنا على المستويات الجيوسياسية والاقتصادية والطاقة ولا يزال تعافي الاقتصاد العالمي هشّاً، نتيجة ظهور مصادر جديدة للمخاطر الجيوسياسية والاقتصادية في أنحاءٍ عدّة من العالم، كما لا زال المشهد الجيوسياسي والعلاقات الدولية والإقليمية في حراكٍ مستمر، مما أدّى إلى ظهور أنماطٍ جديدة من العلاقات الاقتصادية تزامنت مع انتقالِ نمو الثروات إلى الاقتصادات الناشئة، واستمرار تدّفق تجارة الطاقة في التكيّف مع ظهور أنماطٍ جديدة للعرض والطلب في قطاع الطاقة.

وقال الأمير عبدالعزيز بن سلمان، في كلمة ألقاها أمس أمام مؤتمر الخليج العربي والتحديات الإقليمية الذي ينظمه معهد الدراسات الدبلوماسية بالتعاون مع مركز الخليج للأبحاث في الرياض، إنه في أثناء هذه التحولات على الساحة العالمية، ثمّة تساؤلات عديدة تُطرحُ حول الدور المستقبلي لدول مجلس التعاون الخليجي، وموقعها من النظام العالمي في مجالات السياسية والاقتصاد والطاقة، حيث يتوقع بعض المراقبين مستقبلاً بالغ الغموض لهذه المنطقة، ويجادل هؤلاء المراقبين بأن التأثير الناشئ عن التطورات الحالية لقطاع الطاقة بالولايات المتحدة، سيكون له أثر واضح يؤدي إلى تحوّلاتٍ مهمة ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل تمتد آثارها إلى بقية أنحاء العالم، ويترتّب عليها تراجع الدور المهيمن الذي مارسته المملكة وغيرها من منتجي الطاقة بالخليج في أسواق الطاقة العالمية. كما يُحذّر هؤلاء المراقبين من أنّ التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية الناتجة من هذه التحوّلات، قد تكون جسيمة، وتأتي هذه التوقعات غير مفاجئةٍ للمملكة، في أوقاتٍ بالغة الغموض وسريعة التحوّل، فإنّ ظهور مثل هذه التوقعات المتشائمة، هو أمرٌ متوقّع. ولكن، كما حدث في الماضي، سينقض المستقبل هذه التوقعات.

وأوضح مساعد وزير البترول والثروة المعدنية، أن العولمة، التصنيع، التحضّر، والتطوّر السريع - المعتمدة على الطاقة - أخرجتْ مئات الملايين من البشر من الفقر، وأوجدتْ طبقة متوسطة كبيرة في بلدان الأسواق الناشئة. ففي آسيا وحدها يمكن اعتبار 525 مليون نسمة كطبقةٍ متوسطة وهو رقمٌ يتخطى مجموع سكان الاتحاد الأوروبي. ويمكن القول بأن أحد العوامل الرئيسة التي أسهمتْ في تشكيل أسواق الطاقة طوال العقود الثلاثة الأخيرة، هو نمو الطلب على الطاقة من خارج دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، فبين عامي 1990 و2013 ارتفع استهلاك البترول في تلك الدول من نحو 25 مليون برميل يومياً إلى 45.7 مليون برميل يومياً؛ أي بزيادة تفوق 20 مليون برميل يومياً. في الفترة نفسها، لم تتجاوز زيادة الطلب في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 3.8مليون برميل يومياً. وأضاف أنه من المتوقع نمو حجم الطبقة المتوسطة في العالم في خلال العقدين القادمين من المستوى الراهن 1.8 مليار نسمة إلى 3.2 مليار نسمة في 2020، وإلى 4.9 مليار نسمة في 2030، ومن المتوقع أن يكون معظم هذا النمو في دول آسيا.

وخلافاً لما في دول الغرب، سيكون غالبية الطبقة المتوسطة الناشئة في آسيا، شباباً يتطلّعون لزيادة استهلاكهم. وسيؤدي ارتفاع مستويات دخل التركيبة السكانية الشابّة إلى زيادة قوية في الطلب على البترول، حتى بعد الأخذ في الحسبان ترشيد الاستهلاك واستخدام بدائل للوقود الأحفوري في قطاع النقل. وبالنسبة لاستهلاك البترول والوقود السائل، حتى بعض السيناريوهات المتشائمة، تتوقع زيادة في الطلب تقارب 20 مليون برميل يومياً بحلول عام 2035.

وأشار الأمير عبدالعزيز بن سلمان إلى أنه في حين أن من المتوقع استمرار الطلب على البترول في ات جاهه التصاعدي، يتبيّن أنّ زيادة العرض أصبحتْ أكثر تحدياً وأعلى تكلفة. فقبل بضع سنوات، هيمنَتْ فكرة المتحمّسين لنظرية ذروة النفط، المصرّةِ على أن الإنتاج العالمي للبترول تخطّى مستوى الذروة. أما اليوم، انقلبت تلك الفكرة رأساً على عقب، واستُبدلت توقعات الذروة بتوقعات الوفرة. ويتوقع البعض احتمال توجّه السوق البترولية نحو صدمة في أسعار البترول، واصفين الوضع الراهن بأنه شديد الشبه بالفترة 1981- 1986، التي بلغت ذروتها بانهيار شديد في أسعار البترول عام 1986، وقد أسهم تطوير موارد الزيت الصخري في الولايات المتحدة إلى حد كبير في هذا التحوّل في الرؤى. وبين مساعد وزير البترول والثروة المعدنية لشؤون البترول، أن هذه الرؤية حول وفرة البترول، لا تتوافق كلياً مع البيانات. ففي العام 2002 بلغ مجموع الإنتاج من خارج دول «أوبك»، باستثناء دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، نحو 36 مليون برميل يومياً. وفي العام 2013 بقي مجموع الإنتاج من تلك الدول عند نفس المستوى. بعبارة أخرى، طوال العقد الماضي، لم يرتفع مستوى الإنتاج من خارج دول «أوبك» باستثناء دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، ما يعكس حقيقة أن الاكتشافات البترولية الجديدة، وتطوير موارد جديدة كانت بالكاد كافية لتعويض معدلات الانخفاض في الحقول القائمة، التي كانت بالغة الحدّة في بعض الدول؛ فعلى سبيل المثال، انخفض إنتاج المكسيك من 3.8 مليون برميل يومياً في 2004 إلى 2.8 مليون برميل يومياً في الوقت الراهن، كما انخفض إنتاج المملكة المتحدة من 2.9 مليون برميل يومياً في ذروة إنتاجها عام 1999 إلى 866 ألف برميل يومياً في الوقت الراهن. ومع توقّع انخفاض المعدلات العالمية بنسبة 5 % إلى 6 %، وتحتاج صناعة البترول العالمية إلى إضافة إنتاج سنوي جديد يتراوح بين 4.5 - 5.5 مليون برميل يومياً، لتعويض الخسائر الناجمة عن انخفاض معدلات الإنتاج الطبيعية.

وأفاد أنه بالرغم من التواضع الشديد لنتائج التنقيب والحفر طوال العقد الماضي، ومعدلٍ مخيّب للآمال على صعيد الاكتشافات البترولية في الدول خارج منظمة أوبك، لا يزال البعض يتحدّث عن إمدادات بترول وفيرة وأسعار بترول ضعيفة في الأجل الطويل، غير مدركين أنّه حتى في ظل هذه الأسعار القياسية للبترول التي تخطى معدلها 100 دولار للبرميل خلال السنوات الثلاث الماضية، عمدت الشركات البترولية العالمية إلى خفض ميزانيات التنقيب سعياً لتخفيض التكاليف. والأسوأ من ذلك، أنّ النفقات الرأسمالية للتنقيب والإنتاج، ارتفعت إلى حدٍّ كبير خلال العشر سنوات الماضية. فالاكتشافات الجديدة أقل حجماً، ومعدلات انخفاض الحقول المنتجة حالياً تضاعفت بحلول فترة اكتمال استهلاك الأصول والحاجة إلى إعادة تطويرها، والشركات زادتْ من نفقاتها في مجال الصيانة. وقد أدى ذلك إلى البحث عن مكامن جديدة للبترول بكلفة أعلى للتعويض عن النقص في مناطق أخرى، ما نتج عنه ارتفاعاً في مستوى سعر التعادل، أي تعادل النفقات مع العوائد، لدى شركات البترول العالمية، التي تعاني من تراجع تدفقاتها النقدية الحرّة بمقدار النصف منذ عام 2005. لذلك لم يكن مستغرباً جراء ضعْف أسعار البترول في الأسابيع الأخيرة، أن يحذّر بعض الرؤساء التنفيذيين لكبرى شركات البترول من تعرّض المليارات من الاستثمارات البترولية لمخاطر تراجع أسعار البترول الخام. وتحدّث الرؤساء التنفيذيون صراحةً عن اعتماد سعر 100 دولار للبرميل كمستوى سعر تعادل للنفقات مقابل العوائد، وأشاروا إلى أنّ اقتراب الأسعار من 100 دولار للبرميل، أصبح مصدر قلقٍ مقارنة بالسنوات القليلة الماضية، حينما كانت تلك الأسعار تشكّل مصدر ارتياح.

وتابع الأمير عبدالعزيز بن سلمان يقول: إن سوق البترول يحتاج إلى سعر مرتفع لتحقيق التوازن بين العرض والطلب، خصوصاً مع زيادة الإنتاج من مصادر جديدة وأكثر صعوبة مثل الزيوت الرملية والصخرية والبحرية، والزيوت المستخرجة من تحت طبقات الملح في المياه العميقة جداً، حيث أنّ هذه المصادر الجديدة للبترول تساعد في وضع حد أدنى لأسعار البترول في الأجل الطويل. وكما أشار مؤخراً الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية المهندس خالد الفالح بأنّه «للاستفادة من هذه المصادر البترولية التي تزداد كلفةً، يجب أن تكون أسعار البترول مرتفعة بما يكفي لجذب الاستثمارات المطلوبة. أمّا الوجه الآخر للعملة نفسها، فهو أن الأسعار في الأجل الطويل؛ ستحظى بدعم التكلفة المرتفعة للبرميل الجديد المنتج من هذه المصادر».

لقد أظهرتْ السوق البترولية إشاراتٍ للتحديات المقبلة بخصوص التكاليف المتزايدة، والنقص في القوى العاملة، وتقلّص مناطق تواجد البترول الرخيص والسهل. وبينما شهدتْ الأسعار الفورية تراجعاً في الأسابيع الأخيرة، فإنّ أسعار بترول «برنت» للأجل الطويل، تتداول حالياً بأسعارٍ أعلى من السنة الماضية.

ولفت الانتباه إلى أنه إضافةً إلى مصادر الإمداد الأكثر كلفة وصعوبة فإن معظم المنظمات الدولية تتوقع المزيد من الاعتماد على منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي والعراق. ففي النشرة الأخيرة من «تقرير الاستثمار العالمي في مجال الطاقة» تشير وكالة الطاقة الدولية IEA إلى ضرورة زيادة الاستثمار في قطاع البترول في منطقة الشرق الأوسط، لتعويض الانخفاض في مناطق أخرى من العالم. وفي حال لم تنجح دول الشرق الأوسط بزيادة الاستثمار، تتوقع الوكالة أن ترتفع أسعار البترول بنحو 15 دولاراً فوق مستوى الأسعار الراهنة بحلول عام 2025 بالأسعار الحقيقية.

وتشير هذه الأنماط من العرض والطلب إلى أن أساسيات أسواق الطاقة في الأجل الطويل لا تزال قوية. ففي السوق البترولية، وعلى غرار أي سوقٍ أخرى، يمكن أن تؤثر عوامل مؤقتة، كالمخاوف بشأن تعافي الاقتصاد العالمي، والأحداث الجيوسياسية، والمضاربات في الأسواق المالية للسلع، ومنها البترول، على تقلبات السعر في الأجل القصير.

ولكن بالنسبة إلى منتج ومصدّر رئيس للبترول كالمملكة، من مصلحتها في الأجل الطويل استقرار السوق، فإنّ التقلبات اليومية، والأسبوعية أو حتى الشهرية، غير مهمة ولا تتعدى أن تكون مصدر ضوضاء حول اتجاه ثابت. عوضاً عن ذلك، يرتكز اهتمام المملكة على أساسيات السوق في الأجلين المتوسط والطويل، خاصةً أنّ المملكة نجحت طوال السنوات القليلة الماضية بزيادة مرونتها الاقتصادية أمام الضعف المؤقت في السوق البترولية، نتيجة لسياساتها المالية والنقدية الحصيفة.

وقال الأمير عبدالعزيز بن سلمان، إن دول مجلس التعاون الخليجي ستواصل أداء دور مركزي في ظل هذا النظام المركّب للطاقة؛ أمّا الآراء القائلة أنّ الزيت الصخري بالولايات المتحدة، سيؤدي إلى تراجع الدور المهم الذي تؤديه المملكة، وغيرها من المنتجين بدول الخليج في أسواق الطاقة العالمية خلال القرن الماضي، ليست إلا آراءً مضللة. فبالإضافة إلى حجم احتياطياتها وإنتاجها، يوجد عامل مفصلي يميّز المملكة، يتمثّل بأنها الدولة الوحيدة التي تتمتع بطاقة إنتاجية فائضة قابلة للاستخدام. ففي حال انقطاع الإمدادات نتيجة عوامل جيوسياسية أو فنية، وهو ما حدث كثيراً في السنوات الأخيرة، حيث عمدت المملكة إلى استخدام فائض طاقتها الإنتاجية، لتعويض نقص العرض، مما أدى إلى استقرار أسعار البترول. فبين عامي 2011 و2013 أشارت التقديرات إلى أنّ الأسواق فقدتْ أكثر من 1.6 مليار برميل من إنتاج البترول نتيجة انقطاع الامدادات، بادر المنتجون بدول مجلس التعاون الخليجي إلى استخدام فائض طاقتهم الإنتاجية، لتعويض نقص العرض والحيلولة دون الارتفاع السريع والمبالغ فيه لأسعار البترول. وقد ارتفع الانتاج المشترك للمملكة والكويت وقطر والإمارات من حوالي 14 مليون برميل يومياً، قبل بداية الربيع العربي، إلى أكثر من 16 مليون برميل يومياً خلال معظم السنوات الثلاث الماضية.

وأوضح أن أهمية الطاقة الإنتاجية الفائضة لا تقتصر على فترات انقطاع الامدادات، فخلال الفترة 2002 -2007 ارتفع الطلب العالمي على البترول بوتيرة سريعة جداً نتيجة ارتفاع النمو الاقتصادي في آسيا. وخلال نفس الفترة، ارتفع بحدةٍ الطلب العالمي على البترول بـ 8 ملايين برميل يومياً، ونجحت المملكة والمنتجون بدول مجلس التعاون الخليجي بزيادة الإنتاج لتلبية ارتفاع الطلب العالمي على البترول. ولولا هذه القدرة على زيادة الإنتاج خلال فترة قصيرة نسبياً، لتصاعدت الأسعار لتحقيق توازن السوق، مما كان سيؤدي إلى زيادة التضخم العالمي، وإلى تراجع نمو الاقتصاد العالمي. لذا، تُعد تلك الطاقة الإنتاجية الفائضة، بمثابة تأمين ضد التقلّبات غير المتوقعة في أوضاع سوق البترول العالمية، وأداة رئيسة للمحافظة على استقرار كلٍ من أسواق البترول والاقتصاد العالمي.

وتابع الأمير عبدالعزيز بن سلمان: كما تنتشر وجهة نظر أخرى على نطاق واسع، تفيد بأن تراجع اعتماد الولايات المتحدة على واردات البترول من المنطقة، سيؤدي إلى تراجع اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط وعلاقاتها المتميّزة مع دول مجلس التعاون الخليجي. وأضاف: أنه تاريخياً، كان اعتماد الولايات المتحدة على الواردات من المملكة متواضعاً، ففي عام 1977 بلغت واردات الولايات المتحدة من البترول الخام من المملكة معدل 1.3 مليون برميل يومياً، ثم ارتفعت إلى 1.7 مليون برميل يومياً في عام 1991، إبّان حرب الخليج الأولى، لتعود إلى 1.3 مليون برميل يومياً في عام 2013. كما بلغ معدل واردات الولايات المتحدة من البترول الخام من الكويت عام 2013 حوالي 300 ألف برميل يومياً، وهذه تعد أكبر كمية تستورها الولايات المتحدة من الكويت خلال العقدين الماضيين. وبالنسبة لمنتجي دول المجلس الأخرى كالإمارات وعمان وقطر كانت صادراتها البترولية إلى الولايات المتحدة تعادل الصفر تقريباً خلال العقود الثلاثة الماضية. وتدل هذه الاتجاهات على أنّ التغيرات في صادرات المنتجين بدول المجلس إلى الولايات المتحدة، تمليها ظروف السوق والاعتبارات التجارية.

وسواءً استوردتْ الولايات المتحدة البترول الخام من دول مجلس التعاون الخليجي أمْ لم تستورد، فهي مسألة قليلة الأهمية بالنسبة إلى ديناميكية أسواق البترول العالمية، ذلك أن الخامات البترولية قابلة للاستبدال بخامات أخرى مشابهة، فالبترول الذي لا يمكن بيعه للولايات المتحدة سيجد طريقه إلى أسواقٍ أكثر حاجة إليه.

وبين أنه علاوة على ذلك، فإن أسواق البترول العالمية مترابطة إلى حدٍّ كبير، وأيّ صدمة على مستوى العرض في أي جزء من العالم، من شأنه أن يؤثر على أسعار البترول في أنحاء العالم كافة. وبما أن الولايات المتحدة لا تزال بعيدة عن تحقيق هدف الاكتفاء الذاتي من البترول الخام، فلا يمكنها أن تنأى بنفسها عن مثل تلك التقلبات في امدادات البترول العالمية. ولكن لنفترض جدلاً أن الولايات المتحدة باتت اليوم مكتفية ذاتياً، فإن انقطاع الإمدادات يمكن أن يظلّ مُكلّفاً، ليس فقط من حيث تأثيره المباشر على الاقتصاد الأمريكي، بل أيضاً بشكلٍ غير مباشر من خلال تأثيره على شركائها التجاريين. حيث سيؤدي النقص في الإمدادات إلى التدافع على البترول، ما سينتج عنه ارتفاع الأسعار ويؤثر ذلك بدوره على الاقتصاد العالمي، ويطال في نهاية المطاف الاقتصاد الأمريكي. ولمنع تأثير صدمات انقطاع الإمدادات، سيتعيّن على الولايات المتحدة فصْل اقتصادها وسوق البترول المحلية عن بقية العالم من خلال سياسات انعزالية، وهو أمر غير واقعي للغاية وغير مجدٍ اقتصادياً.

وأفاد مساعد وزير البترول والثروة المعدنية لشؤون البترول، أنه انطلاقاً من القناعة الثابتة للمملكة بقوة أساسيات سوق الطاقة في الأجل الطويل، ورؤيتها بأنّ المنطقة ستؤدي دوراً أساسياً في تلبية نمو الطلب العالمي المتوقع على الطاقة، فإنّ حكومات دول مجلس التعاون تسعى إلى بذل كل الجهود الممكنة للحفاظ على موقعها، وتحسينه في النظام العالمي في مجالات السياسة والاقتصاد والطاقة. ومن أجل المحافظة على قدرتها التصديرية، تعمل دول مجلس التعاون الخليجي بجدٍّ على إعداد برامج جديدة لرفع كفاءة استهلاك الطاقة. وكما ذكرتُ مؤخراً في مقالٍ منشورٍ في مجلة منتدى أوكسفورد للطاقة بأنّه «رغم أنّ هذا النمو في الطلب يُعزى بصورة أساسية إلى النمو الصناعي وتنامي الرفاهية الاقتصادية في المملكة، فإن جزءاً كبيراً منه نتج عن عدم الكفاءة في الاستهلاك، وأدّى إلى هدر الطاقة مما يجعل هذا النمو المتسارع أمراً غير قابلٍ للاستدامة». وتشهد المملكة بالفعل مجهودات لخفض كثافة الطاقة في النشاط الاقتصادي، من خلال تطبيق برامج لرفع كفاءة الطاقة. بالإضافة إلى تحسين كفاءة الطاقة، تعمل دول المنطقة على تنويع استخداماتها لمصادر الطاقة، إذ أنّ معظم الطلب على الطاقة بدول مجلس التعاون الخليجي، يتم تلبيته حتى الآن من المصدرين الرئيسين لموارد الطاقة، هما البترول الخام والمنتجات البترولية والغاز الطبيعي، وتبذل جهوداً كثيرة لزيادة دور الطاقة المتجددة والطاقة النووية في مزيج الطاقة في دول المجلس. وهذه الجهود لرفع كفاءة استهلاك الطاقة، وتنويع مصادرها، ينبغي النظر إليها بوصفها تأكيداً لقناعة المملكة بقوة أساسيات أسواق البترول في الأجل الطويل، ما يمكّن المنطقة من المحافظة على قدرتها التصديرية. وأشار الأمير عبدالعزيز بن سلمان إلى أنه مع أنّ روابط دول مجلس التعاون الخليجي مع الاقتصاد العالمي تشكّلتْ عن طريق تدفقات تجارة البترول الخام، إلا أنّ طبيعة تلك الروابط مستمرةٌ في التطور، مع سعي بعض دول المنطقة إلى تحويل قسمٍ أكبر من نفطها الخام إلى منتجاتٍ مكررة ومنتجات بتروكيماوية، لتنويع قاعدتها الاقتصادية وايراداتها، وتحقيق مزيدٍ في القيمة المضافة للاقتصادات المحلية، وتوسيع قاعدة المعرفة لاقتصادات دول المجلس، من خلال تطوير قدرتها على تقديم مجموعة كبيرة ومتنوعة من المنتجات البالغة التعقيد. وكما أشار وزير البترول والثروة المعدنية المهندس علي العيمي قبل بضع سنوات أنّ «المملكة تعتمد اليوم إلى حدٍّ كبير على مصدر واحد للدخل من إنتاج الهيدروكربونات ولا يمكن لنا أن نستمر إلى الأبد في الاعتماد على مصدر الدخل هذا، دعونا نبذل قصارى جهدنا لتنويع الاقتصاد، والاتجاه نحو التصنيع لننتقل في النهاية إلى مجتمع المعرفة»، ويعد انتشار المجمّعات الصناعية والتجمعات حول مصانع البتروكيماويات، جزءاً من هذه الاستراتيجية. كمشاريع التجمعات الصناعية السعودية، مثل مشاريع الس يارات، والطاقة الشمسية والبلاستيك والتغليف، والأجهزة المنزلية - وتُشير بوضوحٍ إلى رغبة الحكومات الإقليمية في إنشاء الإطار المناسب لتعزيز التكامل للوصول للمنتجات النهائية، وتطوير قاعدة صناعية تضم الأنشطة المساندة كافّة، بما في ذلك التدريب ومراكز البحوث ومختبرات البحث والتطوير، فضلاً عن عنصرٍ مهمٍ آخر يتعلّق بدمج المصافي والعمليات البتروكيماوية، وهو اتجاه اكتسبَ زخماً في السنوات الأخيرة، كما يتضح من إطلاق مشروعاتٍ عملاقة جديدة مثل «صدارة» و»بترورابغ» و»ياسرف» و»ساتروب» و»جيزان».

وأضاف أن المملكة تمتلك موارد قيّمة أخرى غير البترول والغاز، فقد حددت وزارة البترول والثروة المعدنية 1270 مصدراً للأحجار الكريمة، و1170 مصدراً للمعادن الأخرى، كما أصدرتْ أعداداً متزايدة من امتيازات التعدين والاستكشاف. كذلك، اتُخذت خطوات ملموسة في السنوات الأخيرة، لتشجيع مشاركة القطاع الخاص بشكلٍ كبيرٍ في مجال تطوير قطاع التعدين، اشتملتْ هذه الخطوات على حوافز للاستثمار للشركات المحلية والأجنبية، وشركات خدمات المساندة، بهدف تطوير قطاع التعدين. وتمَّ ضخّ استثمارات كبيرة في البنية التحتية الصناعية كمحطات توليد الكهرباء، وإنتاج المياه، ومرافق التنقية والتوزيع والطرق والاتصالات لدعم عمليات التعدين. ويشكّل استهلاك الطاقة جانباً مهمّاً في عمليات استخراج المعادن ومعالجتها، وبالتالي فإنّ تنمية صناعة التعدين، ستمكّن المملكة من زيادة القيمة المضافة المحلية من استغلالها لثرواتها الطبيعية، وستساعد استراتيجية المملكة المزدوجة للتكامل الأفقي والرأسي في عمليات التكرير والبتروكيماويات والتعدين على تنويع قاعدتها الاقتصادية، وزيادة الطلب المحلي المرشّد على مصادر الطلب على الطاقة، وبالتالي جعل اقتصادها أقلّ عرضةً للتقلبات الدورية في أسواق الطاقة العالمية.

موضوعات أخرى