Culture Magazine Monday  10/12/2007 G Issue 226
فضاءات
الأثنين 30 ,ذو القعدة 1428   العدد  226
 

خطوط في رمال الثقافة
دعوة للمشي في جنازة النقد
علي الصراف

 

 

ماذا يمكن للمذهب النقدي أن يفعل للأدب؟

قد يضيء تقنياته وإطاراته المرجعية والتاريخية ليستجلي المزيد من معانيه وإمكانياته. ولكن ما أن يتحول المذهب النقدي الى عقيدة حتى يصبح سجناً للإبداع والفكر.

هذه اللحظة ما أن تبدأ بالظهور حتى يصبح من الواجب فتح الأبواب والنوافذ لتجديد الهواء، فتشييع العقيدة النقدية الى مثواها الأخير أولى من خنق الأدب.

هكذا فعل الغرب حيال كل مناهجه النقدية تقريباً.

ولكن سيكون من العبث تصور أن هذه النتيجة كانت مجرد نتيجة تأملية، لم يفعل الواقع فعله في إنضاجها. فالتقدم العلمي الذي طرح على الغرب تحدياً لبناء نموذجه الحضاري الخاص، أثار بوجه الأديب والناقد، في آن معاً، تساؤلات عميقة حول الكيفية التي يمكن من خلالها ملاءمة النص الإبداعي، أدباً كان أم نقداً، مع التحولات، لا على مستوى النظرية الأدبية، وإنما على مستوى قدرة الواقع على تغيير أو تعميق أو هدم كل نظرية.

هناك، لم تكن الانتقالات من حالة معرفية، على المستوى الإبداعي، الى أخرى، لتتم عبثاً، ومن دون شروط أو لمجرد أن هناك من يعرف في جزء آخر من العالم أساليب إبداعية مختلفة.

وعلى سبيل المثال، لم يكن مفهوم (المعادل الموضوعي) الذي استخرجه الشاعر الإنجليزي ت.أس. إليوت الذي ظل الكثير من نقادنا يردح به زمناً طويلاً، نبتاً من نباتات الكلام الهشة.

وفي الواقع، فقد ظهرت هناك حاجة ماسة للتخلص من التقريرية الشعورية والذاتية التي ذخر بها الشعر الرومانسي. ويعود مصدر تلك الحاجة الى الثورة العلمية التي رافقت التقدم الصناعي السريع، حيث وجد منظرو الأدب أن الفرد والفردية التي بزغ فجرها مع الثورة البرجوازية ضد الإقطاع، لم تعد مصدراً لكل القيم الإنسانية. فالعلوم التي فتحت آفاقاً جديدة، في مختلف المجالات أوجدت مقاييس موضوعية أخرى، غير المقاييس الفردية، لتقرير صحة الموقف أو مقدار قيمة الموقف الإبداعي. وهكذا، فقد توصل اليوت الى أنه لا يجوز تقرير الانفعالات، على أنها وصف لأحوال شخصية، وإنما ينبغي تقديمها من خلال مجموعة موضوعات، أو سلسلة حوادث يعود إليها الحق في صياغة الانفعال الخصوصي. فالوقائع الخارجية (الموضوعية) هي التي يجب أن تقود الى التجربة الحسية، وليس العكس.

والى حين انتج الغرب العشرات من المدارس النقدية التي اتخذ بعضها من التطور الذي لحق بفرع من فروع المعرفة العلمية أساساً له، كمدرسة النقد الفرويدي والاجتماعي، والماركسي، والشكلي والبنيوي والتفكيكي... فقد ظل مشروع (النقد العربي) يرزح تحت أعباء ثقيلة. فمن ناحية، كان عاجزاً عن تأصيل أو (تعريب) المناهج النقدية الغربية (لا بمعنى الترجمة والتطبيقات الشكلية). ومن ناحية أخرى، كان عاجزاً عن إنتاج رؤية نقدية خاصة، تعيد بناء ما توفر من تراث نقدي، لتعجنه وتخبزه بالمناهج النقدية الحديثة على نحو يتلاءم مع التطور الذي لحق بالأجناس العربية الجديدة، ومحاولة ربطها أو تأصيلها، أو جرها الى مرجعية ثقافية عربية ما، لتشكل قاعدة أو مرتكزاً للتحليل.

