Culture Magazine Monday  10/12/2007 G Issue 226
فضاءات
الأثنين 30 ,ذو القعدة 1428   العدد  226
 

اقتصاد المثقف العراقي 2-5
قاسم حول

 

 

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

قرآن كريم

من ملامح الفترة الثقافية في الحقبة الملكية التي حكمت العراق للفترة من 1921 حتى الرابع عشر من تموز عام 1958، الحرية النسبية في التعبير، والتنوع في الثقافة فتألقت حركة فن التشكيل بسبب وجود معهد الفنون الجميلة الذي شكل ما يشبه ورشة العمل للفن التشكيلي بالنسبة للرسامين والنحاتين العراقيين وبسبب عدم حاجة هذه الأداة الثقافية لكثير من المال قياساً بالسينما والمسرح، فكان الفنان التشكيلي العراقي أكثر المثقفين فرصة لحياة اقتصادية مستقرة، ولذا نرى غياب الرسامين العراقيين، الأساتذة منهم في معهد الفنون الجميلة، غيابهم عن حانات التسكع البكائية في آخر الليل في شارع أبي نواس على نهر دجلة باستثناء الرسامين المتمردين على أسس فن التشكيل والجانحين نحو المدارس الحديثة والعبثية. أما الرسامون الأساتذة، فإضافة إلى الراتب المستقر للرسام بدرجة دكتور أو أستاذ، كانت اللوحات تباع بأسعار مرتفعة للطبقات المترفة والموسرة التي تسميها الأحزاب الطبقات البرجوازية التي كانت سواء بدافع محبة ومعرفة حقيقية للثقافة أو بدافع ما يطلق عليه الحذلقة البرجوازية تقتني تلك اللوحات بأسعار مرتفعة تنعش الحالة الاقتصادية للتشكيلي العراقي. ومن ملامح تلك الفترة أيضاً قلة دور النشر مع توفر المطابع التي تستنفد وقتها وقدرتها الصحف العراقية الكثيرة التي كانت تصدر في تلك الحقبة.

هذه الحقبة من تاريخ العراق تميزت بحركة مسرحية ناشطة (أقل كلفة في الإنتاج كأداة تعبير)، وكانت تغطي كلفتها الإنتاجية من الجمهور المسرحي الذي كانت سمة المسرحيات سياسية نقدية تسقط أحياناً في السكيتشات المسرحية، وكان يؤمها جمهور واسع من الطبقة المتوسطة والفقيرة أحياناً. كما اتسمت الحقبة الملكية بعدد الصحف ذات المستوى الممتاز التي ضمت صحفيين متفرغين، فيما كانت السينما متعثرة بسبب كلفة إنتاج الفيلم السينمائي الذي كان يترواح بين أربعة آلاف دينار وثمانية آلاف دينار عراقي وبحساب الدولار بين إثني عشر ألف دولار وأربعة وعشرين ألف دولار. وهو رقم كبير في تلك الفترة. إن كافة المقثفين العراقيين الذين عملوا في مجال الفن التشكيلي كانوا في الجانب الاقتصادي الأمين وهم قلة، أما بقية الرسامين الشباب والمجددين فكان حالهم لا يختلف كثيراً عن حال الكتاب والشعراء. وكذلك الصحفيين الذين لم تكن رواتبهم كافية لتغطية متطلبات حياتهم المعيشية بشكل طبيعي وإنساني ولكنهم كانوا يمارسون حرفتهم ويعيشون منها. أما المثقفون في مجال الأدب في القصة والشعر والرواية وكذا الفنانون وهم مع الأدباء يشكلون الغالبية فإنهم يعيشون حياة اقتصادية صعبة تركت آثارها السلبية على كم وأحياناً نوع نتاجهم الثقافي.

صعد الدم الفائر في أبدان مجموعة من العسكريين العراقيين الذين كانوا يعيشون تحت مشاعر التحريض الحزبية دون أن يدركوا طبيعة الصراع الرأسمالي الشيوعي واتخاذ ساحات عديدة للصراع ومنها الساحة العراقية لتجسيد ذلك الصراع وتصريف الحرب الساخنة على شكل حروب باردة في بعض مناطق العالم، فنجح ضابط طيب وغير مسيس بالإطاحة بالنظام الملكي، واعتقد المثقفون أن هذا الضابط واسمه عبد الكريم قاسم قد حرر الاقتصاد العراقي من التبعية للغرب وهو ما سيعود بمنفعه على المجتمع وإن فرصاً جديدة سوف تنشأ للمثقف العراقي والثقافة العراقية لا سيما بعد أن تشكلت مؤسسات ثقافية أدبية وفنية وأهديت لها مقرات وبدأ المثقفون يضعون نظماً ولوائح وقوانين تؤمن مستقبل المثقف العراقي وحياته التقاعدية وكذلك الحصول على منح للتفرغ لكتابة النصوص الأدبية والدراسات وصارت الأماسي الثقافية في مقرات الأدباء والفنانين بديلاً (نسبياً) عن الليالي المدمرة للنفسية العراقية الثقافية في حانات أبي نواس، إذ انعكس واقع المؤسسات والاتحادات للأدباء والتشكليين وفناني المسرح والموسيقى والغناء والسينما، إنعكس إيجاباً على شخصية المثقف العراقي وبدأ واقعه الاقتصادي يتحسن بشكل نسبي، ولأول مرة بدأ المثقف العراقي يعرف السفر خارج العراق في وفود ثقافية وفنية وبشكل خاص باتجاه المعسكر الاشتراكي الذي حاول استيعاب الواقع السياسي العراقي لصالحه. لم يعد الثقف العراقي بحاجة إلى سلفة من مصرف الرهون يرتهن فيه راتبه من أجل زيارة خارج بلاده، وانعكس ذلك كله إيجاباً على حجم الإنتاج الثقافي في كافة أدواته التعبيرية، إلا أن فئة أخرى من المثقفين تم عزلها أو هي تراجعب بضرورة ما أطلق عليه المد الثوري أو المد الأحمر، هذه الفئة تتمثل بالاتجاه القومي للثقافة العراقية والعربية ممثلة بالأحزاب القومية من البعثيين والناصريين. هذه الفئة انسحبت عن المشهد الثقافي العراقي اقتصادياً حيث لم تكن قادرة على التمتع بالامتيازات النسبية التي سادت الواقع الثقافي العراقي الذي صار متسماً باليسارية والشيوعية، ولا بد وبالضرورة أن تبرز للوجود عناصر انتهازية اتخذت من الثورة فرصة للقفز إلى الواجهة من خلال وسائل الإعلام التي سيطر عليها التيار اليساري الشيوعي للحصول على فرص إضافية كملحقين ثقافيين في السفارات، وهي غير الفرص الاقتصادية التي وفرتها الثورة للمثقفين ومنها حصولهم بالمجان على أراض لبناء المنازل والدور السكنية مع سلف عقارية ومساعدات وتسهيلات أعادت للثقف العراقي جانباً من إنسانيته وحريته وارتفعت نسبياً رواتب الموظفين والصحفيين وتأسس قانون التقاعد الذي شمل الكثير من المثقفين ما يؤمن لهم رواتب الشيخوخة والاستقرار والتوجه نحو الإنتاج من دون خوف مستقبلي على الحياة الاجتماعية والأسرية. ولقد نمت القدرة الإنتاجية بسبب النمو الاقتصادي للمثقف والثقافة العراقية فتطورت القدرة الإنتاجية للمسرح وتقدم عدد كبير من الفنانين المسرحيين وعشاق السينما لتأسيس شركات سينمائية. وقد أجازت وزارة التجارة ما يقرب من ثلاثمائة وستين شركة للإنتاج السينمائي (إحصائية أجريتها عام 1962 ونشرتها في صحيفة المواطن العراقية). وكان العراق يومها مؤهلاً لأن يصل إلى مستوى (كمي) من الإنتاج السينمائي كما الهند التي تنتج سينمائياً بمعدل فيلم واحد في اليوم، فكانت ثلاثمائة وستون شركة سينمائية عراقية قادرة على إنتاج فيلم واحد في العام فيصبح الإنتاج السينمائي والحالة هذه ثلاثمائة وستين فيلماً في العام، أي بمعدل فيلم واحد في اليوم كما الإنتاج السينمائي في الهند. لكن الواقع السياسي لا يعرف أحلام المثقفين ولا يعترف بها حيث أطيح بأول جمهورية في العراق من قبل القوى القومية والبعثية في الثامن من شهر شباط عام 1963 وامتلأت سجون العراق بالمواطنين والسياسيين والمثقفين وتحولت الملاعب الرياضية إلى معتقلات بالجملة كما حصل في تشيلي. وزُج بأغلب مثقفي العراق في تلك السجون والمعتقلات وصودرت الفرق المسرحية وممتلكاتها وتمت السيطرة على المطابع وظهرت صحف جديدة بائسة في الشكل والمضمون تحرض على القتل، ومات العدد من المثقفين تحت التعذيب والذين سجلوا الاعترافات على زملائهم بسبب عنف التعذيب خرجوا محطمي المشاعر بعد أن حدث صراع في السلطة الحاكمة وسيطر فيه العسكريون على السلطة وطردوا الجناح الحزبي المدني الحاكم وأطلقوا سراح السجناء من المواطنين والساسة والمثقفين. بقي المثقفون لفترة من دون عمل ولا مورد مالي يعيد إليهم التوازن الحياتي والثقافي حتى بعد أن استعادت الحياة شكلها الطبيعي في شهر تشرين الثاني من عام 1963 تاريخ سقوط الانقلاب البعثي ضد الجمهورية العراقية ومجيء سلطة ذات بعد قومي ناصري اشتراكي عربي.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- هولندا sununu@wanadoo.nl


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة