Culture Magazine Monday  10/12/2007 G Issue 226
سرد
الأثنين 30 ,ذو القعدة 1428   العدد  226
 
قصتان قصيرتان
سعاد فهد السعيد

 

 

العمائم

أثناء وقوفي حتى تعبرَ عرباتُ الباعةِ وأقطع الطريقَ المُعبَّد المُغطَّى بالتراب إلى الجانب الثاني من السوق تأمَّلتُ كثيرًا بقعةَ الدمِ المخلوطةِ بالماء. وكان هذا أكثرَ شيءٍ يُثيرُ اشمئزازي. وقفتْ امرأةٌ تتحدَّثُ مع أطفالِها الثلاث على جانبي الأيمن، ووَقَفَ على جانبي الأيسر رجلٌ يَحملُ أغراضًا في يده وعلى رأسِهِ؛ (لا بُدَّ أنَّكِ هالكةٌ! هالكة!) تَذكَّرتُ التوصياتِ.

إلاَّ التجمُّعات في أي تَجَمُّعٍ سَتَطِيرُ رُوحُكِ، خَشيتُ أنْ يُظَنَّ أنَّي من رُوَّاد هذا السوق الشعبي الذي لا أنتمي إليهم وأصيرُ بقعةَ دمٍ مخلوطةً بالماء؛ فركضتُ مُسرِعةً خارجةً من السوق المحسوب على الذين لا ينتمون لي، كان الوقتُ قُبيل المغرب، في كلِّ مَشيةٍ كنتُ أتجنَّبُ أيَّ تَجمُّعاتٍ ولا أتوقَّفُ بجانبِ أكثر من شخصٍ واحد.

صعدتُ ربوةً وكنتُ سعيدةً بابتعادي عن الأحياء السكنيَّة وطُرُقِ السيارات، لاحظتُ فوقها فتحاتٍ خارجةً من الأرض كنوافذ القبو نظرتُ منها فكانتْ أرضًا مَسكونةً مليئةً برجالٍ يلبسون أفخمَ الملابسِ ويضعون على رؤوسهم العمائمَ المُذهَّبةَ، وكُلُّ الذي حولهم باذخٌ ومذهَّبٌ، رأيتُهم يَسوقون سياراتٍ من أغلى وأفخر العلامات داخل هذا القبو. سماتُ القُوَّةِ والشِّدَّةِ باديةٌ عليهم. لَمَّا عرفتُ أنَّهم ينتمون للفرقةِ التي أنا منها دخلتُ من تلك الفتحات إلى ما يُشبهُ السقفَ غيرَ المُكتَمِلِ؛ سقفٌ لا يُغطِّي القبوَ بأكمله بل يُحيطُه بمقدار المتر عرضًا بعد السقفِ الأصليّ سطح الأرض، وبمقدار المتر طولاً، انتمائي لهم لم يأخذْهُ قلبي شفاعةً لهم فظَلَّ منقبضًا منهم، وكنتُ وَجِلَةً غيرَ مُطمئنةٍ لهم لن يَدعوني في سبيلي لو علموا بأمري ولن أستطيعَ مُجاراتَهم لو طلبوا مني تنفيذَ أمرٍ ما، تَخيَّلتُ نفسي وقد صرتُ بقعةَ دمٍ مخلوطةً بالماءِ لو سقطتُ في أيديهم، خرجتُ من تلك الفتحة ثانيةً وبدأتُ أركضُ سريعًا مُبتعِدةً عن القبو.

اتَّجهتُ إلى الجنوب حيث نهاية المدينة لأخرج منها؛ ومَخرجُ المدينةِ أو نهايتِها عبارة عن جِسر للسيارة يتَّجه من الغرب إلى الشرق، والعبورُ من تحته باتجاه الجنوب هو الخروجُ من المدينة، تحته تَقفُ شرطةُ الحدودِ. وقبل أنْ أصلَ إلى الجسر بقليل مررتُ بمجموعةٍ من الرجالِ يُشكِّلون في جلستِهم شكلَ المربع، يلبسون الملابسَ السوداءَ والعمائمَ السوداء؛ خِفتُ أن يكتشفوا أني لستُ منهم ولا أنتمي إلى فرقتهم فيُصيِّروني بقعةَ دمٍ مخلوطةً بالماء فابتعدتُ على حذر منهم مُكملِةً المَسير. بعد عِدَّةِ خطواتٍ من تجاوزِ هذه المجموعة ظهرتْ لي مجموعةٌ أخرى تَجلسُ الجلوسَ نفسَه وتُشكِّلُ الشكلَ نفسَه إلاَّ أنَّها تَلبسُ الملابسَ السوداءَ والعمائمَ البيضاءَ خوفي منهم لا يَفرُقُ عن خوفي من المجموعة الأولى فكأنَّ عُودي طَبْلٍ يتناوبان في صدري رعبًا منهم، معرفتي ومعرفتهم أنَّي من فرقتهم لا تُنجيني منهم لاختلافي في الكثير مع ما يعتقدونه؛ خِفتُ أنْ يُحيلوني إلى بقعةِ دمٍ مخلوطةٍ بالماء. أكملتُ السيرَ وعبرتُ على غَشاوةٍ من أفرادِ الشرطةِ، وفي طُرُقٍ خاليةٍ؛ طُرُق ما بين مدينتين ركضتُ.

رأيتُ بوابةً كبيرة حَديديَّة دخلتُ منها في مكان كأنَّه مستودعٌ غيرُ مَسقوف. المكانُ شديدُ الظلمةِ مليءٌ بالكراتين والأكياس المُكدَّسة فوق بعضها، وكانتْ أكبرُ مجموعةٍ من الكراتين مُلاصِقةٌ للجدار الجنوبي. وأنا أتسلَّق الكراتينَ سَمِعتُ أصواتَ رجالٍ يَدخلون من البوابة فأخفيتُ نفسي خلف الكراتين. وحين خرجوا تَسلقتُ الكراتين وقفزتُ من على السور تأكَّدتُ أنَّي في أطرافِ المدينة؛ فواصلتُ الركضَ في أرضٍ غيرِ مأهولة.

دخلتُ أرضًا رمليةً مُسوَّرةً رمالُها حمراءُ طينيَّة مُبللَّة ومُجزَّأة من الداخل بالطوبِ على شَكلِ غُرفٍ صغيرةٍ، الطوبُ المَرصوصُ كان من ثلاثةِ أدوارٍ إلاَّ غُرفة واحدة كانتْ أدوارُ الطوبِ فيها مرتفعةً كارتفاعِ الغرفِ المنزليَّةِ غير المسقوفة؛ دخلتُها بها مِغسلةٌ وفوق المِغسلةِ نجفةٌ بيضاءُ، فتحتُ الصنبورَ وتوضَّأتُ وجاءني إحساسٌ أنَّ هذه الأرض مَقبرةٌ مباشرةً كمَنْ يُفسِّرُ رؤيا مَنامٍ قلتُ (المَقبرةُ أرضُ أمانٍ، والنجفةُ نورٌ يَظهرُ بَعدَ طولِ مُعاناة، وأصحابُ الملابسِ السوداءِ والعمائمِ السوداء؛ عملٌ أسودُ واعتقادٌ أسودُ، وأصحابُ الملابسِ السوداءِ والعمائمِ البيضاء عملٌ أسودُ، واعتقادٌ أبيضُ. واحتَرْتُ في تَفسيرٍ لأصحاب العمائمِ المُذهَّبةِ الساكنين تحت الأرض وهم أشدُّ مَنْ وَجَفَ قلبي منهم ورَعَبَ). خرجتُ من الأرضِ المَقبرةِ راكضةً في طريقٍ مُعبَّدٍ طويلٍ خالٍ من كلِّ شيءٍ مُكْمِلَةً خروجي من البلد باتجاه الوطن.

التكييف

(1- أ)

- لا صيفَ، لا شتاءَ، لا خريفَ نحن في الربيع؛ وعَلا صوتُ فرقعةِ كيسِ النايلون وطَرْطَشَ الماءُ وبَلَّلَ شعرَها وصدرَها وتَشرَّبتْ ملابسُها الماءَ ولامستِ الرطوبةُ جِلدَها؛ فانتعشتْ بالبرودةِ وعلَّقتْ على كلامِهِ: ربيعنا جاء في عِزِّ القيظ، ضَحِكَ وقال: سنأخذ مَقطعًا مُسجلاً في الجوال. ضغط التسجيل، وطُرِقَ البابُ. وَضَعَ الجوالَ على المَرْكَى، وذَهَبَ باتجاه الباب.

2- أ

طَلَبَ منه رجالُ الشرطةِ القدومَ معهم إلى المركز، حَاوَلَ الاستفسارَ عن السبب، قالوا له في المركز.

(1- ب)

سَمِعَتِ الحديثَ ورأتْ الموقفَ من فراغ زاوية الباب المفتوح. وحين غادرتْ الشرطةُ صكَّتْ البابَ وتقدَّمتْ... وارتمتْ على الأرض جالِسَةً وتنهَّدتْ بسعادة وقالتْ: (البَرَكَة!! يا ليتها كانتْ البَدَرَى!!).

2- ب

قبل خروج سيارة الشرطة من الحارة أَخَذَ منهم الإذنَ لِجلبِ الجوال من البيت -للضرورة لو احتاج الأمر- دَخَلَ البيتَ، أَخَذَ الجوالَ من فوق المَرْكَى.

2- ج

في قسم الشرطة طَلَبَ المُحقِّقُ منه الاعترافَ بصِلته وعلاقته بأكياس المسحوق الأبيض الموجودة في سيارته الأجرة؛ بأغلظ الإيمان أقسم أنَّه لا صِلة له بها، وقال: إنَّها مَكيدة. ردَّ الضابطُ: اتركْ عنك الأفلامَ المصريَّة، عرضنا عليك الرجلَ الذي رأى الكيسَ في سيارتك قبل قليل ولم تَعرفْه ولم يعرفْكَ وقد مرَّ بجانب السيارة بالصدفة. قال: انْظرْ إلى حالي وأنتَ تعرف أن لا علاقة لي بالأكياس.. أخذتَنِي من بيتي ورأيتَهُ منزلاً شعبيّاً في حيٍّ شعبيٍّ، بابُه دون جرس، وهو غرفتان تُطلان على حوش، ومطبخٌ رُفوفُه من تَجميعِ الصناديق، وحمَّامٌ لَمْبَتُه سهَّاريَّة خوفًا من الفاتورة، حتى الجوَّال للاستقبال فقط... مكالمات الزبائن ليصفوا عناوينَهم... أين تذهب فلوسُ التجارة إنْ كنتُ أُتاجرُ بالمخدرات؟!!. طَلَبَ المُحقِّقُ منه بيانًا فيه معلوماتٌ عن الذين ركبوا معه اليوم؟ كم عددهم؟ مَنْ هم إذا كان يعرف أحدًا منهم؟! مِن أين أخذهم؟ وإلى أين أوصلهم؟!.

2- د

في ظلام غرفة الحجز حَسْبَلَ على المُتسبِّب له في هذا، أَخرجَ الجوَّالَ وضغط كيفما اتَّفق للإنارة؛ الشاشةُ مازالتْ على وَضْعِ الفيديو وقد انتهتْ المُدَّة الزمنيَّة لتسجيلِ مَقطعٍ. أمران أمامه على الشاشة: (تشغيل) - (إرسال). تَبَسَّمَ حسرةً على نفسه وضَغَظَ التشغيلَ: ظهرتْ سجادةُ الحوشِ الرخيصةُ بنقوشِها الباهتةِ، جاء صوتُ طَرْقِ البابِ وتَقْتَربُ الشاشةُ من المَرْكَى ثم تَصِيرُ سوادًا، سَمِعَ صوتَ فتْحِ البابِ ثم سُكُونًا يَعمُّ الشاشةَ السوداءَ فجاء صوتُ البابِ ثانيةً وهو يُقفل فصَوتُ خطواتٍ تَعلو قادمةً ثم سَمِعَ صوتَ تنهيدةٍ يُستَنبَطُ منها معنى الارتياح عَقِبتها جملة (البَرَكَة!! يا ليتها كانتْ البَدَرَى!!) فسُكُون على الشاشة السوداء حتى انتهاء المدة الزمنية للتسجيل.. فَزَّ يُنادي طَالِبًا مُقَابَلَةَ ضابطِ التحقيقِ.

2- هـ

قال للضابط في مكتب التحقيق: هناك شخص لم أذكره ضمن الركَّاب؛ لا لأنِّي نَسيتُه، بل لأني لم آخذ منه حقَّ التوصيل أو كما يُقال ليس زبونًا (خُرُوجي صباحًا تَصادَفَ مع خروج جاري الساكن قُبالة بيتي، ألقى السلامَ وبدأ يمشي، قلتُ له: ارْكبْ! أوصلكَ!! ردَّ: قريب.. قريب.. المشوار قريب آخِر الشارع، شكرًا. قلتُ له: أنا سأسيرُ في هذا الاتجاه.. نهاية الشارع.. أوصلك!!). هو، هو مَن وَضَعَ الأكياسَ بالاتفاق مع زوجتي؛ يُريدان التخلصَ مني.. هما على علاقة.

(1-ج)

تَحتضنُ أطفالَها النِّيام وتَعِدُهم بصوتٍ عالٍ سأشتري المُكيِّفَ، سأطلُبُ راتبًا من الشئون الاجتماعية، سأطلب مِن خالِكم أنْ يأخذكم معه إلى الطائف، إلى أبها، إلى أيِّ مكان!! لن تضطروا إلى سَكْبِ الماءِ فوق رؤوسكم لتُلطِّفوا سخونةَ أجسادِكم، سأطلبُ من الجمعيات الخيرية كُلَّ وسائلِ التبريد. نظراتُ أطفالِها المُتنبِّهة مَزقَّتْ قائمةَ الأمنيات المُشرَعة أمام عينيها وعادتْ بها إلى التساؤل عن سببِ أخْذِ الشرطةِ زوجَها: مُصيبة لو كان الأمرُ إجراءً بسيطًا في مركز المرور وعَادَ إلى البيت بعد لحظات!!. تَطلَّعتْ إلى الفتحة المَسدودة بالبلاكاش في جدار الغرفة: يا ليته يَغيبُ ريثما يُطِلّ عليكم وجهُ التكييفِ منها يَنفثُ أنفاسُه الباردةُ في رئاتكم؛ أخي والجمعيات الخيرية لن يسألوا غدًا عنا إنْ عَادَ.

- المنصورة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة