الأثنين 26 ,شعبان 1422                                                                                                   Monday 12th November,2001

قالوا عن الفهد


مشاعر المواطنين


سيرة ذاتية


الرياضة في عصر الفهد


قصائد في الذكرى


من اقوال الفهد


إنجازات الفهد


مقالات في المناسبة


لقاءات


محليــات


محاضرة


ارشيف الموقع


ملامح الحكم وسياسة المبادرات
بقلم: د. حسن بن فهد الهويمل

الحديث عن الاحتفاء بمرور عشرين عاماً على تولي خادم الحرمين الشريفين مقاليد الحكم في البلاد حديثٌ له تداعياته السعيدة، ولا سيما أن تلك المناسبة الوطنية تأتي على رأس عقدين من الزمن المليء بالمبادرات الاستثنائية. ولأن هذه الذكرى تحيل إلى فضاءات مكتظة بالأفعال الرائدة، وممتدة إلى عمق زمني يسبق العقدين، فإن علينا تأملها: للذكر والشكر والمحافظة والتنمية ومضاعفة الجهد. وحين يتقصى المتابع ملامح الحكم، ويتعقب أشكال المبادرات، تشعره مجتمعة أومتفرفة بالقيم الإيجابية، التي حقق من خلالها قادته ما هو قائم في الذات أو في المكان. ولما كانت المنجزات الحسية والمعنوية أمانةً في عنق الوارثين، يتلقاها الخلف عن السلف فإن الاستذكار والاستدعاء يجددان العزم، ويشحذان الهمم، لمواصلة الأداء السليم، واقتفاء أثر القادة المخلصين.
والقادة العظام لا ينزلون من السماء، وإنما تنشق عنهم الأرض، ويتشكلون في رحم الأمة العظيمة، فهم معها كما اللفظ والمعنى، أو كما الجسم والروح، لا يكون أحدهما بغياب الآخر، والعظمة كما الجمال توافق وتناسق. وقد أومأ الملك عبدالعزيز - رحمه الله - إلى أن عزته وقوته يكمنان في شعبه الذي شد عضده، والتف من حوله، وأمده بالقوة الحسية والمعنوية، وبارك خطواته، واستجاب لنداءاته. لقد كان ذكياً حاذقاً ووفياً في هذه الإحالة، والأمة الوفية توهب القائد الوفي، وفي المثل (الناس على دين ملوكهم). ولأن نسيان الأمة في ظل عظمة القائد أثرةٌ لا إيثار، فقد كان - رحمه الله - من ذوي الفضل بعرفان الجميل، عرف لأهل الفضل فضلهم، فما استأثر بمجد، وما استقل بمأثرة، وترسم أبناؤه من بعده خطاه، فهم أبداً يحيلون نجاحاتهم إلى أمتهم، التي هيأت لهم الأجواء المناسبة للعطاء والانطلاق. هذا التلاحم مكّن الملك عبدالعزيز - رحمه الله - من تكوين دولة حضارية، جمع شتاتها، وأقال عثرتها، وتخطى بها إلى متن التاريخ، بعد أن كانت في هوامشه، ممزقة كل ممزق، يتنازعها الولاء الإقليمي أو القبلي أو المديني، تتحرك كما الرمال الزاحفة وراء مساقط الأمطار ومنابت الأشجار، يسلب فيها القوي الضعيف، لا يستقر بها مكان، ولا يتفقه فيها إنسان، ولا يُنذر فيها ضال، ولا يُعلم فيها جاهل، ولا يُعالج فيها مريض. حتى إذا أذن الله لهذا الكيان أن يكون، ألقى في روع هذا الشاب المشرد عن وطنه عزيمة العودة، لاسترجاع ملك الآباء والأجداد، فاتخذ سبيله إلى عاصمة ملكه، يقدمه حقه المشروع وسمعة أسرته الطيبة، فكان أن كتب الله له النصر، وجمع به الكلمة، ووحد به الأمة، وأذهب به العداوة والبغضاء، وألّف به القلوب.
والاستقرار السياسي واستمراره متماسك، يتأبى على التجزيئية. فالمنجزات امتداد من عهد المؤسس إلى عهود أبنائه الذين بدت إسهاماتهم في ظل رعايته وتوجيهه، تقلبوا في المسؤوليات، ونهضوا بالمهمات، وتبادلوا المواقع. وخادم الحرمين الشريفين حلقةٌ مضيئة في تلك السلسلة الذهبية، ومنجزاته استكمال لما ابتدئ به، أو إحداث لمتطلبات المرحلة، أو تجديد في نظام الحكم لمواكبة المتغيرات العالمية. وتذكر الأمة الفاعلة وقادتها المخلصين يذكرُ بالمنعم الذي أرشدها لأقوم الطرق، وهيأ لها أحسن الظروف (وما بكم من نعمة فمن الله). وقد منَّ الله من قبل على رسوله صلى الله عليه وسلم حين ذكَّره بما أنعم به عليه وعلى المسلمين من تأليف للقلوب وجمع للكلمة (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم» «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى». فالله الذي أراد لهذه الأمة الخير، بتأليف القلوب المتنافرة وهو وحده الذي قذف في روع البطل التفكير في بدء معركة التكوين واضعاً خدمة بيته تحت إمرة من يطهره للطائفين والعاكفين والركع السجود ويؤمِّن سبله، ويريح قاصديه. وما أحد طاف أو سعى إلا وعرف جهد الدولة في التوسعة والخدمات في مكة والمدينة والمشاعر. ولما جعل الله مهوى الأفئدة وقبلة المسلمين وأرض القداسات ومتنزل الوحي بأيدي هذه الأسرة، حصر خيارها بتحكيم الشريعة، وإقامة الدين، وتكريس الفكر السياسي الإسلامي القائم على البيعة والشورى والعدل والقوة وإظهار الدين.
ونحن اليوم في هذه المناسبة السعيدة نستقرئُ الملامح، ونتقصَّى المبادرات، وحاجتنا في تأملها، وتذكر صناعها، والسعي الدؤوب لاستقرارها، وسبيل ذلك اجتماع الكلمة، وتوحيد الصف والهدف، وتقييد النعم بالشكر، وهو: قول وعمل:- (اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور) فالأمة السعيدة من تعي ما هي عليه، ثم لا يأخذها بطر المعيشة ولا يطغيها الترف ولا الإحالة إلى الجهد، على حد «إنما أوتيته على علم من عندي». وما بأيدينا من نعم تتضاعف يوماً بعد يوم، تتضاعف معها تكاليف شكرها، وحين لا يكون شكر، تكون النعم استدراجاً من حيث لا نعلم، وإملاءً لكيد متين. والجيل الذي لم يشهد معركة التكوين، ولم يذق مرارة الصراع، ولم يعش الفتن العمياء التي اجتاحت البلاد، ولم يمسه الفقر، ولم تعضَّه الفاقة، ولم ينهكه الضر الذي طال آباءه وأجداده أحق بالتذكير، ذلك أنه كمن يتقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء، فالأوضاع المستقرة التي تعيشها الأمة في ظروف عالمية قاسية، تتوفر على مثمنات لا يجوز التفريط بها، ومن ورائها رجال صدقوا ما عاهدوا أمتهم عليه، من حقهم السمع والطاعة والمناصحة والمعاضدة. وواجب المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية توعية الشباب، وحثهم على أخذ الحذر من مكائد الأعداء ومكر الحاقدين، ودسائس المتربصين، ممن لا يسعدهم اجتماع الكلمة، ولا تسرهم وحدة الفكر، ولا يريحهم استقرار الأحوال. وما هي عليه الأمة من تلاحم قوي ورخاء وثبات يشكل تحدياً للمخفقين، وكشفاً لفشل مشاريعهم، وكأني بهم يرددون:- «إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر». فالأوضاع العالمية المتردية عن يمين وشمال من حوافز اليقظة، واتخاذ الحذر، فدحن الفتن لا يصدها إلاّ الوعي التام. ولأننا نعيش في سياقات عربية واسلامية وعالمية غير سوية فإن فيوض المشاكل تتطلب منا مضاعفة الجهد للحيلولة دون نفاذه، ومتى أحْسن المواطن التصرف ودقت تصوراته، وفّر على دولته المزيد من الجهود، ومكنها من استغلال طاقاتها في تحقيق تطلعاتها، والجبهة الداخلية المتماسكة اهم من أي جبهة اخرى. والمناسبات الوطنية مجالات مهيئة لتشكيل وعي غير منقوص، وحافزه على العمل لتحصين شباب الأمة من شياطين الإنس الذين يجتالونهم، ويحتنكونهم بالكلمات المعسولة والخطابات السرابية الخادعة.
ومنجزات الأمة ومثمناتها الحضارية وملامح حكمها حين تستعاد في هذه المناسبة، تحفز همة الناشئة الوريثة لهذا المجد على التفاعل الإيجابي، والاستثمار الحضاري، وتهيئة الظروف لتلقي الراية بقوة والمضي بها إلى غاياتها النبيلة. ومن الخير للأمة أن تكون مناسباتها مناخات للتبصر والتفكر. والملامح حين يتقراها المواطن بنظر أو بلمس تحيل إلى تفعيل الذات للتماهي معها، لأن الأمّة تعيش ذكرى مرو عشرين عاماً على تولي خادم الحرمين الشريفين مقاليد الحكم في البلاد، مواصلاً ما بدأه المؤسس، واستكمله خلفاؤه من بعده، يجب عليها ان تستثمر المناسبة لمزيد من العطاء ومزيد من اليقظة وتحرف رشيد لصياغة خطاب حضاري يدفع العوادي المضرة، ويحول دون الاختراقات المخلة، متفادياً الصدام، متحامياً التنازع، ساعياً لاستدامة الوحدة الدينية والفكرية والاجتماعية للامة، بحيث لا نقتصر في هذه المناسبة المواتية على مظاهر الاحتفاء وكلمات الثناء، وإن كان الاحتفاء والثناء حقاً مشروعاً وواجباً على الأمة لقادتها الذين أفنوا زهرة شبابهم لخدمة الوطن والمواطنين، وأي زعيم أحق من رجل نيف على الثمانين من عمره المديد عمرها بجلائل الاعمال، وقدم خلالها المبادرات والمواقف التي انتزعت الإعجاب والإكبار، وما علينا إلا ان نجيل نظرنا في الوهاد والنجاد والمدن والقرى والمراكز والهجر، لنرى ملامح المدنية، وشواخص الحضارة، وقلاع العلم، ومتانة البنى التحتية، والعديد من الخدمات العامة، وشوامخ المصانع، وصوامع الغلال، مما يبعث على الراحة والثقة والاطمئنان، ويوفر كل وجوه الأمن.
والقائد أحرصُ الناس على ان تتحول هذه المناسبة الى مشروع مراجعة وتقويم وعطاء، وقد فعلها من قبل مؤسس هذا الكيان الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، حين عاد من مصر، بعد رحلة عمل ناجحة، وكان ان جمع المواطنين اموالا لإقامة الحفلات ابتهاجا بعودته الميمونة، ولمّا يشأ مرور هذه المناسبة دون استثمار ايجابي، ومن ثم وجّه بصرف تلك المبالغ على مشروع تعليمي، يبقى أثره، ويمتد نفعه، فكانت مناسبة العودة الى الوطن بداية للتعليم النظامي المتحفظ عليه من قبل في عاصمة الملك، إذ فُتحت اول مدرسة ابتدائية سميت ب «المدرسة التذكارية». ومساءلة الفعل، ونقد الذات مؤشر ثقة بالنفس.
ومناسبات البلاد السعيدة المتلاحقة كما النهر المتدفق مؤشر على الحياة الرغيدة المستقرة، والأمة حين تعيش أفراحها، يجدر بها استذكار ما يمر بالعالم العربي والاسلامي من حروب اهلية طاحنة، وما طاله من فقر وفاقة ومن تشرد وضياع ومجاعات وامراض وما يحاك من مؤامرات تستدرج الأبرياء من أبنائه، بحيث يشرعون بفعلهم غير السويِّ التدخل في شؤونهم، وزرع الفتن في ربوعهم، وتدمير مثمناتهم، وقتل الأبرياء منهم، والحيلولة دون أخذهم بأسباب الحياة السوية. وعلى الأمة حين تستذكر تلك الأوضاع، أن تعض على ما هي عليه من نعم بالنواجذ، ويحسن بها أن تُفيض من نعم الله على من حرم، مستنة بقادتها، الذين يفرضون على انفسهم درء السوء عن الأشقاء والأصدقاء والمعاهدين، ومواجهة الفتن والتصدي لها بالقول وبالفعل وبالمناصحة وبتوظيف الإمكانيات السياسية والاقتصادية للحد من آثارها التي تصيب العالم الإسلامي نتيجة كيد الأعداء وجهل الأبناء. ومع أن أبرز ملامح الحكم في البلاد الوقوف بكل الإمكانيات إلى جانب قضايا الأمة والدعم المتواصل وغير المشروع فإن المتابعين لفيوض الإعلام ومستقر المعلومات عبر الشبكات والقنوات والمواقع يروعهم ما يكاد للمملكة، وما يشاع عنها من أقاويل، للحد من إسهاماتها الدعوية ودعمها المادي والمعنوي للدول الإسلامية والأقليات المستضعفة، والقضايا المغموطة. ولأن المملكة تتوفر على أعماق سياسية واقتصادية ومواقع اسلامية وثقل على كل الصعد فإن تحييدها يمكِّن الأعداء من تحقيق المكتسبات والغنائم الباردة، ولا يتحقق ذلك إلا بقلب الحقائق وقالة السوء، وواجب ابناء البلاد الدفع بالحسنى، وعدم التخلي عن السجايا الحميدة فظفر الأعداء في ارتباك ابناء البلاد وشكهم في انفسهم وقادتهم.
والاحتفاء بمرور عقدين على تولي خادم الحرمين الشريفين لمقاليد الحكم يحملنا على ألا نستأثر بالفرحة، ولا أن ننسى إخوة لنا في الدين واللغة والمصير، تغتالهم أيدي البطش في فلسطين، وتحاك لهم المؤامرات في سائر بقاع العالم، إذ ما تعودنا في يوم من الأيام نسيان واجبنا إزاء الأشقاء والأصدقاء. وتلك المناسبة السعيدة تقف بناء على مآثر القائد المحنك وقفة تأمل واستذكار، وهي مآثر جمة ماثلة على كل الصعد المحلية والعربية والإسلامية والعالمية. والمملكة العربية السعودية ما كانت في يوم من الأيام إقليمية، لا تلتفت إلى أوضاع العالم، كما أنها لم تفرط بشيء من واجباتها المحلية، وهي تضطلع بمسؤولياتها العالمية موظفة خبراتها وعراقة سياستها وثقلها العربي والإسلامي والعالمي لمواجهة الأزمات العربية والإسلامية، حتى لقد حفظت التوازن في الحضور والمواجهة، يراها المتابع مع العالم وأحداثه وقضاياه، وكأنها متفرغة له ولشؤونه، ويراها في الداخل
وتطلعاته، وكأنها غير معنية بما سواه، فإن شئت أن تراها في الداخل بكل إمكانياتها رأيتها، وإن شئت أن تراها في الخارج بكل ثقلها رأيتها، وتلك منة يمن الله بها على من يشاء من عباده، وهذه الخليقة ملمح من ملامح الحكم الراشد، تبناها مؤسس هذا الكيان، وتعهدها أبناؤه من بعده.
والسؤال التحفظي الاستذكاري عما اذا كنا بكل هذه الفعاليات الايجابية محلياً وعربياً وعالمياً مستقرين في الذهنية العربية والإسلامية بصورتنا الحقيقية، وهل قنوات التوصيل عندنا قادرة على تجسير الفجوات، وإسماع الأصوات؟ أحسب أننا دون ما نؤمل، بل نسمع ونرى من يكيد بنا ويمكر. ولا بد - والحالة تلك - من تحويل مثل هذه المناسبات لتكون صوتاً إضافياً يشد عضد المؤسسات الإعلامية والثقافية لإنفاذ صورتنا المشرقة، واختراق أجواء الآخرين بملامحنا الحقيقية وانجازاتنا المتميزة، ولا سيما بعد ان كشفت لنا الأحداث الأخيرة ما يضمره لنا الأعداء من حقد دفين، يسعى جهده لعزلنا، وحجب إسهاماتنا في خدمة القضايا العربية والإسلامية. وها نحن اليوم نسمع ونرى وسائل إعلام حاقدة تحرض علينا، وتشوه سمعتنا، وتنال من رموزنا، وتتهم مناهجنا، وتكيد لنا وتمكر بنا، وتشكك في مواقفنا. ولن نفنّد الحملة الصهيونية على المملكة ومواقفها عبر وسائل الاعلام العالمي، ولن نفصل القول عن تحريف مواقف المملكة المشرفة من الاحداث الجسام، فذلك معروف لمن كانت ضالته الحق. والمملكة دولة المواقف والالتزام بالعهود والمواثيق، وقراراتها تنطلق من مبادئها الإسلامية التي تدعو إلى الوفاء بالعهود والمواثيق والدفع بالتي هي أحسن والرفق والإحسان والتبين والنبذ على سواء والجنوح إلى السلم وإسماع كلام الله وإبلاغ المأمن.
والمؤسسات السياسية العالمية تعرف ذلك حق المعرفة، وما من دولة تحترم نفسها نالت من مواقف المملكة، ولكن فوضوية الكلمة في مشاهد بعض هذه الدول المتوسلة أجهزتها الإعلامية بالحرية والديمقراطية تتيح الفرصة للحاقدين والناقمين للنيل من بلادنا وغمط حقها. ومعولنا أنه إذا انجلى الغبار، سيعرف الجميع مع من يكون الحق والصواب وبعد النظر.
والقائد المحنك وسط هذه الفوضى المستحكمة والفتن العمياء من يقي أمته مصارع السوء معتمداً على إنسانية الإسلام وسماحته وتكريمه لبني آدم، يحكم العقل، ويستفيد من التجارب، ويتخذ الحلم والأناة وبعد النظر سبيلاً للخروج من الضوائق والنفاذ من المنعطفات الخطيرة، يواجه النوازل بكل ما أوتي من علم وتجربة، لا ينفرد بالرأي، ولا يستبد بالتصرف، وإنما يكل الأمور إلى أصحاب الحل والعقد، يؤمن بأهمية العمل المؤسساتي، ويتسامى فوق الخطابات العاطفية التي تشد الانتباه، ولا تحقق السلامة، لا يتدخل بشؤون الغير ولا يرضى لنفسه ولا لأحد من أفراد شعبه التورط باللعبة السياسية، وشاهد ذلك ما اجتاح عالمنا من قواصم أتت على الحرث والنسل، وخرجنا منها بأقل الخسائر وأيسر الجهود، بحيث سلم شباب الأمة من الدفع بهم إلى جبهات الفتن ومصارع القتل المجاني الهمجي الذي أدت إليه نزعات طائشة وقرارات فورية فردية من قادة وزعماء جروا على بلادهم الخراب، وذلك ملمح يتمناه الذين فرقتهم في بلادهم أيدي سبأ، فعاشوا بين السجون والمنافي وملاجئ المعوقين، وهلك الآلاف منهم في الوهاد والنجاد، ولم يبق من اثرهم إلا نصب تذكاري تذرف من حوله دموع التماسيح.
وحين نصف خادم الحرمين الشريفين بمهندس المبادرات الوطنية فإنما نحيل الى تحولات دستورية وتنفيذية وشورية وتعليمية تلاحقت بشكل تراتبي متزامن.
وليست المبادرات في أمر الداخل فحسب، وإنما امتدت الى قضايا الأمة المصيرية.
والمملكة الحمالة تبادر عند كل ملمة، وتضع كل إمكانياتها تحت تصرف الأشقاء والأصدقاء.
لقد كان العقدان اللذان خلفهما القائد وراء ظهره مستقبلاً زمناً جديداً واعداً بجلائل الأعمال مرحلة من مراحل حياته المليئة بالعطاء، عمل مع والده ، ومع أشقائه. تسنم المناصب، وأنجز الأعمال، واضطلع بالمهمات. كان وزيراً للمعارف وضع أسس التعليم ورسم فلسفته، ثم وزيراً للداخلية حقق من خلالها الأمن والسلامة، ثم نائباً ثانياً أسهم في بلورة الخطط التنموية، فولياً للعهد شد من أزر القائد، فملكاً حصد ثمار جهوده، وتمكن بفعله من انتزاع الحب والإعجاب والإكبار، زهد باللقب، وتشرف بخدمة المقدسات. وحين تحدونا هذه المناسبة السعيدة على تناول أعماله في عشرين عاماً فإن ذلك لا يعني استبعاد إنجازاته من قبل، ولكنها الذكرى تقف عند حد المناسبة. والدخول إلى دقائق الأعمال يفوت فرصة الإشارة إلى جليلها، وكلمة يحاصرها الزمان والمكان، لا تقدر على شيء أكثر من الاشارات الخاطفة للملامح وهندسة المبادرات، والمواطن المحب لوطنه واهله يعرف الكثير عن قادته ومنجزاته، ولكننا حين نشير الى طائفة من المواقف والاعمال فانما نستجيب لقول المنعم «وأما بنعمة ربك فحدث».
فلو نظرنا إلى مبادراته حفظه الله في الداخل، تجلت لنا التحولات المؤسساتية:
- مجلس الشورى.
- مجالس المناطق.
- المجالس العليا للاقتصاد والتعليم والإعلام والشئون الإسلامية والبترول وشعبة الخبراء والمستشارين والمدن العلمية والدارات.
- الأنظمة: إحداثاً وتحديثاً. كنظام الحكم، والشورى، والمناطق. ولن نعرض للتطوير المستمر للقطاعات الزراعية والصناعية والتعليمية والصحية والإعمار والطرق والاتصالات والمواصلات.
فكل ذلك ومثله معه شواهد حق على منجزات جلالته حفظه الله.
وعلى المستوى الإسلامي المحلي:-
نجد عمارة المسجدين الشريفين، وما حولهما من خدمات، ومجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، وإنشاء وزارة للشئون الإسلامية، وتطوير المؤسسات الدينية، وأنظمة القضاء والمحاماة، وهيئات التحقيق والإدعاء، والدعوة والإرشاد، ودعم الجمعيات الدينية والخيرية كتحفيظ القرآن الكريم ومسابقاته ومراكز الدعوة، وما لا نحصي له عدداً من الأفعال الحضارية.
أما على المستوى العربي:- فليس هناك أخطر من تحمل أعباء تحرير الكويت واستعادة الشرعية واستضافة الفارين من ظلم الاعتداء، وتعريض البلاد لحرب شاملة، ولولا لطف الله وعنايته لأتت على الأخضر واليابس. وعلى صعيد الصلح بين الفرقاء يتبدى لنا «مؤتمر الطائف» لحل القضية اللبنانية، وإنهاء مشكلة «الحدود» مع عدد من الدول العربية، وتوظيف كل الإمكانيات «للقضية الفلسطينية»، والوفاء بالالتزامات إزاء الجامعة العربية ومجلس الشورى وصناديق الدعم، وجمع التبرعات، واستقبال الفرقاء والمصابين واسداء المشورة والتوسط في حل الأزمات، وما الرحلات المكوكية عند احتدام المشاكل إلا مؤشر أهلية، وشاهد اضطلاع بالمسؤولية.
وعلى المستوى الإسلامي والعالمي:- نجد الدعم المتواصل للأقليات الإسلامية وللدول الإسلامية في المحافل العالمية، وبخاصة ما يتعلق بالحرب الأفغانية، حيث عقد لقاء في مكة المكرمة لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة.
وفي نطاق الإسهامات، نجد مبادراته حفظه الله على فتح أبواب التبرعات لجمع الإعانات العينية والنقدية لكافة المتضررين من الجفاف والفيضانات والكوارث والحروب ومباركته لإنشاء هيئات ولجان دائمة، تجلى ذلك في دعمه للبوسنة والهرسك والصومال والسودان وافغانستان والشيشان وكشمير وإعادة إعمار لبنان، إضافة إلى تجنيد الدعاة وبناء المساجد والمراكز والكراسي في الجامعات والمدارس والاكاديميات، وانتزاع الموافقة من دول لا تدين بالاسلام لبناء المراكز الدعوية والمساجد ونشر الدعاة وتوزيع الكتيبات وتنظيم حلقات الدرس، الأمر الذي كثّر سواد المسلمين، وزحف بهم إلى المجالس التشريعية والتنفيذية، وجعل منهم جماعات ضغط واعية، ترجح كفة القضايا الإسلامية، وتخفف من حدة الصدام الحضاري، ولسنا نعرف مصير هذه الجهود الدعوية السلمية المؤثرة والمفيدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
والمملكة في كل المحافل والمؤتمرات سباقة إلى رأب الصدع ونزع فتيل المشاكل وتجفيف منابع الفتن والحيلولة دون التطرف والإرهاب، ولم توفق دولة في التصدي للإرهاب بمثل ما وفقت به المملكة، لقد حكّمت شرع الله فيمن قتل الأبرياء، ودمر الممتلكات، ونقض العهد، وغدر بالآمنين، وخفر الذمة.
وكادت أحكامها الإسلامية العادلة تقطع دابر الممارسات الطائشة، ولكن اللعب السياسية والمصالح العاجلة والاستراتيجيات المتصادمة أعطت تعريفات متباينة، تفلت من خلالها إرهاب الدول والمنظمات والأفراد، فكانت الطامة الكبرى التي ضربت أهم المواقع عند أكبر الدول، ولأن المملكة في غنى عن استغلال مصائب الآخرين مستغنية بما أنعم الله به عليها من ثراء واستقرار فإنها لم تستغل أي كارثة لصالحها، وإنما اسهمت في اطفاء الفتن ودفع الظلم، بل حذرت من مغبات الفتن، ونصحت بتلافي أسبابها من خلال جولات رجالاتها أو استقبال رجالات الدول المعرضة للتوتر والانفجار. ولو أطيع لها أمر لما مرَّ العالم بما يعد كارثة انسانية نتيجة الفعل ورد الفعل، مما سيكون له ما بعده. لقد لفتت مواقفها من قضية فلسطين انظار العالم، وقدمت رؤيتها السلمية، وألحت على رعاة السلام بأن تلعب دورها العادل، واستخدمت كل إمكانياتها، ولم تكن من المهرولين، ولا من دعاة التطبيع، وتوقفت عن منح اسرائيل اية مكتسبات لا يقابلها استجابة حقيقية لبنود السلام، وقالت في القضية ما يقوله أهل الشأن، وما جولات ولي العهد وسمو النائب الثاني ووزير الخارجية إلاّ في سبيل الحد من تفاقم المشاكل، ولأجل إبداء النصح لكل الفرقاء، ولكن إرادة الله نافذة. وها هي الفتن العمياء تتفجر كما البراكين في أمريكا وفي أفغانستان وفي فلسطين، والله وحده العاصم من طوفانها.
تلكم هي ملامح السياسة في البلاد، وتلك هي منجزات قائدها، فله منا الدعاء الخالص والحب الصادق والولاء الثابت في المنشط والمكره.