هذا الطموح ما يزال مستحيلاً على ما يبدو، ليس لأن هناك تفاوتاً كبيراً في مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي الثقافي، بين الأقطار العربية، وليس لأنه ما يزال بإمكان المرء أن يجد علاقات اجتماعية متشابكة تنتسب الى مستويات مختلفة من التطور في القطر العربي الواحد، حيث تتعايش العلاقات القبلية والإقطاعية والرأسمالية معاً، بل لأن عامل التشتت الإقليمي العربي يفعل فعله التقسيمي ليس على المستوى السياسي فحسب، وإنما على المستوى الثقافي أيضاً.

إن تعايش أنماط مختلفة، ومتناقضة أحياناً من العلاقات الاجتماعية، يفسر وجود نوعين مختلفين تماماً من الشعر. بل إن متذوقي الشعر الكلاسيكي ما زالوا أكثر بكثير من متذوقي الشعر الحديث، الأمر الذي يقدم دلالة أكيدة على مدى ارتباط الأنماط الإبداعية ببيئتها الاقتصادية والاجتماعية.

إن المحمول الثقافي هو في آخر المطاف محمول اجتماعي وتاريخي. وأي محاولة من جانب النقد بافتراض عكس ذلك، سوف تبدو محاولة، أما لصنع محمول لا وجود له، أو لإضفاء صورة مزيفة على ثقافة لا تفصح عن الشيء نفسه.

المشكلة مع النقد، هي أنه عندما اتسعت مدارسه وأفكاره على محمولات الثقافة الغربية، لم يجد إلا الزيف في محاولته لمعالجة محمول ثقافة كانت وما تزال تعالج مشكلاتها المادية الأولى، في العلاقة مع مجتمع ينمو من دون وجه محدد، ولا وجهة نهائية مؤكدة.

والشعر الحديث؟

إن هذا الكائن العجيب هو وحده مشكلة قائمة بحد ذاتها. إنه بلا شكل، ويقوم في حالة من الفراغ الاختياري، وبلا ضوابط تحدد سبيلاً للإمساك به ومعرفته أو لتحديد قيمة الموقف الإبداعي فيه. لماذا؟ لأن لكل شاعر أن ينتمي ليس الى بيئة ثقافية واحدة عريضة، بل الى أي بيئة آنية ممكنة أو في متناول اليد. وهكذا يترتب على المرء أن يبحث عن ناقد لكل شاعر من بيئته، ومن بيئة اختياراته العشوائية، لكي يمكن تقويمه أو فهمه.

لقد كان انتشار النقد الصحافي الرديء حلاً سوقياً للمشكلة برمتها.

وإن كان الأمر يختلف قليلاً، الى حد ما، بالنسبة الى الرواية، نظراً لكونها فناً جديداً علينا، إلا أن المشكلة تظل، من حيث الجوهر، كما هي؛ إذ ليس ثمة (رواية عربية) بالمعنى الدقيق لكلمة (عربية). والمسألة هنا، لا تتعلق، بأساليب الأداء الروائي المختلفة، بل أصلاً في ما إذا كانت هناك مرجعية حضارية وثقافية (معاصرة خصوصاً) تتيح الصدور عن مناخ (عربي) وخصوصية تميز هذه الكتلة الإنسانية عن غيرها.

بعبارة أوضح، قد تكون هناك رواية مصرية وأخرى عراقية، وثالثة جزائرية، تنهل من بيئتها المحلية، إلا أنها ليست عربية إلا في حدود الشكل. والكثير من الكتَّاب الجزائريين، على أية حال، حلوا المشكلة بالانحياز الى الفرنسية.

الثقافة العربية، أدبها، ونقدها، ما تزال بالأحرى مشروعاً تتلاطمه أمواج التقلبات السياسية أكثر بكثير مما تشغله قضايا الإبداع الثقافي نفسه.

ومثلما لا يوجد أدب عربي، بهذا المعنى المرجعي الشامل، إلا شكلاً، فلا يوجد نقد عربي أيضاً.

نعم، يمكن للمرء أن يلمس خيطاً متصلاً لرواية روسية تتطور وتتغير عبر المسافة الفاصلة بين تولستوي، مثلاً، وبين ايتماتوف؛ وبين همنغواي، في الأدب الإنجليزي، وبين جورج اورويل، أو حتى بين جورج أمادو البرازيلي بالنسبة لأدب أمريكا اللاتينية الممزقة وبين الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، ولكن كيف يمكن الإمساك بخيط يرتبط اوله ب(زينب) محمد حسين هيكل، وآخره ب(تجربة في الجنون) للطاهر وطار، أو بين نجيب محفوظ وأميل حبيبي، أو بين الطيب صالح وعبد الرحمن مجيد الربيعي أو عبد الرحمن منيف؟

لا شيء ربما. هكذا لا يضيع الأدب في تبعثره، وإنما النقد أيضاً.

والنقد على حد تعبير أحد النقاد هو (صياغة ضوابط الفن، وتطبيق هذه الضوابط)، ولكن كيف إذا كان كل عمل فني يستند الى ضوابط عامة مختلفة؟ وكيف إذا كان يقصد التوصل الى إشاعة قيم اجتماعية ومعنوية مختلفة؟ وكيف إذا كانت كل بيئة ثقافية عربية تنتج ضوابط مؤقتة مختلفة عن البيئة الثقافية الأخرى؟

(ألف ليلة وليلة) ربما كانت هي أول مشروع روائي عربي.. ولكنها كانت آخره أيضاً. والمحاولات التي بدأها محمد حسين هيكل ليلحقه روائيون من طراز توفيق الحكيم وحنا مينا وغائب طعمة فرمان الذين استلهموا البيئة الشعبية المصرية والسورية والعراقية، انتجوا أدباً محلياً مرموقاً في قيمته الجمالية، ولكنه لم يكن أدباً عربياً إلا في حدود الشكل اللغوي فحسب.

وبمقدار ما يتعلق الأمر بالنقد، ففي الوقت الذي كان الأمر يتطلب استنباط مناهج وقيم ومقاييس نقدية ملائمة، حدث أن أسقطت على تلك الأعمال المقاييس النقدية الأوروبية، التي لا تمت بصلة الى البيئة الثقافية التي استندت إليها تلك الأعمال.

لقد قضت المحاولات النقدية العربية الأولى وطراً من الزمن وهي مصابة بمرض الذهول إزاء ما حققه النقد الغربي من تطور على المستوى النظري والمنهجي، مما حدا بعدد من كبار النقاد العرب، في مراحل عملهم الأولى الى نقل تلك المناهج ومحاولة تطبيقها (حرفياً) ليس في نقد الأدب وحده، بل في نقد التاريخ أيضاً.

في ذلك الوقت، بدا الناقد الأدبي، وكأنه يملك أدوات تحليلية أكثر قوة وعمقاً من أدوات الأديب. ولأول مرة كان على الأديب والفنان أن يواجه نقداً متفوقاً عليه، حينما شرع للتو في محاكاة أساليب إبداعية جديدة بالنسبة إليه، لا سيما في فنون الرواية والمسرح والنحت والرسم التشكيلي المستمدة كلياً أو جزئياً من بيئات حضارية مختلفة.

الحالة الطبيعية هي أن يكون الأدب متقدماً، بل سابقاً، على نقده. ليس لأن النقد هو (علم الكلام على الكلام) بل لأن الأدب نفسه يملك قدرات اندفاع وتجريب أكبر في مجال التطور، مما يمكن للنقد أن يصيغ قواعدَ وضوابط نظرية له.

ومن الطبيعي أن تتحول كل نظرية في لحظة ما، عندما يزداد الثقل المحمول عليها الى عبء لا يطاق بالنسبة لدوافع الأدب المتمرد.

أما الحل، فيكون دائماً في تشييع النظرية، لا في تشييع الأدب.

أما نحن فلم نشيع شيئاً، من الناحية الرسمية. وميت النقد ظل ممداً في مكانه وكأنه تحفة. ببساطة لأننا استوردناه أصلاً كتحفة، لا كوجهة نظر.

- لندن


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة