الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th September,2006 العدد : 170

الأثنين 18 ,شعبان 1427

مفكرة
جن ضاري وقناديشه
ماجد الحجيلان

المتعة التي يجدها قارئ غازي القصيبي في مؤلفه الأخير (الجنية) مردها أنه يجد نفسه في الجنية وفي سوابقها أمام أديب فكاهي حاذق يقبض زمام اللغة ويطير بها على سحابة من الفانتازيا اللذيذة، وهو أي القارئ مع شيخه غازي في رواياته كطالب علم أمام شيخ موسوعي وأديب يأخذ من كل فن بطرف، كما هو التعريف المدرسي للمتأدبين، فتلاميذه ومريدوه الذين هم القراء يثنون ركبهم عند الشيخ وهو يحدثهم في الفقه والحديث وعلوم الفلك والفيزيقا، وهم لا يملكون إلا التعجب من سعة علم شيخهم وفطنته، فكيف إذا كان هذا الشيخ خفيف الدم طريف الحكايا، يفتي ويتماجن، يهدر ويتلاطف، يجد ويتساخف، هذا إذا ما تغاضيت عما توفره الكاريزما القصيبية من فضول وتطلع لاستكشاف المزيد منها وتتبع جديدها.
الكتابة عند القصيبي هنا هي نوع من الحكي أو المسامرة أو المحاضرة إن شئت، ولا علاقة لها بالسبك والصرامة المتصلة بالكتابة الروائية.
وقارئ (الجنية) يلمس أنه أمام كاتب أو متحدث يعرف ما يقول؛ فهو عاشق كبير تورط في الحب وجرب لوعة الغرام حين الحديث عن الحب، وهو سائح خبير في أزقة الدار البيضاء ومطارها وفنادقها وزنقاتها الشهيرة لدى توصيف خفقات وصبوات بطله هناك، أما خبايا السحر الأنثوي المغربي، بحقيقته ومجازه، واللهجة والأطعمة والأغاني والحمامات المغربية فحدث ولا حرج،. . غير أن القارئ ذاته أيضا يجد نفسه أمام خيال جامح متمرد مستطرد يورط صاحبه أحيانا كثيرة في بناء الحوار بين الشخصيات حتى ينعدم تمايزها وفرادتها، بحيث تنصهر كلها في البطل الذي هو نسخة من المؤلف، وهو ما غدت معه بعض فقرات الحوار في (الجنية) كأنها طيف الهذيان ذاته، أو هي كتابة أولى لم ينفض عنها غبار التجريب. ولعل أول ما يلفت قارئ (الجنية) إصرار مؤلفها على دمغها بأنها (حكاية) لا رواية وذلك لتريح مؤلفها من (تقعرات النقاد ونقد المتقعرين) كما ينص في تقديمه، وهو الأمر الذي طالما شكا منه القصيبي في كل ما كتب عن أعماله، إذ أخذ عليه كثير ممن كتب عن رواياته أنها تفتقد لبنية الرواية التقليدية، وهو والحال هذه يظن أنه حينما يصفها بحكاية إنما ينهي هذا السجال لصالحه، بينما الحقيقة أنه يفتح الباب على مصراعيه لكلام كثير، ليس أوله أن المؤسسة العربية وهي الدار الناشرة وصفت الحكاية بأنها رواية (Novel) في أكثر من موضع، ولا آخره أن الأدب لم يستقر بعد على شيء مكتوب يمكن تسميته حكاية إلا فيما يسرد شفاهة ولا تؤسس له فصول وحوارات، وهو ما يعزز رغبة المؤلف بتقمص شخصية الحكّاء لا الروائي، غير أن افتتان القصيبي وانشغاله بما سوف يقال ويكتب عن حكايته يذكر بولع الشعراء منذ الفرزدق وحتى نزار قباني بلعن النقاد وشتم مهنتهم وتحقيرها، من ثم ملاحقة حججهم ونقداتهم بالنقض والتهديم.
بطل الحكاية ضاري ضرغام الضبيّع مجددا لا ينجو من أوصاف المؤلف.. اسمه الدال على الهجوم والمباغتة، ودرجته العلمية، وعمره، بل حتى طوله ووزنه، وهو ما حدث مع بروفسور العصفورية ويعقوب المفصخ أو أبو شلاخ البرمائي اللذين لابد أشبها المؤلف في عدد من الوجوه ، أما عالم الجن فهو ليس جديدا، فهاتان الروايتان لم تفتقدا إلى أحاديث الجن ذاتها، فالبروفسور ارتبط بالجنية (دفاية)، وأبو شلاخ يواجه كهرمان بنت ملك الجان ويخترع (مخنقة الجن العظمى)،.. تطلُّع المؤلف إلى الزواج من جنية أو مطارحتها الغرام ظاهر فهو أمر انشغلت به الروايات الثلاث، ولكن أية جنية ؟ أهي الحرية التي طرح استفهاما حولها في مفتتح الحكاية؟ هذا موضع كلام آخر، لكن الأهم هنا هو تسجيل ولع القصيبي بموضوعه الجن وعالمهم، وكونه ثيمة أساسية في نتاجه الفانتازي بوجه خاص.
والدكتور ض ض ض بطل الحكاية يسرد ما حدث معه بطرافة معهودة وتلقائية ألفها قارئ القصيبي، بحيث لا ينشغل المؤلف بأجواء روائية ملحمية أو واقعية، وإنما هو يسرد الوقائع كما يحكيها شفاهة بلا هواجس في سبك اللغة، ولا عناية بالتوصيف، ولا استنطاق الشخصيات عبر المونولوج كما يحدث عادة في الرواية، والجديد هنا أن الراوي يضمن فصول حكايته جملة من المعارف العامة والنقول والاستقصاءات حول الجن في المأثور الديني والشعبي، وهو يحكم على المرويات ويرجح ما يراه منها صوابا على النحو الذي يدعم حكايته للأحداث، كما يختم الحكاية بمسرد طويل من المراجع حول الجن والعفاريت معظمها من الكتب الدينية والفقهية أو الكتب التي تتاجر بغموض هذا العالم السفلي.. وهو الأمر الذي يلجأ له عدد من الروائيين وهم يتصدون لكتابة ملحمة روائية تاريخية أو واقعية سياسية لتوضيح مصطلحات ومفاهيم وخرائط لمواقع، كما فعل مثلا صنع الله إبراهيم في وردة واسكندر نجار في دروب الهجرة.. لكن الحال لا تنطبق على حكاية القصيبي المتخيلة بتثاقل كأحلام منتصف النهار.
ضاري الضبيع الراوي الساخر لم يكلف نفسه في حكايته أن يتوسع في الوصف والتخييل، رغم أنه ورط نفسه في عالم يتطلب سعة الخيال وغرابة التصوير، ولذا لجأ إلى أنسنة الجن ليلائموا حدوتته البريئة، فجن السيد ضاري مأنوسون جدا وآدميون خلوقون وقورون، وهم من الإنسية بحيث يكتبون الأبحاث الأكاديمية ويجرون المفاوضات ويستخدمون الهاتف والأقراص المنومة، ولذا فلم يرد في حكاية الضبيع أية أجواء غريبة كما في الروايتين المشار إليهما، أو مخيفة مرعبة لا تقرأ قبل النوم لئلا تثير أحلاما مفزعة كما صورها الدكتور عبد العزيز الخويطر في تحذيره للقراء ضمن قراءته للحكاية في (الثقافية)، فضاري لفرط كسله أنسن الجن بشكل غير معقول ولا مقبول متجنبا مشقة الجهد الذي يتطلبه نقل عالمهم إلى حكايته الفانتازية، أو لكي لا تتمرد عليه الأحداث التي تصورها سلفا، ولم يكن أبدا بحماس البروفسور أو أبي شلاخ وجرأتهما على التخيل والتكاذب.
جن ضاري وقناديشه بل حتى خواجاته أخلاقيون لدرجة متعبة وضعاف ومتدينون ومؤدبون بما هو لا روائي ولا حكائي، أما ضاري نفسه فهو يثير الدهشة والعجب لفرط سلفيته واتباعيته وهو الأستاذ في الأنثربولوجي وبدا ذلك ظاهرا في مناقشاته الساذجة للجن وللمشرفة الأكاديمية، حتى كأنه لم يغادر قريته أو غادرها داعية لإيدلوجيته، أغلق مفاتيح عقله وتركها في بلدته حين سافر.. ولهذه الأسباب فإن بوسع محبي أسطورة الأدب الإسلامي أن يفرحوا بهذا النتاج القصيبي الأخير، لكونه مثالا ممتازًا في نظافته من الخطايا السلوكية والعقدية، ولأخلاقيته ووعظيته، ولولا استثناءات قليلة في الحكاية، نحو تعريضه بالأبوية التي يمارسها عناصر الهيئة؛ لجاز القول إن (الجنية) هي النموذج الذي لم ينتجه الأدباء الإسلاميون بعد.
أما الجهد الذي أجراه الأنثربولوجي ض ض ض في حفرياته الطريفة حول عالم الجن وكيف يتخيلهم الناس، أو تحليله لاسم (عيشة قنديشة) الجنية المغربية الشهيرة التي يعرفها كل من زار المغرب ورأى كيف ترتعب المغربيات من نطق اسمها فيبسملن رعبا وخوفا على الرجال من فتك هذه الأسطورة الشعبية؛ فهو سائغ لو نجح في إدراجه في متن حكايته بحيث يذوب في حوارها وأبطالها، وبما لا يخرجها عن جنسها، ولا يحولها هجينا بين قصة ورواية ودراسة وخاطرة ومقالة.كان بوسع القصيبي أن يكون أكثر حذاقة ورصانة وهو يقتحم هذا الموضوع الاجتماعي الديني الفانتازي الحساس؛ ولكن هذا هو غازي يفتح الأبواب ويترك الناس يدخلون ثم يمضي إلى جدار آخر يفتح فيه كوة أخرى.


hujailan@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved