15-10-2014

تسرعت في الحكم أيها القارئ العزيز

استفدت كثيراً من حوار نشرته صحيفة الحياة يوم السبت 11/10/2014م مع رئيس الجمهورية التركي السابق عبدالله غل، بعد أن غادر قصر الرئاسة الذي دخله بالانتخاب وخرج منه بنفس الآلية. السيد عبدالله غل رجل يستحق أعلى درجات الاحترام، قدم لبلاده أفضل ما يستطيع السياسي المخلص تقديمه، مازجاً بين القبول بميزات الإدارة العلمانية لشؤون البلاد مع الاحتفاظ للدولة بكامل الهوية الإسلامية. أحد الأسئلة التي وجهها المحاور إلى السيد عبدالله غل كان التالي: في ضوء ما يحدث في المنطقة فإن البعض يرى أن العلمانية التركية مهددة لصالح تعريف إسلامي للعلمانية في الدستور في ظل حكم العدالة والتنمية؟.

جواب عبدالله غل: في السابق كانت هناك تطبيقات وتفسيرات مختلفة للعلمانية في تركيا، والقسم المحافظ والمتدين من الشعب التركي كان يعترض على هذه التفسيرات، ونحن من بين من اعترض على ذلك لأننا نؤمن بأن الحرية الدينية جزء لا يتجزأ من الحريات الأساسية والعامة. أتحدث عن الحرية وليس عن الفرض بالقوة، مثل السماح بارتداء الحجاب وليس بفرضه على البنات، لكن في السابق كان هناك إجبار على «منع الحجاب» وهذه تفسيرات خاطئة للعلمانية. لذلك فإن الشعب التركي لم يكن لديه اعتراض أبداً على النظام العلماني بتفسيره الأنجلوسكسوني الأصلي. نحن لم نغير الدستور وما زال الدستور يقول: إن تركيا دولة علمانية، ونحن حاولنا تصحيح الأخطاء التي جاءت مع تفسيرات خاطئة للعمانية انتهى.

أكتفي بنقل هذه الفقرة من حوار السيد عبدالله غل عن مفهوم العلمانية في تركيا. واضح من الجواب وجود اختلاف تاريخي حول تعريف العلمانية في البدايات السياسية لحزب العدالة والتنمية. هذا الاختلاف تم تجاوزه بالمزج بين الاحتفاظ بالهوية الإسلامية وميزات التطبيق الإداري أو البيروقراطية العلمانية.

جواب السيد عبدالله غل على السؤال ذكرني فوراً بتعليق أحد المتابعين لمقالاتي في هذه الزاوية المتواضعة، وهم قليلو العدد كما يتضح من ندرة التعليقات. كان تعليق القارئ العزيز على المقال المقارن بين إرهابنا وإرهاب الآخرين المنشور بتاريخ 8/10/2014م، وبهذا النص: أرى منك تحولاً استراتيجياً في الرؤى. أرجو أن تكون آراء كتابنا العلمانيين «هكذا» أوسع وأشمل، مثلما كتبت اليوم.انتهى

واضح من التعقيب أن هذا القارئ لديه ثقة كبيرة بمفهومه الشخصي عن العلمانية، بحيث يستطيع تصنيف كتاب الرأي في الصحافة السعودية إلى علمانيين وغير علمانيين، علاوة على استنتاجه الغريب عن الكاتب بحدوث تحول إستراتيجي «هكذا» في الرؤى لديه.

لا بأس بما يراه وله كامل الحرية في ذلك، ولكن أما وقد سمح لنفسه بالتعبير عن رأيه فسوف أستفيد من نفس الحق لأقول له إنه مخطئ ومتسرع في الحكم. خطأ القارئ العزيز ينبع من اعتقاده بصحة فهمه لمصطلح العلمانية، علاوة على اعتقاده الخاطئ أيضاً بأنه يعرفني من خلال فهمه الخاص لما أكتب، لدرجة حسن ظنه بامتلاكي استراتيجية خاصة بي في كتابة الرأي ومحاولة التأثير في القارئ. أقول للقارئ العزيز، ليس عندي أية إستراتيجية، ولا أنت عندك، فالكلمة بمعناها الحقيقي كبيرة علي وعليك. الإستراتيجية كمصطلح سياسي حركي تعني وجود هدف مسبق ومحدد، يحتاج إلى عمل تكتيكي دؤوب لتحقيقه.

أتوقع أن القارئ العزيز اشتق استنتاجاته لاعتقاده أن الكاتب أصبح أقل علمانية مما كان يصنفه به قبل قراءة المقال المذكور. أتوقع أيضاً أننا، القارئ والكاتب وأغلب المواطنين، نتشارك في نفس الهموم، وبالأخص منها ما يتركز على مصائر أجيال ما بعد انتهاء الوفرة وبداية شح الموارد.

أرجو أن أكون مخطئا أيضاً لو استنتجت أن القارئ المعقب لا يعطي مصطلح «علماني» حقه الصحيح من الفهم، بل يستعمله مثل آخرين كثيرين غيره كسلاح شخصي للمفاصلة بين مؤمن صادق ومواطن أقل صدقاً في إيمانه، وبين المواطن الصالح والأقل صلاحاً، إلى آخر التصنيفات الفاسدة التي فرقت ومزقت أمة قوامها مليار ونصف نسمة ولكن وزنها العلمي والمعرفي يلامس الصفر.

أؤكد للقراء هنا جميعهم، عدم حدوث أي تحول استراتيجي ولا تكتيكي وأن قناعاتي لم تتغير، ولا دخل لي في فهم القارئ وتأويله لمفاهيم العلمانية أو الليبرالية، إلى آخر التصنيفات المغلفة بضبابية الأهداف والمفاهيم.

إن كانت العلمانية تعني تطبيق مفاهيم رئيس الجمهورية التركية السابق عبدالله غل، أي الاستقواء بالعلوم الحديثة والتنوير المعرفي والتعايش العقلاني، مع الاحتفاظ بالمعتقد الإسلامي وبالهوية العربية، فإنني مع العلمانية.

بهذا المفهوم أيضاً أضع نفسي في صف الكتاب المحليين الملتزمين بالتزاوج المنطقي بين الهوية الإسلامية والعربية مع ميزات التطبيق الإداري للعلمانية. هذا التزاوج مع وضوح المفاهيم هو الذي أسس لنجاح التجربة التركية في التنمية، ورفضه هو الذي أسس لفشل التنمية والتعايش في دول ما يسمى بالربيع العربي.

أنصح القراء بالاستفادة من حوار صحيفة الحياة مع الرئيس التركي عبدالله غل.

- الرياض

مقالات أخرى للكاتب