Culture Magazine Monday  13/08/2007 G Issue 211
فضاءات
الأثنين 30 ,رجب 1428   العدد  211
 

مساقات
أنا لغتي أنا
د.عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

 

اللغة: هُويّة الإنسان، بل هي ميّزت الإنسان على الحيوان، وكانت أوّل درس تلقّاه آدم عليه السلام؛ إذ علمه الله الأسماء كلها.

ومن هنا ليست اللغة بوعاء الفكر فحسب، كما يُقال، أو مجرد وسيلة تواصل، بل هي أكثر من ذلك، من حيث هي أداة الفكر، فلا تفكير إلا بلغة.

ولذلك فإنها تُكيّف العقل وتُشكّله وفق نمطها الخاص، ومن ثمّ تنسج الذهن والوجدان على منوال الثقافة التي تنتمي إليها اللغة، فاللغة العربية تصنع عقليةً عربيّةً، وتصوغها فكرًا وروحًا وانتماءً، وتطبعها بطابعها، والإنجليزية تصنع عقليةً إنجليزية، وتصوغها فكرًا وروحًا وانتماءً، وتطبعها بطابعها، وإن كان مكتوبًا في هويّة صاحبها: عربيّ، أو هندي، أو صيني.

تلك هي اللغة، وكذلك تعمل فينا.

الإنسان هو لغته.

وهذا ما عبّر عنه محمود درويش بعمق شعريّ في قصيدته (قافية من أجل المعلّقات)، من مجموعته الشعرية (لماذا تركتَ الحصان وحيدًا):

ما دلّني أحدٌ عليَّ.

أنا الدليلُ، أنا الدليلُ إليّ بين البحر والصحراءِ.

من لغتي وُلدتُ على طريق الهندِ بين قبيلتَين صغيرتين عليهما قَمَرُ الديانات القديمةِ، والسلامُ المستحيلُ وعليهما أن تحفظا فَلَكَ الجِوار الفارسيّ وهاجس الرومِ الكبيرَ، ليهبط الزمنُ الثقيلُ عن خيمة العربيّ أكثرَ.

من أنا؟ هذا سؤالُ الآخرين ولا جوابَ له.

أنا لغتي أنا، وأنا معلّقةٌ..

معلّقتانِ..

عَشْرٌ، هذه لغتي..

أنا لغتي، أنا ما قالتِ الكلماتُ: كُنْ جَسَدي، فكنتُ لنَبْرِها جَسَدًا.

أنا ما قلتُ للكلمات: كُوني ملتقَى جَسَدي مع الأبديّة الصحراءِ.

كُوني كي أكونَ كما أقولُ!

...

فلتنتصر لُغَتي على الدَّهْر العَدُوِّ، على سلالاتي، عليَّ، على أبي، وعلى زوالٍ لا يزولُ هذه لُغَتي ومعجزتي.

عصا سحري.

حدائق بابلي ومسَلَّتي، وهويّتي الأولَى، ومعدني الصَّقيلُ ومقدَّسُ العربيِّ في الصحراءِ، يعبُدُ ما يسيلُ من القوافي كالنجومِ على عباءَتهِ، ويعبدُ ما يقولُ..

...

وتشظّي لغتنا العربيّة بين عاميّة وفصيحة تركة ثقيلة، خطيرة على الوحدة اللغويّة والوحدة القوميّة..

على الرغم من أن الفاصل بين بعض العاميّة ذات الأصل الفصيح والفصحى ليس بكبير، ويجب إلغاء الجدار العنصري بينهما، شريطة أن تكون المفردة العاميّة عربيّة الأرومة.

أمّا من يقيس اللغة العربيّة بلغات أخرى في حراكها وتناسلها، فحريّ به مراجعة العواقب.

فلو استشهدنا باللغة الإنجليزية مثلاً، وقسنا على لغة شكسبير التي لم تعد سائغة في إنجليزية اليوم، لكان قياسنا قياسًا مع الفارق الكبير؛ من حيث إن الإنجليزية لغة متحرّكة، لها كل يوم معجم، فلو أخذنا بمقياس شكسبير ولغته، إذن لاحتاج المتنبي إلى ترجمان، وإذن لألغينا من حسابنا القرآن، فهو أقدم، ناهيك عن أدب ما قبل الإسلام.

إن العربيّة لغة دينٍ وتراث وحضارة، والقياس بغيرها غير وارد، إلا إنْ رضينا أن نكون بلا ماضٍ ولا تراث متصل ولا تاريخ ثقافي وروحيّ.

كما لا يشكّ عارف بتأثير اللغات الأجنبيّة في الفكر وحياة الإنسان والشعوب، وأن تدريس اللغة الأجنبية في مراحل عمريّة مبكرة يعني تغريب العقل والروح والفكر! وهو ما لا تفعله أمّة إلا وقد سَفِهَتْ نفسها، ورضيتْ أن تكون تابعة لأمة أخرى.

هذا ليس كلامًا عاطفيًّا، لكنها منذرات علم اللغة وعلم التاريخ.

على أنه يجب التفريق في هذه الجدليّات بين مبدأ تعلّم اللغات الأخرى، وهو أمر مشروع بل مطلوب، وتعليمها في مراحل عمريّة مبكرة.

لقد أحيت إسرائيل - على سبيل المثال - لغة ميتة، وفرضتها على شعبها، ولا تعبأ بالإنجليزية، مثلما نفعل، لتعيش ازدواجنا، أو لتجعلها مصيرها المحتوم؛ لأنها تدرك أن العبرية تعني: إسرائيل.

فمتى ندرك نحن أن العربيّة هي: العرب؟ أمّا الباحثون عن الحياة الخدميّة وطلبتها فكُثر، والإنجليزية أداتها اليوم، غير أن شأن اللغة، لدى من ينظر إلى أبعد من قوت يومه، هو شأن آخر.

ثم من قال إن الإنجليزية قد أصبحت الطريق الصحيح لتلقّي المعارف والعلوم المختلفة، كما تسوّق هذه اللازمة الدعائية؟ هذا امتداح لا يقوله الإنجليز أنفسهم، بل هم يصفون لغتهم بأنها (لغة مجنونة Crazy Language)، والأكاديميات الأمريكية تشكو اليوم من تخلّف طلبتها في العلوم والمعارف قياسًا إلى الألمان أو اليابانيين، فهل أنقذتهم الإنجليزية؟! واليابان - من جهتها كذلك - لا تمنح الإنجليزية تلك الأهمية القصوى التي يمنحها إياها بنو يعرب، ولا تراها طريق معرفتها المُثلى، كما يرون.

وأذكر هنا أنني كنتُ وبعض الزملاء في لقاء مع سفير اليابان لدى المملكة، رفقةَ وفدٍ برلماني ياباني، فسألنا عن تعليم طلابنا في اليابان، وعن اللغة التي يتعلّمون بها، (سألنا عن الإنجليزية بالإنجليزية طبعًا، مع وجود ترجمان بين العربية واليابانية، لم يكن له من دور!)، فضحك السفير قائلاً: هناك بعض المدارس الخاصة لمن شاء، إلا أن التعليم الرسمي والعام لدينا باليابانية! إن من حجج المهوّنين من شأن المخاطر المحدقة باللغة العربية، سواء من مروّجي العاميّة أو دعاة اللغات الأجنبيّة، استدلالهم بالآية القرآنية: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).

وكأن في هذا ضمانة أبديّة ببقاء اللغة العربيّة.

وما حجتهم بسوى تأويلٍ موظّف لغَرَض التقليل من تأثير العاميّات أو اللغات الأجنبيّة، وإلا فالنصّ جاء عن (الذِّكْر)، لا عن (اللغة).

و(الذِّكْر) محفوظ، إنْ في اللوح المحفوظ، أو في البلدان الإسلامية، عربيّة وأعجمية، كأفغانستان، أو باكستان، أو إيران، لكن اللغة غير محفوظة في تلك البلدان.

بل لقد صارت لغة العرب أسوأ من لغة أولئك، الذين علّمونا لغتنا ويعلموننا إيّاها، منذ سيبويه إلى سعيد الأفغاني! فليت شعري أين اللغة المحفوظة بحفظ القرآن؟ أم هل نريد أن تغدو العربية كالقبطية لغة صلوات وطقوس فقط؟ كما أن من المغالطات المألوفة كذلك الخلط بين شعار (اطلبوا العلم ولو في الصين)، و(من عرف لغة قوم أَمِنَ مكرهم) - وهما شعاران يعنيان: نقل المعرفة وتعريبها وتوطينها، لا جعلها جسرًا للانسلاخ والتبعيّة والاغتراب - وبين تبرير الهجمة الشرسة على العربيّة من مستعمرٍ غازٍ أو مستعمر وطني، مدافعٍ عن عُقَدِهِ اللغويّة بالتهوين من شأن الازدواج اللغوي، العامي الفصيح، والعربي الأجنبي، دون أن يملك ما يقدّم إلا التقوّل والتأوّل وإظهار التفاؤل.

وها قد خربت مالطا، وشبعت خرابًا، وليس من التفاؤل في شيء دس الرؤوس في الرمال! المفارقة أن تأتي كل تلك الضجة حول أهمية اللغة الإنجليزية والتهويل من عظيم ما ستمنحنا إياه من مستقبل المنّ والسلوى، على الرغم من تعثّر طلابنا في كل اللغات، فلا هم أفلحوا في العربية ولا هم أفلحوا في الإنجليزية، فالخيبة عامة طامّة.

لماذا؟ لأن من يُتقن لغته الأمّ هو أكثر تأهيلاً لإتقان أي لُغةٍ أخرى، من حيث إن اللغة مهارة ذهنيّة منطقيّة، تُكتسب بمنطق اللغة الأوّليّ في الذهن، فمن يتقن العربية سيسهل عليه تعلّم أي لُغة، بل سيبزّ سواه من المتردّين أصلاً في لُغتهم الأمّ.

ولنا مع هذا الموضوع مخاضٌ في المساق المقبل، بمشيئة الله.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- (عضو مجلس الشورى) aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة