Culture Magazine Monday  13/08/2007 G Issue 211
فضاءات
الأثنين 30 ,رجب 1428   العدد  211
 

الليبرالية العربية والمسألة القومية «1»
د. عبدالرزاق عيد

 

 

ازدواجية التجربة.. بين مدّ العلوم التقنية وجزر المعرفة النظرية

انطلاقاً من القول النظري الذي يرى أنه لا يمكن التعرف على الخصائص المميزة لظاهرة ما إلا من خلال معرفة كيفية عمل قوانين تطورها الخاصة وفق قوانين تطورها العامة؛ أي أننا لابد لنا للتعرف على علاقة الليبرالية العربية بالمسألة القومية، من النظر إلى آلية عمل هذه العلاقة في السياق العربي الخاص، المحلي، القومي، بل وفق قوانين تطورها العامة، عالمياً، كونياً، تاريخياً.

إن القول النظري هذا يغدو ضرورة إجرائية في سياق بحثنا، نظراً إلى أن مفردتي (الليبرالية - القومية) هما من المفردات التي دخلت الحقل التداولي للفكر السياسي والاجتماعي العربي في العصر الحديث، من خلال عملية التقاطع التاريخي التي تمت بين المجتمع العربي والغرب؛ فهما مصطلحان حديثان، كانا نتاج سيرورة تاريخية وثقافية واجتماعية وسياسية أنجزتها أوروبا تحت عنوان ما بات يسمى بالأدبيات السياسية، بإنجاز الثورة القومية الديموقراطية التي هي السمة السياسية لما يميز العصر الحديث عالمياً.

هذه الثورة المنجزة أوروبياً ستغدو جوهر توتر التحدي الحضاري: الثقافي والسياسي والاجتماعي لما ينشده المجتمع العربي منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم، ولعل ذلك ما يفسر أن الفكر العربي لا يزال حتى اليوم يطرح الأسئلة ذاتها، والإشكالات ذاتها، والأحلام والأشواق، بل ربما الإجابات ذاتها!

هذه الأسئلة يوجهها إشكال مضمر قار في بينة الخطاب العربي، يؤطر تعدد خياراته ومناحيه الفكرية (ليبرالية - قومية - إسلامية - اشتراكية)، وهو إشكال يتشح بظلال فلسفية ميتافيزيكية تمس الوجود في منطقية وجوده، كيف يمكن لل(أنا) أنا الفرد والأمة، أن تحل هذا التناقض بين الوجود في المكان، واللا وجود في الزمان المطابق للمكان، حضور جسدي في المكان، وغربة روحية في الزمان، مثول وترسخ في المكان الذي وحّده التوسع الرأسمالي عالمياً (ليحل الاتصال الشامل وارتباط الأمم الشامل في كافة المجالات، محل العزلة المحلية والقومية العتيقة)، وتبدد وتلاش في الزمان، يشرخ الأنا بين ماض مفوّت ومستقبل يصنعه الآخر.

نحن إذ نسعى لتأطير هذه الإشكالية - (علاقة الليبرالية بالمسألة القومية) - لن نفاجأ بالمصادرات الإرهابية التي أشاعها الخطاب (التراثوي المحدثن) عبر (التراثويين) الجدد في الفكر العربي اليوم، حيث تواجه أية عملية لمواجهة الخاص القومي ومن ثم كيفية عمل علم قوانين هذا الخاص بالمقارنة مع العام الكوني وكيفية عمل قوانينه العالمية الطابع، هذه العملية تتم مواجهتها بأسلحة جاهزة حيث تتهم فوراً بأنها إسقاط لمشكلات الخارج الأوروبي على مشكلات الداخل القومي والوطني المحلي، وأن الأدوات المفهومية التي أنتجها العقل البشري خلال ثلاثة قرون، لا تنطبق على هذه الأمة العربية (العجيبة الخارجة على القانون العالمي). هذا من جهة أهل الأصالة والخصوصية، ومن جهة أهل العولمة الجامحة فإنهم يلتقون - ويا للغرابة - مع أهل الخصوصية في استثنائية هذه الأمة التي يسعى النظام العالمي الجديد لتصويرها بوصفها خارجة على القانون الكوني، حيث ينضدها العقل الغربي ضمن نسق همجي تحكمه سيرورات الاستبداد والقمع والعنف والإرهاب الذي لابد من عزله وتطويقه وفرض الحصار الدولي عليه بخطوط طول وعرض في السماء والأرض.

إذا استجبنا لهذا الإرهاب النظري (المترثن والمعولم) فإن بحثنا هذا سيكون غير ذي موضوع، ولا معنى له؛ لأننا لن نستطيع أن نجد في أي معجم من معاجم التراث العربي، ولا في أي نص من نصوص الأئمة والفقهاء وعلماء الكلام أي معنى لكلمة (ليبرالية)؛ فهي كلمة أعجمية. أما الإرهاب المعولم فهو ينظر إلى المسألة القومية والليبرالية بوصفهما من أنساق الفكر الحداثي الذي تم تفكيكه وتقويضه ورميه بالعراء من قبل منظورات ما بعد الحداثة...!

بل لن نجد كلمة (القومية) ولا معناها في التراث العربي الإسلامي، إلا ما يشير إلى القوم (الجماعة، القبيلة، الملأ)، فماذا نفعل بكل هذا التراث القومي الليبرالي الحداثي الذي خلفه لنا الفكر الحديث منذ عصر النهضة إلى اليوم، والذي كان يفكر بالقومية داخل معناها الاصطلاحي الغربي، بغض النظر عن درجة تمثل منظومتها المفاهيمية كلياً أو جزئياً...!؟

ولهذا فنحن في بحثنا هذا، سنسلك مسلك الحق؛ فهو الأولى في أن يسلك؛ وذلك لوضع الأمور في نصابها العلمي والتاريخي بدون عقد نرجسية وهمية ومعاضلات سجالية ركيكة؛ فنحن ليس لدينا تعريف لليبرالية والقومية، سوى التعريفات التي قدمها الفكر العالمي؛ إذ كان يجتاز تاريخياً المرحلة الليبرالية والقومية، بوصفها ثمرة تجربته وعقله، وهي تمتلئ بدلالاتها المفاهيمية، بمثابتها المعادل النظري لما تحقق وأنجز بالفعل في السياق العالمي والكوني، من خلال وعي نظري بأن الرأسمالية جبَّت ما قبلها، وأن أي شكل من أشكال علاقات الانتاج، وكل مصفوفة ذهنية أو منظومة عقلية ما دون الرأسمالية هي متأخرة، مفوّتة بالضرورة، و(فاشلة)؛ لأنه ليس هناك تشكيلة ما قبل رأسمالية قادرة على الصمود أمام الرأسمالية، هذه الواقعة المعبرة عن عجز البنى ما قبل الرأسمالية على الثبات والممانعة أمام بنية الرأسمالية تكاد ترتقي إلى مستوى أن تكون حدّاً وتعريفاً وقانوناً للرأسمالية.

القومية - الليبرالية

إن الأطروحة المركزية التي تؤطر إشكالية هذا البحث تتمثل في أن القومية هي الوجه الآخر لليبرالية؛ إذ هي نتاج ما حققته الليبرالية على مستوى الاقتصاد، وذلك بتهديم الحواجز المعيقة لانتشار رأس المال، فقوضت أسوار الإقطاع والاقتصاد الفلاحي الذي يستجيب لمتطلبات الإقطاعيين في العصور الوسطى؛ فأطلقت قوى تجارية بورجوازية حولت الأسواق المحلية إلى أسواق قومية؛ ومن ثم تحولت الأسواق القومية إلى فروع للإنتاج العالمي؛ فأصبحت شريكاً نشيطاً في إنتاج عالمي الطابع.

هذه الليبرالية التي نهضت كمنظومة تاريخية مضادة لاستبدادية وأحادية وظلامية العصور الوسطى هي التي ستطلق بورجوازية راديكالية (جابهت الوحي بالعقل، واللاهوت بالميكانيك، والآخرة بالطبيعة، والتنمية الاسكولائية بالوضوح العلمي، والقياس الأرسطي التومائي والحقوق الإلهية بالعقد الاجتماعي والامتيازات الارستقراطية بالحقوق الطبيعية، وتراتبية الحسب والنسب واللقب بالمساواة الحقوقية بين البشر، والتبعية الإقطاعية بالحرية الفردية). (1)

أي أن القومية بوصفها التظاهرة الاجتماعية الرئيسية لما أنجزته الليبرالية على مستوى الاقتصاد والثقافة والسياسة، أصبحت متلازمة تاريخياً مع الحداثة الدستورية والديموقراطية.

تأسيساً على هذا السياق التاريخي النظري نجد أن الليبرالية العربية قد قدمت إسهامات جلّى على مستوى المشروع الثقافي؛ حيث حدثت العقل العربي بـ (الدستورية المدنية)، وعلى المستوى السياسي حدثت الممارسة السياسية ب(الديموقراطية)، لكنها كانت عاجزة عن تحقيق الطموح القومي للأمة بالوحدة والسيادة القومية، وذلك لسببين:

1- الطبيعة (الكومبرادورية)؛ لتشكلها تاريخياً بوصفها قوة اقتصادية، تابعة، وسيطة؛ أي عاجزة تاريخياً عن ممارسة الهيمنة القادرة على دمج الأمة وتوحيدها وراء مشروعها النهضوي؛ إذ لم تتمتع بقوة الافتراس القادرة على ابتلاع الأنماط الاقتصادية والاجتماعية ما قبل الرأسمالية لتأخرها الداخلي البنيوي التكويني من جهة، ولأنها كانت مفترسة بالأصل من قبل المركز الأوروبي من جهة أخرى.

ولهذا تميزت عملية النهضة العربية في القرن التاسع عشر في ظل السيطرة العثمانية، بأنها عملية تحديث لا تهدف إلى التغيير بل إلى التثبيت؛ أي تثبيت الأمر الواقع للدفاع عن النفس، وذلك عبر التكور على ذات تقليدية وسطوية في مواجهة الحداثة الغربية الزاحفة؛ أي لصون المواقع المحلية في الصراع مع أوروبا.

2- أما السبب الثاني فهو التدخل الأجنبي كلما تلمس الآخر الغربي إمكانية تأسيس اقتصاد وطني مستقل متكور ومتمحور حول ذاته، أو ظهور طموح سياسي راديكالي يذهب بعيداً في القطع مع المركز الغربي الأوربي، وذلك منذ محمد علي مروراً بإسماعيل، ومن ثم عرابي، وصولاً إلى عبد الناصر، وانتهاءً بحرب الخليج الثانية ضد العراق، وذلك وفق قراءات مدرسة التبعية بلسان سمير أمين، أو بصيغة أدق - فيما نرى - بسبب عجز النخب المحلية التقليدية ما قبل الحداثة الرأسمالية عن افتراس المعوقات الكابحة الجاثمة أمام نمو التنمية الرأسمالية؛ فكان لابد من عملية افتراس خارجية حتمتها عالمية الطابع الانتشاري والتوسعي للرأسماليات الغربية التي كانت قد حطمت الحواجز الداخلية المحلية أمام نموها باتجاه السوق القومي في أوروبا؛ فقد طفقت تجتاح الحواجز المحلية للقوميات العتيقة المتكورة حول خصوصيات مفوّتة وآفلة أمام قوة اندفاع عجلة الحداثة التي أنتجها المصنع في المركز الأوروبي.

هكذا يتفاعل الداخلي مع الخارجي في سيرورة كبح الطموح القومي العربي منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم وفق ما تذهب له مدرسة التبعية، والقراءات القومية التي ترى التمامية في أنا الأمة، وكل نقصان هو ثمرة الآخر الخارجي (الاستعمار).

وإذا كانت الليبرالية العربية قد حققت إنجازات كبرى على طريق الدمج الاجتماعي الداخلي للأمة من خلال بعض ضروب (الحداثة المدنية الدستورية والديموقراطية)، فإنها عجزت عن تحقيق السيادة القومية كثمرة لتبعيتها البنيوية تكوينياً وتاريخياً، وكبحها خارجياً في الوقت المناسب، وعلى هذا فإن المشروع القومي - لاحقاً مع القوى الشعبوية الفلاحية العسكرية - سيتحول إلى هدف مركزي في المواجهة مع الخارج، لكن عبر التضحية بالإنجازات التحديثية للدولة على المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي التي تحققت في الداخل الوطني، من خلال إسقاط أو تهميش واستبعاد المنجزات الحداثية: العقلانية والحداثة المدنية الدستورية ومن ثم وأد الديموقراطية... واستبعاد (الحداثة المدنية الدستورية) بوصفها عنصراً جوهرياً في عملية الاندماج القومي للانتقال من أشكال التضامن التقليدية القديمة العمودية حيث تهيمن العصبيات ما قبل القومية (العائلة، العشيرة، الطائفة، القرية)، وحيث العلاقة تتأسس على رابطة الدم وليس على رابطة الرأي، هذه الرابطة التي لا ترتقي إلى مستوى امتلاك وعي قومي (أمَّوي) عادت بالمجتمع العربي إلى نموذج الدولة الانكشارية أو المملوكية، وفق تعبير ياسين الحافظ؛ وبذلك تحول المشروع القومي الحديث إلى مشروع (قوماوي) تقليدي عصبوي: طائفي أو قبلي أو عشائري أو عائلي.

وكذلك وأد (الديموقراطية) بوصفها بعداً أساسياً من أبعاد الحركة القومية تاريخياً؛ فقد ألغيت موضوعة الديموقراطية من قبل النخبة القومية الشعبوية الشعارية الانقلابية، تارة باسم وحدة الأمة التي لا تعترف بالصراعات الداخلية، ولا بالتعدد السياسي والحزبي البرلماني، في ظروف (المعركة) مع الإمبريالية وإسرائيل حيث سيادة الشعار (السُعار) الأمني العسكري الذي أنتجه عقل غريزي قمعي أخرس المجتمعات العربية باسم: (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، وتارة باسم اشتراكية ذات معتقدية (قومانية - لفظوية) تستند إلى موروث من الاستبداد الشرقي، أو اشتراكية امتثالية (ستالينية) مشبعة بالتراث الأوتوقراطي الروسي؛ فكانت هذه القومية، وهذه الاشتراكية تقليدية، بلاغية، شعارية، ترتد عن النويات الأولى لقيم المشروع النهضوي الليبرالي العربي الذي تعرف المجتمع العربي على تظاهراته في بداية القرن العشرين، قياساً بالمجتمع الحديث الذي كانت تطمح الليبرالية إلى بناء دولته الدستورية؛ لتشكل هذه (القومية والاشتراكية) خطوة إلى الوراء على مستوى المشروع الاجتماعي والسياسي للدولة الليبرالية العربية المؤسسة على الشرعية الدستورية التي كانت قائمة في المنتصف الأول من القرن العشرين حتى ولو كانت منقوصة السيادة في ظل السلطة الكولونيالية.

وهكذا فإن المشروع القومي الوحدوي العربي الديموقراطي المدني الحديث، لم يجهضه الاستعمار الذي كان يتابع نهوضه خطوة فخطوة منذ المنتصف الأول للقرن التاسع عشر فحسب، بل أجهضته قواه الاجتماعية ذاتها لقصور وعيها وتأخره وعجزه عن إنتاج وعي مطابق بمشكلاته القومية، وحاجات مجتمعها إلى التغيير والتقدم، وذلك من خلال التيارات الثلاثة (الليبرالية - القومية - الاشتراكية) التي يفترض أن تكون الحامل الاجتماعي التاريخي لمشروع الأمة القومي، الوحدوي، الديموقراطي الحديث، بالمعنى الذي يرى في القومية أنها (الحركة التاريخية التي ترفع سديماً بشرياً إلى كتلة متجانسة متلاحمة، مندمجة، تستحق اسم الأمة). (2) وهذه الحركة التاريخية هي التي تؤسس لقيام الدولة القومية، التي هي عقلانية ومدنية بالضرورة وديموقراطية حديثة بالتعريف، في حين أن الدولة العربية اليوم، تأسيساً على هذه المفاهيم، هي حصيلة العثار الشامل للمشروع القومي عبر تياراته الثلاثة، هي دولة لا قومية ولا مدنية ولا ديموقراطية، ولا حديثة؛ فهي دولة (ما دون الدولة)؛ إنها شكل من أشكال انبعاث (الدولة) المملوكية أو العثمانية؛ حيث تشكل خطوة إلى الوراء بالنسبة للدولة الكولونيالية. (3)

تأسيساً على هذه المقدمات النظرية سنقارب دور الليبرالية العربية من المسألة القومية.

****

1 د. صادق جلال العظم - دفاعاً عن المادية والتاريخ - دار الفكر الجديد - بيروت - لبنان - 1990 - ص 35.

2 ياسين الحافظ - الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة - الآثار الكاملة - دار الطليعة - بيروت - 1979 - ص 202 - 203.

3 المصدر السابق - راجع ص 205 - 206

majdeid@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة