Culture Magazine Monday  10/12/2007 G Issue 226
فضاءات
الأثنين 30 ,ذو القعدة 1428   العدد  226
 

مدخل إلى (المدينة) وحضورها
في نماذج شعرية لشاعرات من المغرب 1-2
عبدالرحمن مجيد الربيعي

 

 

-1-

عندما نقلب صفحات ديوان الشعر العربي الحديث ونبحث عن تعامل الشعراء مع (المدينة) سنرى قيمة الهجاء، والرفض حاضرة بقوة، إذ إن جل الشعراء وفدوا إلى هذه المدينة (العاصمة غالباً) من قراهم البعيدة ولم يستطيعوا التأقلم معها أو التجانس مع إيقاع الحياة المختلف فيها.

وما زلنا نتذكر العنوان الصارخ لديوان الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي (مدينة بلا قلب) ويعني بها القاهرة.. وكان هذا في بدايات انتقاله إليها.

إن هذا اللا تجانس مع الإيقاع المختلف حول رفض البعض إلى مقارعة ما وجدوا أنفسهم فيه بالخمر عند البعض حتى الإدمان عليها فخسروا شبابهم وغادروا عالمنا مبكرين، لنا هنا مثال الشاعر العراقي عبدالأمير الحصيري أحد أبرز الشعراء الكلاسيكيين في العراق.

وأقول إن هذا الرأي لا ينطبق على الشعراء فقط بل وعلى الروائيين والقصاصين أيضا الذين تحولت المدينة إلى عنوان للهجاء في جلّ نصوصهم.

أذكر مثالاً شخصياً أنني كتبت ذات مرة عن بغداد قائلاً:

(في هذه المدينة الملعونة يدّب جسدي المغلوب) وقد ظن معلم متقاعد أنني أقصد بما كتبت مدينتي الناصرية فنلت منه تأنيباً أخرسني عن الرد.

وعلى العكس من المدينة التي وفدنا إليها مضطرين فإن الكتابة عن مدننا الأولى، مدن الولادة والانتساب سيتحول إلى قصائد ملأى بالحنين، حيث يبدو كل ما كان فيها جميلا وساحراً.

وعندما نراجع قصائد شعرائنا سنرى أن هذه المسألة تنطبق على معظمها، وأن قصائد ما أسميه (الانبهار) بمدن الغرب وعواصمه سيخف إن لم أقل ويتلاشى بعد أن تتوالى بنا الأيام ونحن فيها فيتحول إلى هجائيات طويلة.

-2-

بعد هذا المدخل سأتوقف أمام تجارب لشاعرات من المغرب الأقصى تسنى لي الاطلاع عليها من خلال ترددي على هذا البلد العربي الثري العطاء.

كما أنني تناولت بعض دواوين شاعرات المغرب في قراءات ضمها كتابي (كتابات مسمارية على جدارية مغربية) المكرس للأدب المغربي.

إن شاعرة رائدة معروفة هي مليكة العاصمي ابنة مراكش تشكل حالة خاصة متفردة فهي على العكس من شاعرات أخريات غادرن مدنهن إلى غيرها فسكن الحنين قصائدهن إلى تلك المدن.

مليكة العاصمي لم تغادر مراكش بل بقيت فيها، منذ الولادة، وحتى يوم الله هذا، فيها ولدت ودرست وتزوجت وأنجبت وناضلت وكتبت ووصلت إلى مركز سياسي بارز في حزب الاستقلال (عضوة في اللجنة المركزية) وانتخبت نائبة في البرلمان عن مراكش أيضاً.

قصائد مليكة العاصمي تحتفي بمراكش، تزهو بها، تفاخر، واحتفاؤها هذا لا يجعلها بعيدة عن المغرب الوطني، بل تجعل من مراكش رمزاً له، كما أن مراكشيتها تؤكد انتماءها العروبي وتثري علاقتها بعواصم العرب الأخرى في محنها وفي تألقها.

