الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th September,2006 العدد : 170

الأثنين 18 ,شعبان 1427

نقد النقد: الآليات والرؤى 1-8
د. سلطان سعد القحطاني

اهتمت الدراسات العربية وغير العربية بدراسة النصوص، وهذا هو الأصل في الدراسات النقدية، لكنها لم تهتم بدراسة النقد في حد ذاته، وهذا أمر طبيعي حتى أواخر القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي. وإذا عرفنا أن النقد يقوم عادة على الإبداع، دراسة، وتقويماً، وتقييماً، وملاحظة، وتصحيحاً، كقراءة أولى، فإن بعض الدراسات النقدية بحاجة إلى قراءة ثانية، تسمى (نقد النقد). وإذا انطلقنا من مجمل التعريفات العديدة لكلمة (نقد) ابتداء من التعريف القاموسي (نَقَدَ) والمعروف عند العرب من مدلول هذه الكلمة (العيب) وهو تشخيص الداء في النص، وتمييز الغث من السمين والنافع من الضار..، وقد لا يختلف التعريف الحديث عن القديم في المضمون، فالتعريف الحديث (إعادة قراءة النص)، فهل نقد النص إعادة للنص، أو إعادة لقراءة النص، أو لهما معاً؟؟ ومن هذا التساؤل سننطلق في دراستنا لهذا الموضوع، وسنجد أن نقد النقد يأخذ بالأقرب فالأقرب، وسيقرأ الاثنين معاً، وبحسب هذا النسق القرائي للنص الأصلي، أي نص المبدع. وقد لا يخلو من نقد مبطن تلقائي. وفي كثير من الأحيان، نجد القراءة الثانية قراءة للنصين معاً، لكنها تركز على النص الثاني، أو النص الأقرب وبطبيعة الحال ستكون القراءة الأولى الأقرب من حيث الزمان، وتنسيق مع القراءتين في نسق الموضوع، فالنص المقروء في القراءة الأولى مباشر للموضوع، من حيث التشريح والإجمال والرؤية الخاصة بالناقد الأول، والقراءة الثانية مباشرة للقراءة الأولى، ومعتمدة بطريقة غير مباشرة على النص الأصلي. أما آليات كل منهما فتختلف حيناً وتتفق حيناً آخر. وعلينا أن ننظر بعين الاعتبار إلى آلية كل من الناقدين، إضافة إلى الرؤية الفنية، من خلال الآلية المتبعة، والتفصيل فيها من حيث:
1 اتفاق بين الناقدين.
2 اختلاف بينهما.
3 إضافات علمية لم ينتبه إليها الأول.
وينقسم هذا البحث إلى قسمين، من حيث الزمان، الأول: نقد النقد في مراحله المبكرة عند العرب. والثاني: نقد النقد الحديث، وينقسم إلى فرعين، الأول: النقد الأدبي، والثاني: النقد الفكري. وسنقتصر في هذه الورقة على الفرع الأول، ونبدأ من المرحلة الأولى:
1 ظاهرة النص:
عندما بدأ النقد الأدبي العربي في بداية القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي، كان نقداً بلاغياً يخدم قضايا اللغة ويفسر ما غمض منها، وهو أقرب إلى النقد التفسيري، ولم ينفصل النقد الأدبي عن البلاغة إلا متأخراً، لذلك ظهر مصطلح (البلاغة والنقد الأدبي) وبالتالي نجد النص يُنقد بلاغياً، وليس فنياً، أي أنه ينقد من حيث بلاغته، بمعنى تفسير النص من الظاهر إلى الباطن.
ولعل الحاجة للبلاغة في زمن ظهور الكتابة والتأليف في فنون اللغة العربية، عندما بدأت الحاجة إليها ملحة في زمن اختلاط السليقة العربية بلسان القوم الأعجمي، وانقراض الأجيال من العرب، ممن يحفظون القرآن والشعر العربي الخالص، وظهور أبنائهم وأحفادهم في بيئات غير عربية، جعلت العلماء يهتمون بالجانب البلاغي أولاً لتسهيل فهم لغة القرآن الكريم وأشعار العرب على متلقيها من غير العرب، بل من العرب، في القرن الثالث وما بعده خاصة فالقرآن نزل بلغة العرب التي كانوا يتحدثونها في بيئتهم، وبانتقالهم إلى بيئات أخرى فقدت الكلمة معناها المحلي وصعبت على المتلقي، وكان من نتيجة ذلك أن وقع الاعوجاج في ألسنة بعض العرب، فخاف الغيورون على اللغة من أن تفسد ملكة العربية، ويضطرب لسان أهلها.
يقول الدكتور عبده عبدالعزيز قلقيلة: (إذا كان ذلك كله وغيره سهلاً على العربي فإنه صعب على المستعرب، بل إنه صعب على غير المشتغل بالأدب من غير العرب). ولعل اضطراب المعنى الداخلي قد خلق إشكالية في الفهم البلاغي الذي ولد بدوره إشكالية نقدية حتى عند العلماء الفلاسفة فهذا أبو يعقوب يوسف الكندي، وهو عربي أصيل وفيلسوف ورياضي منطقي، يجد في كلام العرب حشواً، على حد تعبيره فيقصد أبا العباس المبرد (ت 285) فيقول: (إني وجدت في كلام العرب حشواً)، ويستفسر منه المبرد عن الموضع الذي وجد فيه الحشو، فيجيب: أجدهم يقولون: عبدالله قائم، ثم يقولون: إن عبدالله قائم، ثم يقولون: إن عبدالله لقائم. الألفاظ مختلفة، والمعنى واحد.
وهناك فرق بين إنسان جاء يسأل عن شيء يجهله، وبين آخر أصدر حكماً نقدياً على شيء بمجرد الشكل الخارجي (ظاهر النص)، والكندي من النوع الثاني، لكنه جاء بنقد لما تشابه عليه، وليس حكمه بالنهائي. وفي هذه الحالة تأخذ أبا العباس الحماسة فيقول: بل المعاني مختلفة؛ فالأول إخبار عن قيامه، والثاني جواب عن سؤال سائل، والثالث جواب عن إنكار منكر. ويعقب أحد الدارسين للنقد والبلاغة على هذا الموضوع بقوله: (لقد كان هذا الرد من المبرد هو الأساس الذي أقام عليه علماء البلاغة فيما بعد ما سموه (اضراب الخبر). فإذا كان الكندي، عالم الرياضيات والفلسفة العربي وجد حشواً في ظاهر النص، أو ما ظنه من الحشو، ولم يكن ملماً بعلم البلاغة وأسرارها، فماذا نقول عن المستعربين من المسلمين الذين دخلوا الإسلام بخلفية غير عربية، وقد حيرتهم بعض الألفاظ في فهم آيات القرآن الكريم؟!. إن إشكالات ظاهر اللفظ عديدة في كتب التراث العربي، مما حدا بالعلماء إلى تفسير القرآن الكريم ووضع المعاجم اللغوية لتوضيح المعنى في دلالته. كما شكل تغير البيئة في تغير المعنى بما كان يدل على ثقافة بعينها إلى ثقافة مختلفة، فقد كان أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي البصري (ت 206) في مجلس الفضل بن الربيع، وزير المأمون، إذ سأله سائل عن معنى قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ}، ولعله استغرب تشبيه ثمرة شجر الزقوم برؤوس الشياطين، بسبب أن المشبه به مجهول!!!
وقد أجاب أبو عبيدة بما هو من صميم العربية ومألوف في استعمالها فقال:
(أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال)
فالشياطين والجن والغول..، وغيرها عالم مجهول لم يره أحد من البشر، فكيف يشبه بشيء لا يعرفه ولم يره؟؟ أولاً، هذه الأسماء سائدة في الثقافة العربية، ثم إن الغرض من التشبيه إظهار المشبه به في صورة قبيحة منفرة. وبالرغم من أن الربيع قد استحسن الرد وأن السائل قد اقتنع بالإجابة ووضحت الصورة في ذهنه إلا أن أبا عبيدة قد أحس بضمير العالم أن الناس بحاجة إلى زيادة بيان هذا الموضوع الخطير، وقد فعل، بأن تقصى ما ورد في القرآن الكريم من الألفاظ التي أريد بها غير معناها الحقيقي، وجمعها في كتاب سماه (مجاز القرآن)، لعله أول كتاب ألف في البلاغة العربية. فإذا كانت الشياطين والجن والغول والعنقاء عوالم غيبية لم تر بالعين، فإن بشار بن برد ولد أعمى لم ير الليل ولا الكواكب ولا السيوف، لكنه صورها في أبلغ الصور، ببصيرته وليس ببصره. وما قدمه النقاد في مثل هذه الحالات لا يتعدى كونه دهشة ورد فعل لغير ما ألفوا، أو لعله قصور في الفهم وجهل في المعنى، احتاج إلى رد فعل آخر، كشف اللثام عنه ناقد في العلم نفسه، تحول بهم من المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن، قبل ظهور الدراسات النقدية البنيوية بقرون طويلة عند النقاد الغربيين. وقد خلقت هذه الاشكاليات المعرفية حافزاً شديداً عند العلماء والنقاد العرب، ابتداء من بشر بن المعتمر، وابن سلام، والجاحظ، ومن ذكرنا من اللغويين والبلاغيين، حيث كان الحكم النقدي البلاغي واللغوي عندهم يدور في محورين اثنين: الأول: سلامة اللغة من المولد من الألفاظ، وحسن تراكيبها وجزالة ألفاظها. والثاني: تقادم زمن القصيدة. وهناك سؤال يبحث عن إجابة في قضية القديم والجديد، ولماذا القديم محبب عند الإنسان؟ ولعلنا نلخص ذلك في عدد من النقاط: أولاً، صفاء القصيدة الجاهلية وارتباطها بالبيئة العربية، وخلوها من التعقيد في نظر أولئك النقاد وتمسكها باللغة العربية القريبة من عصر نزول القرآن، وعدم فرض القيود التي ظهرت فيما بعد. ثانياً، وجود القديم في حياة الإنسان يعني له تراثاً يجب التمسك به وإحيائه، من الناحية النفسية، فالكثير من الناس يجدون في الماضي عبق التاريخ والأصالة، فقد كان تاريخاً خاصاً بالعرب لغة وتراثاً وعادات تُميزهم عن غيرهم، فالإسلام دين البشرية كلها، وقد وجد العرب منافسة وإقصاء وإلغاء من قبَل الشعوبيين، وهذا ما جعل الجاحظ وابن طباطبا وابن المعتز يدافعون عن العرب بشدة ويثبتون مآثرهم، وهذا ما دفع بالعلماء إلى وضع العلوم وتأصيلها، خوفاً عليها من الضياع والاندثار في خضم هذه الهجمة الشعوبية، ولن يحفظها إلا هذا التراث. وفي نظرهم أن المحدثين قد سايروا هذه الفئة من الشعوبيين في أفكارهم، وولدوا مصطلحات من لغاتهم في شعرهم، ولعل مفردة واحدة أو أكثر عندما ترد في قصيدة من شعر المحدثين تثير جدلاً حول فساد اللغة، كما هي في قصيدة البحتري، عندما وردت لفظة (النيروز) الفارسية.
ثالثاً: الاطمئنان للقديم المجرب الذي لا يحتاج إلى كد الذهن ولا لفت النظر، وذلك يدل على عجز النحويين واللغويين في استخراج ما في النص من مدلولات لغوية فنية، وقد وجد الجاحظ أن الكتاب أجدر على التعامل مع النصوص الجديدة أكثر من اللغويين والنحويين، فيما يتعلق بالبناء الفني في القصيدة، لأنهم يأخذون القصيدة وحدة واحدة، أما اللغويون والنحاة فيستشهدون بالبيت الواحد على النص بكامله، فعملهم وظيفي في خدمة موضوع معين، وليس في النص بذاته. والأصالة في نظرهم في التقادم والحفاظ على اللفظ العربي، ومعظم هؤلاء النقاد، من النحويين والبلاغيين واللغويين. والنقد في هذه المرحلة مرتبط بالبلاغة والنحو، ولم ينفصل عنهما، كفن قائم بذاته إلا عندما أصدر ابن قتيبة كتابه المعروف (الشعر والشعراء) فهو أول من فصل في هذه القضية.


Dr_sultan1@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved