Culture Magazine Monday  10/12/2007 G Issue 226
سرد
الأثنين 30 ,ذو القعدة 1428   العدد  226
 
عُجالاتٌ لِرَجُلٍ استوائي
(سرد بثلاث غصص)
نسيمة بو صلاح

 

 

عتبة..

فتّشتَ عن فرصة للشرود بعيدا عن رائحتي، بعيدا عن شكل بيتنا... وبعيدا عن أمتعتك التي تعلن دائما عن أسفار غير متوقعة...

كانت هويتك تطالب بالانعتاق منك، ومن أقلامك التي تمارس نوعا من الرقص الجنوني على أوراق، ربما وقَّعْتها باسم لا أعرفه، ذات حزن.. أو ذات قيظ استوائي ..

الأرض.. تَلِدُكَ في الدهر مرتين، وتهرب منك في العالم مرتين، لتعود وتغسل وجهك بالماء والقبل.. في اليوم ألف مرة... وتعلن بخجل أنك حلمها الاستوائي... وقيظها الاستوائي..

1- حكمة الغرابيل

كان صباح الثاني من نيسان.. يغري بأن أسكن في الشعر.. يغري بسفر طفولي مجنون في الألوان وفي الأشكال وفي الأطياف... يغري بارتجال الأحلام التي تشبه اصطياد السكوت من البحار التي أودعتُها همي المبارك ذات حَرّ.. كان يغري باستحضار كل الحكايا التي أورثتنيها المدينة عن العجائز والأولياء... وعرائس (القاراقوز)...

ويغري أكثر باستحضار فوري لخارطة وجهك المظلل بالفناء والرهبة...

جئتني هذا الصباح كما لم تفعل من قبل، مضمخا بالذهول وأطياف... تحمل رؤى ... بيضاء للبحر والغربال.. وبعض كوابيس لإسمنت المدينة...

كان صباح الثاني من نيسان.. يفضح بعض عيون الربيع الذي لا يجيء... عندما خرجت أحل طفولتي المثقلة بموت كل صورنا العائلية، التي ينام عليها وجه أمي....

كان ذلك الثاني من نيسان... عندما أعلن النخيل عن هرة مستعجلة إلى أقاليم الصقيع، وأعلن رفضه الموروث لكل أغاني البحر التي نمتُ على إيقاعها.. قبل ميلادي المعجون بالشرود والعراء...

كنتَ تحاول أن تقوض أركان السكوت... وأن تعيد على حزني حلم البحر والغربال؛ عندما دفعتنا نشوة الإفلات من الغرق ذات صيف... إلى أن نجمع كل البحار في كل الغرابيل، ونعلن انتصارنا قطيعة في وجه كل الأسفار البحرية...

كانت المدينة تضحك من غبائنا وهي تشرع بواباتها أمام كل الراحلين، وتهديهم أشرعة، وبطاقات هوية صدفية، وتمنع أمي -بمرسوم رئاسي- من أن تطلع من قبرها.. كي لا تعلن انتمائي لحضنها الخريفي...

أطلت الحديث -على غير عادتك- عن حلمك المعجون بالهدوء والسذاجة والبرد... وأشهرت في أكثر من فاصلة عداءك للمدينة ولبواباتها ...، ولجوازات السفر البحرية...

كان الثاني من نيسان مسرحا لارتكاب الحماقات... وكانت الغرابيل الكثيرة... تغري بإعادة ترتيب الرؤى.. والحسابات.. والذاكرة...

تَذْكرُ جيدا أننا اختلفنا في شأن من سيحمل البحار... ومن سيحمل الغرابيل.. لكننا اتفقنا بعد فشل عمدي.. على أن نسند رأسينا المتعبين.. إلى جذع نخلة مهاجرة....

2- ما خِلْتُهُ العيد..

إنه العيد.. فيه تأخذ أنت شكل قسنطينة، وتأخذ قسنطينة شكل العرائس الشفافة.. وشكل الوطن.. ويأخذ حبي لك شكل عريشة صغيرة من الورد الأحمر.. والأمنيات...

فتحت شباكي بفرح طفولي... مددت نحوك جسورا كثيرة من قوالب الحلوى وبطاقات المعايدة.. وارتدت نحوي.. جسوري الممدودة إليك... تحسستها .. كلها ضيق.. كلها مرتفع.. وكلها مرشح للسقوط بين اللحظة واللحظة.. تماما كجسور هذه المدينة...

بحثت عنك كثيرا.. اخترقت زحمة البالونات الملونة.. وبراءة ثياب الأطفال.. وخطوط الحناء التي تغير لون الكفّ.. ولكنها لا تغير قدرا..

إنه العيد إذن.. أغراني بالكتابة إليك كما لم أفعل أبدا.. كما لم تفعل أنت يوما.. أغراني بأن أحبك أكثر.. بأن أمارس عنك هواياتك.. وأقرأ عنك برجك هذا الصباح.. بأن أطالع طيفك في بقايا الفناجين التي لم تكن لك... وأن أعلنك ماردا كثيفا يتقن التوحد بالفوضى...

كانت الفوضى.. ترتب أشيائي.. ومزاجي.. وساعة نومي.. ندما طالعني وجهك في جريدة مبللة.. كانت الدروب تفضي إليك بشره ماطر.. ولم تكن تحسن العد حتى العشرة... كانت أشياؤك تقتفيك وترحل عنك.. وكنت تسافر في مخارج الحروف الهامسة.. عندما كتبتُ لك بنبض استثنائي: كيف تتقن الغوص إلى لجج الفوضى والأغنيات... كيف تعبر في مسامات الصحف الرائجة لتخرج منتصرا.. في شكل (مانشيت) واسع يؤثث يومي بالذهول والانكسار...؟؟؟

هذا الصباح.. التقيتُ بي صدفة في المرآة... والتقيت بك في ظلي الهارب مني إلى النافذة... كل الذي بيني وبيني.. كان منهكا من الأسفار الاضطرارية.. وكل الذي بيني وبينك.. كان ساذجا وطفلا كوجهك الذي أحب وكوجهي المتورط فيك.. انظر.. يزال وجهي هناك.. أين علقه الدخان المتصاعد من بين أصابعك، يحكي للجسر الذي شهد يوما لقاءنا الأسطوري.. عن الجرائد.. عن المدائن الورقية.. عن الفراشات النازحة.. وعن أغاني (المالوف) التي رافقت عواصفنا ال... هادئة...

3- بوابة لمدن الورق

عندما التقيتك كنتَ خبرا في جريدة... يطالعك الناس... وتقرأ وجوههم وأنت تشهر أمام دهشتهم نقطتك الأخيرة....

تلتقي في اسمك شبكات الكلمات المتقاطعة.. التي حُلَّت والتي تنتظر الحل.. ويحتمي به كل المشردين في المدن الورقية.. هل تذكر المدينة الورقية التي صنعناها ذات صيف؟ صارت مملوءة بالشحاذين وقطاع الطرق.. وصارت الجرائد تملأ المكان، وصرت أنت أكثر من خبر ... في أكثر من جريدة.. رائحة الورق المصمغ أكثر من مزعجة.. وطموحك في احتلال الأرصفة التي خبرت دهشتي، أكثر من شرس...

ربما سأقول بعد.. وأمارس بعد.. وأمارس عنك بعض هوايات الإفضاء التي تحب... أنت الذي صادرت حلمي، وحلم الصفصافة التي طاولتني قبل أن يجيء الفجر محملا بكل المخافر العربية البارعة في المساءلة.. كان المخفر يدين العاطلين عن العمل، وكانت مهنتي إحصاء أسراب الذباب العائد من الغارات.. حتى الذباب تلزمه رخصة من المخفر لكي يلقي بتعبه على أرض لا يسكنها أحد... هو مثلي منهك ومشطور.. هو مثلي محكوم بالانتظار على أرصفة تشبه المنفى، ومحكوم بالتطفل على ساعات الآخرين، عله يجد وطنا بين العقربين...

كان المساء ثرثارا طباعة النحاس في هذه المدينة، ومربِكا طباعة النحاس، وطيبا طباعة النحاس.. عندما جلسنا نصنع مدينة الورقية، لم تكن (فاضلة) .....، كانت تتقن فن الوقوف على الحياد.. وفن التوحد بالأبيض والأسود...

عبأناها بالرسوم المتحركة التي أحب والتي تحب، مارسنا عليها انتداباتنا ووصاياتنا الساذجة، لوننا رايتها بألوان الطيف، ومنعنا فيها الألعاب النارية وتهريب الحلوى وجلسنا نلعب (لعبة السعادة) على رواية (بوليانا)...

كل يوم يمتلئ صندوق بريدها بأجنحة الفراش.. وبعض الحكايا الطفلة... ببعض الأغاني المهاجرة من البرد... ورسائل كنت تكتبها لي افتراضا....

كان للمدينة حراس يطوقون أسوارها بالسعال.. والصقيع.. محاطة رؤوسهم بالغار والدهشة... لا يفتحون حدودها إلا لأسراب الذباب العائد من الغارات...

لم يكن ذلك الصباح ثرثارا ولا مربكا ولا طيبا.. عندما صحونا محاطين بالعراء والدخان.. الأسوار هاجرت من الصمغ واللون.. الأشجار استقالت من الخضرة ... ويدي لاتزال تربت على موعد للنزوح....

لم يبقَ من مدينتنا إلا الركام.. ورائحة الصمغ .. وصندوق البريد... كان مليئا كالعادة برسائل تركتَها لي افتراضا... قرأتها كلها.. أنهيتها.. وأدركت أنك لم تكن خبرا في جريدة، وإنما نقطة أخيرة... تتدحرج باحتراف نحو النهايات الحزينة...

- قسنطينة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة