27-09-2014

مستقبل «التدين»

قبل الحديث عن التدين -بوصفه حلا ومشكلة في ذات الوقت- أؤكد هنا على مسألة في غاية الأهمية -في تقديري- وهي أن النسيج الاجتماعي السعودي بفعل وسائل التواصل في الإعلام الجديد يتعرض لاختراقات ضخمة وطبيعية!

والنتيجة الحتمية لذلك هي انحسار الغطاء الاجتماعي عن كثير من المفاهيم والتصورات السائدة في المجتمع، ولن يبقى منها إلا ما كان صحيحا شرعا أو عقلا. ويؤكد الكثير من علماء الاجتماع أن أخطر أنواع التحول هو التحول الإنثروبولوجي، إذ هو تحول سريع وساحق، وسيخلف حتما الكثير من الآثار على العقل الجمعي للمجتمع، وسر خطورة هذا النوع من التحول أنه يخلخل الكثير من الثوابت الاجتماعية في المفاهيم والتصورات، وهذه -أعني المفاهيم والتصورات- هي ما تكون عادة: الحاضن والغطاء للقناعات والتصورات الدينية، فإذا ما تلاشى الغطاء الاجتماعي عنها -مع هذا التحول- فستتأثر قطعا، إما بذوبانها واضمحلالها أو بالانقلاب والثورة عليها، وهنا تأتي أهمية فرز التصورات الدينية الصحيحة ممن سواها، وكثير من حركات التحولات الدينية في أي مجتمع يسبقها عادة تحولات اجتماعية. وهذا ما يدعونا إلى الحديث وبصراحة شديدة عن المستقبل «للتدين» من حيث المفهوم والماهية والخطاب، إذ إن ثمة أسئلة ملحة لا بد من الإجابة عنها: ما مفهوم التدين؟ وما هي ماهيته؟ وما هو نوع الخطاب الحاضن له في مجتمعنا؟ وما الفرق بين الدين والتدين؟ وهل هو ثابت أو متغير؟

من أبرز أسباب مناقشة هذا الموضوع -إضافة إلى ما تقدم ذكره حول حركة التحول الاجتماعي- هو أن الخيارات -اليوم- في التدين أمام الشاب باتت متعددة وخطيرة في آن واحد، ففي السابق كان الشاب حينما يريد أن يكون متدينا أو محافظا لا يرى أمامه كأنموذج يمكن أن يحتذيه -سوى والده المتدين بالفطرة أو يرى أخاه أو إمام مسجد حيه الذي يسكن فيه، بينما اليوم يمكنه بسهولة أن يرى - وهو في أقصى غرفة في بيته- الكثير من النماذج المتطرفة وكلها تشرعن تطرفها وترسخ في وعي المشاهد والمتابع أن ما تفعله هو نوع أو لون من ألوان التدين، وتطرح نفسها على أنها التطبيق الصحيح والدقيق لشريعة الإسلام العظيمة! فمثلا حركة «داعش» التي تقطع رؤوس مخالفيها وتضعها في القدور تفعل ذلك وهي تعتقد أنها الممثل الصحيح لأعظم شريعة عرفتها البشرية، شريعة محمد «صلى الله عليه وسلم»!! وغيرها من حركات التطرف التي تتخوض في التكفير وتوزع صكوكه بالمجان هي أيضا تعتقد أنها تمثل الدين الحق، وثمة نماذج أخرى متفرقة ومتطرفة لا تتبنى خيار العنف كاستراتيجية في التغيير لكنها تكاد أن تجتمع على اختصار الدين كله بالشأن السياسي، فهي توظف كل شيء لخدمة هذا الهدف أو المشروع، حتى النصوص الشرعية يجري اليوم تفريغها من مضامينها السلفية وعزلها عن سياقاتها الظرفية ومن ثم إعادة إنتاجها من جديد وصياغة دلالاتها بما يتوافق مع المشروع السياسي.

وهكذا يمتلئ الأفق بنماذج سوداء كلها تزعم وصلاً بالدين الصحيح، والسؤال الصعب: أي هذه النماذج سيحتذيها شبابنا؟!

ولهذا كله فإننا أحوج ما نكون اليوم إلى الحديث عن التدين وشرح مفهومه للشباب وبعث التدين الفطري الصحيح في النفوس الذي يوشك بكل أسف أن يغيب أو يضمر.

إن التدين هو في الأصل محاولة لتطبيق الدين الصحيح، وبالتالي فهو لا يعدو أن يكون عملية اجتهادية، قد تصيب الحق وقد تخطئه، ومن أكبر الأخطاء الخلط بين التدين وبين الدين، فالدين معصوم وثابت والتدين تطبيق واجتهاد قد يتغير وقد يلحقه الخطأ والتقصير.

وإذا كان ذلك كذلك فإننا في أمس الحاجة إلى أن نرسخ في وعي الشاب المتدين قضيتين مهمتين:

أولاهما: التحذير من الخلط بين التدين والدين، فالأول هو مجرد محاولة لتمثل النموذج الأول/ الدين، وبالتالي فمن الطبيعي أن يلحقه الخطأ والتقصير، والثاني معصوم وثابت لا يتغير، والخلط بين هذين الأمرين هو ما أفرز لنا خطابين متطرفين: أولهما خطاب الإفراط/ الغلو الذي فسر تغير الاجتهاد في بعض المسائل الدينية بأنه انقلاب على المنهج ونكوص عن الحق وارتداد عن الشريعة.

وثانيهما: خطاب التفريط/ الإلحاد أو التجديف، الذي فسر هذا التغير بوجود خلل في المنهج الصحيح وإشكال في الشريعة.

وحتى أوضح المشكلة أكثر يمكن أن أستدعي هذا المثال: حينما وقفت الدولة قبل سنوات أمام تيار العنف بكل قوة وأعلنت معه حربا مفتوحة، وكان أولئك يرفعون شعار الجهاد في سبيل الله وتطبيق الشريعة، ولهذا نجحوا بكل أسف في رسم هذه الصورة الخادعة عند بعض الشباب، واستقر في وعيهم أن الدولة لا تحارب تطبيقا متطرفا يدعي تمثيل الجهاد وإنما تحارب شعيرة الجهاد في سبيل الله، وفي المقابل لم ينجح الخطاب الشرعي «الدعوي» في فك الاشتباك بين القضيتين في وعي الشاب رغم وضوحهما غاية الوضوح، وأن ثمة فرقا بين الجهاد في سبيل الله تعالى كشعيرة من شعائر الإسلام العظمى وبين محاولة تطبيقه وتمثله، فالأول الطعن فيه طعن في الدين ومروق من الشريعة، والثاني: مواجهته ومكافحته بقوة هو التمثيل صحيح للجهاد في سبيل الله.. ونتيجة لذلك بكل أسف بات بعض الشباب لا ينظر لرجل الأمن الذي يحمل روحه على كفه وهو يحارب هذه الفئة بأنه هو الممثل الصحيح لتطبيق شعيرة الجهاد في سبيل الله!! وفي ذات الوقت ينظر إلى الإرهابي الذي يستحل الدماء المعصومة بأنه مجاهد في سبيل الله!! فأين المشكلة إذا؟! بالتأكيد فإن الخطاب الشرعي هو المشكلة وهو الحل في ذات الوقت.

ويلتحق بهذه المسألة مسألة في غاية الأهمية: قضية نقد الأفكار الدينية، وهل يؤول نقد الفكرة إلى نقد الشعيرة؟ والجواب بالطبع أن الجهة منفكة بين الاثنين فلا يلزم من نقد الفكرة التي تدعي تمثيل الشريعة نقد الشريعة، وقد كانت هذه المسألة واضحة غاية الوضوح لدى السلف من الصحابة ومن دونهم من التابعين، فلا يترددون في الحكم على التطبيق بأنه خطأ وأنه مضر بالشريعة مهما كانت نية صاحبه، ومهما رفع من شعار، ولم يعرف أنه كان ينكر بعضهم على بعض في هذا، فمثلا لما رأى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» أن كثرة رواية الحديث والإيغال فيها قد تؤثر على عناية الناس بالقرآن أو يجعل الناس تتساهل برواية الحديث من غير تثبت، لما رأى ذلك الفاروق نهى أبا هريرة «رضي الله عنه» عن التحديث مع أنه لا يشك أحد أن أبا هريرة كان من أوعية السنة وأحد كبار حفاظها، وله على الأمة منة عظيمة بحفظ حديث رسول الله «صلى الله عليه وسلم» ونشره بين الناس، ومع هذه المنزلة العظيمة لهذا الصحابي إلا أنه لم تنقل لنا كتب الرواية والتاريخ أن أحدا «زايد» على الخليفة الراشد بعدم حرصه على السنة، أو أنه منع طريق العلم وسد باب الخير، كل هذا لم يحصل إطلاقا، والسبب في تقديري أن التدين الذي تتلبس به تلك النفوس وتطمئن به القلوب هو التدين الفطري، وليس التدين الحركي المسكون بالتوجس والمؤامرة وإساءة الظن!

ثانيهما: تدريب الشاب في مرحلة مبكرة على التعامل مع الخلاف الفقهي، وأن هذا الخلاف في فروع الشريعة هو رحمة بالأمة، ومن أكبر الأخطاء في التشكيل العقلي للشاب المتدين تحويل المتغيرات الشرعية إلى ثوابت أو العكس أيضا، بل يجب أن يعلم أن مسائل الخلاف مهما كثرت هي مسائل متغيرة، قد تكون في هذه المرحلة على هذا الرأي وقد تتحول في مرحلة أخرى إلى رأي آخر بحسب حركة الاجتهاد الفقهي، وتثبيت المتغير كتغيير الثابت لا فرق بينهما، وهنا بهذه المناسبة أتوجه لسمو الأمير خالد الفيصل وزير التربية والتعليم بالنظر في هذا الموضوع وضرورة أن يكون للمقررات الشرعية حظ من الخلاف الفقهي التي تجلي سماحة الإسلام وعالميته، بحيث يتم لفت نظر الشاب في مرحلة مبكرة إلى سعة هذه الشريعة وثرائها، وتدربهم أيضا على التعامل الصحيح مع الخلاف الفقهي، وبرأيي لو كانت هناك مادة مستقلة باسم: «الحنيفية السمحة» مثلا، وجرى تخصيصها لهذا الموضوع لما كان كثيرا؛ لأنه تغرس في وعي الشاب -وهو في سنة مبكرة وقبل أن تختطفه تيارات العنف- سعة الشريعة، وسماحة الإسلام وعالمية الرسالة المحمدية، وهي -بإذن الله- تحميه من حيلة هذه التيارات؛ لأن أول حيلة تلجأ إليها هذه التيارات حينما تريد أن تغري الشاب بالانضمام إليها هي أن تضيق الخيارات أمامه، وتجعله بين أمرين: إما فهمهم للشريعة ومن ثم الجنة، وإما رفض هذا الفهم ومن ثم الجحيم في الدار الآخرة، فيفضل الشاب الأولى قطعا! لكن حينما يتشكل وعي الشاب في مرحلة مبكرة على سعة الشريعة وعالميتها ويطلع باعتدال على مساحة الخلاف الفقهي فيها الذي يراعي التنوع والتجدد والاستيعاب للنوازل فإننا بهذه الطريقة سنقطع الطريق عليهم وستتكون لدى الشاب مناعة قوية وقاعدة صلبه تحول بينه وبين الاستلاب والاستقطاب من هذه الجماعات، وللحديث بقية بإذن الله.

khaled4321@gmail.com

كلية الشريعة - جامعة القصيم

مقالات أخرى للكاتب