في قصيدة طويلة لمليكة العاصمي عنوانها (زلزلة على قرن الثور) ضمها ديوانها (شيء له أسماء) يرد ذكر مدن وبلدان عربية وإسلامية مثل: جنين، بيروت، مكة، القدس، بابل، شام، كنعان، نجد، تهامة، الأغوار، صحراء، المغرب، نقرأ من القصيدة على سبيل المثال:

(أمامك

يمتشق النخل حساماً في بابلْ

تتجلل أشجار الأَرز مناطيداً في بيروتْ

يتعالى السرد بأرض القدس، ويقذف ألسنةَ

حرابٍ مسنونهْ

أمامكَ

يحمل نهر النيل وبردى

ترتجّ مشارف صحراء المغربِ

تهتز الكثبانُ

وتصفع وجه النسمات المسكونة بالأرباح)

إن الشاعرة تجعل من مراكش مرصداً، تطل منه على كل الخارطة العربية وتعرف ما يدور فيها، وهي هنا ليست متفرجة بل مهمومة كل الهمّ. وتصف ما هي عليه في قصيدة (حالات) من الديوان نفسه:

(تتوزعني

حالات السلبِ

وحالات الايجابْ)

وفي قصيدة (الأزمنة) ترد أسماء مدن ليس من بلاد العرب بل ومن العالم، تقول في المقطع الثاني منها:

(قد تعرّت بباب السما حورياتٌ

وأغوينني

أوت الشمس للخدر

لهلب أوارها

انفجرت شبقاً

فتطاير دار السلام

وغرناطة

وربى السند

والهند

والصين

والغال

والواق واق)

ولكن الشاعرة مليكة العاصمي بعد كل ترحال بين المدن تعود إلى مراكش. وليس صدفة أن تكون آخر قصيدة قرأتها لها على صفحات الملحق الثقافي لجريدة العلم المغربية بعنوان (مراكش) وفيها تقدم الشاعرة قرابين الحب والإكبار لهذه المدينة العريقة التي تقع على تخوم الصحراء متلألئة تحت الشمس وكأنها شيدت من البتر لا من الآجر.

-3-

تنحو الشاعرة وفاء العمراني منحى مشابهاً لمليكة العاصمي في احتفائها بمدينتها الأم (القصر الكبير) التي أنجبت عدداً من الأسماء لمبدعات مغربيات منهن الباحثة رشيدة بن مسعود والشاعرة والرسامة وداد بنموس والشاعرة سعاد الطود وغيرهن.

وإذا ما أخذنا ديوانها (الأنخاب) مثالاً، سنجد أن الشاعرة متناهية ومتقاسمة بين (القصر الكبير) مسقط الرأس والرباط مدينة الإقامة والعمل، ولكنها تحرص على وضع اسم مدينتها في خاتمة كل قصيدة كتبتها فيها وهي القصائد الأكثر عدداً في الديوان، إذ (القصر) هي (ذاكرة من المرايا) كما تصفها في القصيدة التي تحمل الاسم نفسه تقول:

(هكذا يطلع اليك (القصر)

ذاكرة من المرايا

أنشوطات يسلمها الوقت

للحكايا

هنا أرضعتني نخلة

هنالك فيأتني برتقالة

وبينهما بذر القلب جراحة)

لكن بيروت هي المدينة العربية التي تفرد لها وفاء العمراني قصيدة من ديوانها وعنوان القصيدة (بيروت والجرح يتطاول حتى اليتم) وإذا ما عدنا إلى تاريخ كتابة القصيدة (وقد كتبتها في القصر الكبير أيضاً) سنجد أنه عام 1980 يومها كانت بيروت جرحنا العربي النازف والأكثر سخونة بعد فلسطين. ولكنها لا تراها إلا دمعها مدن عربية أخرى تقول:

(أنت الشعر وللمدارات أبهة العشق

سائغ أن تسمي المنبوذ شريعة

والنسخ طريقاً

هل تعقم الشمس نسل قراراتها

دمشق تراهن

بغداد توغل في المسافات

والرباط حبلى

آه بيروت - الرغبة

والرصاصة تطغى)

وكأنها تقارن بيروت الذاكرة والدور ببيروت المشهد الماثل وقتذاك فتقول:

(بيروت

فرحاً بتولياً

وفي الموت ما يمنع الحكاية

لم يعد العشب يشبه العشب

ولم تبق الخطوة خطوة

من يتقدم؟)

لقد انفرضت بيروت كرمز يستعين به الشعراء لا بالمعنى القسري ولكن لسخونة ما كان يجري فيها لتضاف إلى الرموز الفلسطينية الحاضرة أبدا في وجدان الشعراء وذاكرتهم.

وستضاف رموز أخرى معظمها للأسى والندب بداية من مدن الأندلس ووصولاً إلى مدن العراق المحتل.

- تونس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة