الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th September,2006 العدد : 170

الأثنين 18 ,شعبان 1427

نجيب محفوظ والسينما
قاسم حول *

عرف نجيب محفوظ روائيا، ولم يعرف سينمائياً، فيما كانت أعماله الروائية تصلح للسينما بناء وأحداثاً وشخوصاً.
ليست أية رواية تصلح أن تكون عملاً سينمائياً، وإذا ما داعبت الرواية مخيلة المخرج السينمائي فعليه والحالة هذه أن يبذل مع السينارست جهداً كبيراً من أجل سيناريو يحتفظ بروح الرواية ويحقق فيلما ناجحا، فيما أعمال نجيب محفوظ الروائية مكتوبة بصيغة لا ترهق السينارست ولا المخرج بل تقدم لهما مفاتيح سحرية سواء في بناء السيناريو دراميا أو في تحليل الشخوص وأدائها من قبل الممثل.
كان نجيب محفوظ يعتقد بأن رواياته لا تصلح للسينما، بل إنها للقراءة فحسب، وكان يخاف على ما يبدو أن تفقد السينما بريق رواياته ووهجها. لكن نجيب محفوظ استجاب لدعوة المخرجين في أن يشارك في كتابة سيناريوهات أفلام غير مأخوذة عن رواياته. وعندما أقنعه المخرجون والنقاد بأهمية رواياته للسينما رفض أن يشارك في كتابة سيناريوهات الأفلام المأخوذة عن رواياته. وفي تقديري فإن ذلك يكمن في عدم قدرته تجاوز حدود الرواية التي كتبها سواء كان ذلك في طريقة اختصار الفيلم للرواية أو التصرف في بناء الفيلم بصيغة سينمائية هي غير بنية الرواية، لأن كتابة السيناريو تحتاج إلى تصرف لا يجرؤ هو على فعله في رواياته تاركا ذلك لمخيلة كاتب السيناريو الذي سيعود إليه في النهاية بالنص لكي يطلع عليه ويبدي ملاحظاته إذ قد يسقط السينارست حدثا بسيطا يعتبره غير ضروري فيما يشكل ذلك أهمية بالغة في فكرة الرواية ومنطقية أحداثها وبداياتها ونهايات مشاهدها وصولا إلى نهايتها.
ومحفوظ يعتقد بأن رواياته كتبت لتقرأ وهو يعرف ماذا يقول لأن الرواية مهما بلغت قدرة المخرج على عمل فيلم عنها يبقى النص الأدبي أهم من الفيلم وهذه تجربة كل نصوص الأعمال الأدبية التي تحولت للسينما عبر تأريخ السينما العالمية. وحتى الآن لم يقل أحد بأن فيلم كذا كان أهم من الرواية. دائما يأتي النقد والتقييم أن الرواية تبقى أهم من الفيلم. ذلك يعود إلى حرية العلاقة بين الكاتب والمتلقي أولا، وثانيا فإن مفردات لغة التعبير السينمائية لا تمكنها من الدخول في تفاصيل الرواية الوصفية بشكل خاص. وحتى رواية الحرب والسلام لتولستوي والتي أخرجت للسينما بصيغة أكاديمية وليست جماهيرية بمعنى أنها ترجمت حرفيا للسينما عبر الصورة والصوت فإن الرواية بقيت أهم من الفيلم مع أن الاتحاد السوفييتي السابق أراد من موقع الاعتزاز بالأحداث وبالعمل الأدبي نفسه وكاتبه أن يجسد هذا العمل تجسيدا تاريخيا.
المشاهد السينمائي الذي يرى الفيلم والصور تترى أمامه بسرعة 24 صورة في الثانية لا يحقق حرية التأمل في السينما مثل تعامله مع النص الأدبي.. يطوي الكتاب أحيانا ويتأمل الحدث ويرتشف من فنجان القهوة وينام أحيانا والرواية تغطي وجهه.. يقرأ تفاصيل مشاعر الأبطال وأحلامهم وتأملاتهم ويتمتع على مهل بمفردات حواراتهم ومونولوج الحوار الداخلي، الأمر يختلف تماما والمتلقي ينظر إلى الشاشة ضمن طقوس ظلام السينما ووجود الآخر. صحيح أن السينما تجسد الحالة وتحرك المكتوب، ولكن في حال القراءة يتحول المتلقي إلى مخرج حر يرى الأمور كما يراها هو وليست كما يراها ويقدمها غيره.. المخرج السينمائي. هذه المعادلة لا تقلل من شأن السينما الفن السابع الممتع ولا تقلل من أهمية الرواية.
فكيف الحال مع السينما العربية الفقيرة التي حاولت أن تجسد روايات نجيب محفوظ على الشاشة ضمن فقر الإنتاج السينمائي العربي. ففي وقت اكتشف العالم عالمية نجيب محفوظ في الاعتراف بها من خلال منحه جائزة نوبل للآداب لم تستطع الأفلام المصرية المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ من تجاوز حدود مصر أو العالم العربي الذي قد يذهب فيه المشاهد لمشاهدة الفيلم من منطلق اسم نجيب محفوظ.
الأفلام العربية عموما والمصرية الأكثر إنتاجا في عالم السينما العربية بقيت محلية وأسباب محلية السينما العربية والسينما المصرية بشكل خاص هو فقر الإنتاج أولا وعدم تطور وسائل الإنتاج ارتباطا بالجانب الاقتصادي للفيلم السينمائي.
هناك متعة خاصة في مشاهدة الفيلم المصري ومتعة خاصة في مشاهدة الأعمال الروائية العربية في السينما. هذه المتعة خلقتها السينما المصرية نفسها، وهي متعة عربية، متعة المشاهد الذي عودته السينما المصرية وعوده التلفزيون العربي عليها، تكمن في صناعة نجوم يحب المشاهد أن يراهم على الشاشة ويسمع كلاما عربيا مصريا ويستمع إلى نكات ونصائح ومفارقات يقضي معها ساعتين من الزمان ليس أكثر من هذا. ولو شاهد المشاهد غير العربي هذه الأفلام لما فهم شيئا أو لشعر بالملل. ولو عكسنا الصورة وشاهدنا فيلما من الغرب مأخوذ عن رواية أحد الكتاب المعروفين نحن في الشرق لشعرنا بمتعة ذهنية وعاطفية لأن مفردات لغة التعبير السينمائية تقودنا وبشكل مشوق إلى المشاهدة الواعية الممتعة ونغادر الصالة والفيلم منطبع في ذواتنا ويبقى في ذاكرتنا ونود أن نعود لمشاهدته فكثيرا ما شاهدنا الأفلام العالمية أكثر من مرة، فليس الموضوع وحده هو الذي يأسرنا بل إن صيغة وشكل تناول الموضوع عبر مفردات لغة السينما والقيم الجمالية الفنية هي التي تمنح الفيلم صفة العلاقة بين المبدع والمتلقي، علاقة قائمة على تلقي المعرفة والتسلية في آن، وتجعل السينما تعبيرا عن مجمل الفنون وتحمل بجدارة صفة الفن السابع.
هذه السينما لم تتمكن ليس بالارتقاء بقوة روايات محفوظ وحبكتها وتحليل شخوصها وجمال لغتها وحوارها، بل لم تتمكن ولا بفيلم واحد من مجموع الأفلام التي أنتجت عن أعماله الروائية من أن تسافر نحو العالم فتكون جديرة بأدب نجيب محفوظ.
الأفلام التي أخذت عن روايات نجيب محفوظ ليست سوى ممثلين معروفين ألفهم المشاهد المصري والعربي يرددون حوارات الروايات ويمشون في أزقة الروايات ويلبسون ملابس شخوص الروايات.. ليس غير.
تبقى الروايات العظيمة في العالم أهم من الأفلام العظيمة في العالم المأخوذة عنها وتبقى الأفلام التي أنتجت عن روايات نجيب محفوظ تعيش مسافة شاسعة بين قوة أدب نجيب محفوظ وفقر السينما المصرية التي بقيت محلية فيما تجاوزت روايات الأديب الراحل الكبير المكان والزمان فأصبحت أدبا إنسانيا مدهشا يحمل سمة المكان ويخرج منه إلى العالم الإنساني.
في واقع السينما العربية وفقر إنتاجها والتي يشكل الجانب الاقتصادي أهم عوامل الفقر التقني والفني فإن شخصية مثل نجيب محفوظ وأدبا روائيا مثل أدب نجيب محفوظ يحتاج إلى موقف من الدولة المصرية أن تقدم دعما سينمائيا لإعادة قراءة روايات نجيب محفوظ قراءة سينمائية مختلفة تخرج من المحلية والسهولة إلى عالم السينما الثري بلغته التعبيرية والجمالية. لقد حاول المخرجون بإمكانات السينما المصرية أن يفعلوا شيئا، ولكن قدرتهم كانت بحدود. لقد كانوا أوفياء في محاولاتهم وصادقين في نهجهم ولكن واقع السينما المصرية لا يسمح بأكثر مما قدم من أدب نجيب محفوظ في السينما.
بقي أن نعرف أن نجيب محفوظ شارك في كتابة موضوع أو سيناريو 26 فيلما روائيا مصريا وأنتجت السينما المصرية 22 فيلما مأخوذا عن رواياته الثلاثين التي كتبها في حياته التي شكلت نهجا ومدرسة في كتابة الرواية العربية.


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved