Culture Magazine Monday  16/04/2007 G Issue 195
قراءات
الأثنين 28 ,ربيع الاول 1428   العدد  195
 

في مجموعة (أعذب الشعر امرأة) لإبراهيم الوافي:
الأجواء الفيروزية في صباحات الرياض ودلالات العنوان المحتملة
عبد الله بن عبد الرحمن الزيد

 

 

يمثل الشاعر الأستاذ (إبراهيم بن أحمد الوافي) واحداً من أبرز جيل أواخر الثمانينيات والتسعينيات حضوراً في الصحافة الأدبية المحلية وفي الأمسيات الأدبية، ولم يكتف - فقط- بحضوره عبر المساهمة في النشر والإدلاء بصوته الشعري.. بل تعدَّى ذلك إلى الفاعلية الثقافية والإسهام بجهده ومتابعته فتولى عن محبة ورغبة الإعداد والتحضير والتنظيم لأمسيات النادي الأدبي في الرياض وبشكل خاص نشاطات (بيت الشعر) في النادي، ويصبر في سبيل ذلك على كثير من المتاعب والمصاعب التي لا يعاني منها سواه.. ولذلك وجب على كل من هو ضمن المنتدى الأدبي بعامة والشعري بخاصة أن يشد على يده ويحييه ويقول له: (شكراً)..

وقبل فترة صدرت للشاعر (إبراهيم الوافي) مجموعته الشعرية الخامسة الموسومة ب: (أعذب الشعر امرأة) عن دار المفردات للنشر والتوزيع في الرياض..وذلك بعد أن قرأت له الساحة (رماد الحب) و (رائحة الزمن الآتي) و (سقط سهواً) ثم (وحدها تخطو على الماء)..

ومن تحصيل الحاصل الاشارة إلى وضوح معمارية القصيدة المعاصرة لدى الشاعر.. وأنه من أشد الأوفياء لعمود الشعر المطور المُجدَّد الذي ورثه شعراء ما بعد الثمانينيات والتسعينيات، ولم يقتصر الشاعر (الوافي) على تلك الفقرة بل إن الإرث الشعري الذي يبدع من خلاله ويجدد يمتد عمودياً ليشمل ما وصلت إليه قراءاته وثقافته الشعرية والأدبية وأفقياً ليوظف أجمل التجارب الشعرية في مختلف منابت الشعرية المعاصرة في الوطن العربي.

هذا الشاعر العذب الجميل مسكون بكثير من القيم الشعرية التي خلقت لديه تكويناً لا يماثله تكوين آخر ومن ثم خلق لها هو في ذاته هطولاً شعرياً يختص به وحده ومن أكثر القيم المتوالدة لديه (عالم مدينة الرياض) التي عاش فيها عهداً وميلاداً إبداعياً لا يعي جمالياته سواه، وهو إذ يعبر عن كيميائية وجوده في هذا العالم لم يشر إلى أنه ملزم بأن يقدمه على أنه عالم مثالي طوبوائي أو أنه حلقات من اليوتوبيا التي لا حدود لها.. صحيح أنه عاش فيه تجارب من أجمل تجاربه في الحضور الشعري والنشر وبخاصة عبر جريدة الرياض، غير أنه يقدم ذلك العالم بواقعيته..

يقول الشاعر من قصيدة: (صباح آخر لا يشبهك):

(... بيني وبين الخروج من الباب ظِلّي..

وبيني وبين الدخول إلى الحب كُلّي..

ميعاد نشوتها..

صمتها بعد شهقها..

والرصيف الكبير..

نهارك آمن

بكاء الصغير

صباح الرياض

ثقافة يوم الخميس

مقالة تركي السديري

مواعيد نشر النصوص لدي

يدي في يدي

كفوضى غريب فقير

نهارك داكن

غبار المدينة فوق عراء الشجر...)

(شتاء الرياض كطاولة مستديرة

كدمية طفل يتيم..

كسيدة بثياب فقيرة

كقلب عقيم

شتاء الرياض طويل.. ثقيل كقافية جاهلية..

شتاء الرياض.. تفصد كالحزن فوق جبيني..

تخثر في طرقات النهار..

وفي عثرات الظلال

شتاء الرياض جياع صغار وسدرة مقبرة ذابلهْ).

الشاعر هنا يرسم عالماً متوازناً بين حميميات ذاته الشاعرة المثقفة، وبين ذلك الطابع الذي من غير الممكن أن تجامله التجارب والقصائد..

وبأي حال ليست تلك هي الفقرة ذات الحضور الطاغي في المجموعة.. هناك كثير من الحالات والتحولات.. غير أن أكثر حالات الشاعر توهجاً في هذه المجموعة هي تماهيه اللافت مع الفن الفيروزي وتكوينه جنة وجدانية من تفانيه وفنائه الشعري مع أغنيات فيروز، وتبلغ ذروة هذا التماهي عندما يعنون إحدى قصائده بعنوان إحدى أغنيات فيروز وهو (أنا عندي حنين) التي يقول فيها:

(أنا عندي حنين..

يا الله...!!

في هذا الليل المبحوح..

لا أعرف إلا قلباً ككرة بالونية خفيفة..

فقدها الأطفال ذات رياح شرقية..

فعلقت بشجرة سائكهْ..

لن أطيل عليك الحنين

قلت للشعراء العظام بأن الحقيقة أنثى

وأن دم الرمل في ذمة الراحلين

قال: من أين تأتي..

فقلتُ تجيء على غيمة نائمهْ..

قلتُ سوف تجيء لنا حالمهْ.)

وتبلغ المسألة الفيروزية لدى الشاعر ذروتها الأعلى عندما يعنون قصيدة طويلة بعنوان (فيروزيات)، فيدلف إلى عالم قصيدته الفيروزية فينوع على جملة من أكثر أغانيها حضوراً في الذائقة العربية فيبدأ بأغنية (ورقه الأصفر شهر أيلول) التي يقول منها:

(... أحتاج عينيك كثيراً

إن هما إلا قشتا شعر:

الأولى، قصمت ظهر المصير

والثانية: أنقذتني غرقاً..

الخريف المقبل بورقٍ أصفر

كل يغضى إليك ولس لي إلا قلب واحد

وذاكرة بعكاز مكسور..)

ويعزف الشاعر على أوتار ومقاطع أغنية (سألوني الناس عنك يا حبيبي)..

يقول:

(القصيدة التي لا تحمل الحمام والرسائل

لن يقرأها المتعبون في أريكة الانتظار

هكذا كنت أكتب إليك..

القصيدة تنمو في أضلاعي وحدي

ولكنني لا أسمعها إلا بضحتك..

لهذا لا أكتب القصيدة الآن...)

كذلك يستحضر الشاعر أغنية (الليل مش للنوم...) ويستريح بهذا الشكل:

(يغفو القمر على سرير غيمهْ..

بينما اتسرح لاريح شعر الضوء

أيتها النجمة:

ارقصي.. هذا عرس الليل..

عودك رنان..

سمعني عودك..)

ويكمل الشاعر قصيدته في حضرة أغنية (من عز النوم) وأغنية (وَيْنَنْ) ثم أغنية (أعطني الناي وغَن)..

والشاعر (إبراهيم الوافي) يسجل بذلك حضوراً صارخاً في سياق تمازج الغني والشعري حيث يتحد المقومان الكبيران (الكلمة) و (النغم)، الشعر والموسيقى، الإيقاع واللحن في مرحلة من مراحل امتزاج الفنان الشعر والشاعر الفنان في عمره الذهبي الذي لا يعيشه سواه..

وفي عالم الأدب والثقافة والشعر دائماً وأبداً ما تحضر (فيروز) بشخصيتها وفنها السامي الراقي المتنامي باتجاه نخبوية اللحظات الإنسانية الاستثنائية والشاعر الوافي ليس بدعاً من بين شعراء الحداثة والتجلي الإبداعي عندما يسجل هذا الحضور الفيروزي الطاغي بين ثنايا شعريته المرهفة جداً، ولكن في الوقت ذاته يسجل تفرداً في هذا التنويع على الأغاني واستحضارها بشكل لم يسبق له مثيل..

ولا أبتعد عن واقعيته السحرية كثيراً عندما أشير هنا إلى أن الشاعر قد أضفى على فيروزياته وعلى المجموعة كلاً جواً فاتناً من حميمية التلقي فليس من الممكن أن تتسلل هذه القصائد إلى ذات المتلقي دون تلك الأمداء الجارفة التي ستأخذه إلى سطوة لذيذة لفتنة اللحن والأغنية دون شك..

ولعل الشاعر بذلك قد منح المتلقي زمناً موازياً لزمن التلقي زمناً مترعاً بالسمو والجمال والألق يجعل من متعة القراءة والتفاعل وهجاً فريداً كم هو في حاجة شديدة إليه..

نخرج الآن من فتنة التماهي بالغني والغناي، لنلاحظ أن (الرياض) المدينة تخلد في ضمير الشاعر إلى يقظة عارمة فيكتب قصيدة صارخة العنوان هي قصيدة (صباح الرياض).. يقول فيها:

(... من هنا..

كنت أمضي صباحاً إلى الجامعة..

قبل عشر سنين مضت

حين كنا معاً

لم تكن إمعهْ..

افترقنا هنا..

يا صغيري الطويل..

وكل قضى شأنه

يومها قلت يا صاحبي

(صاحب.. لا يسير أمامك..

إن ظلي خلفك لن تتبعهْ..)

(... توحش قلبي..

تشعبتُ كالريح فوق الرّصيف نسيجاً..

ورتلت أعذار سيدة مذنبهْ..)

(لا تحدقي بي هكذا..

أنت بين اللهفة واللهفة والغياب مدينة شحيحهْ..

في صباحات فيروزية النكهة

الرد في الباب..

وصباحات الرياض مزدحمة الضوء

كزمن لا يحسن توثيق ساكينه....)

فهذه هي الرياض وتلك صباحاتها المغموسة بالزحام والضوء الضجيج، غير أن الشاعر يمزج تلك الصباحات بالنكهة الفيروزية لكي يمنح ذاته شرعية الامتزاج والتماهي بهكذا مدينة وبهكذا صباحات لا تشبهها صباحات أخرى في أزمنة وأمكنة أخرى..

إن هذه الجدلية التي لا مفر منها بين ذات الشاعر التي تتوق في تجربتها وفي إفصاحها إلى الخلاص والانعتاق المثالي وبين مكان مضرج بالحرارة في أقسى سطوتها وبالبرودة في أعنف حصارها إنها هي ما يشكل الكون التعبيري الشعري لدى الشاعر، ولذلك قال في البدء:

(في زحام الشوارع المشمسهْ:

أيُّنا لا يدهسُ ظلَّ صاحبهْ؟)

ويقول في نهاية القصيدة:

(مساق القُرَى نزوتان:

ضباب الخريف..

وبرد الثرى..

تأبط سراً

قضتْ عينُه نحبتها

حين جاعت أنامله للكتابة

كان يقول الكثير:

تموت كما مات أجدادك الأولونْ)

من الظواهر الفنية في مجموعة (أعذب الشعر امرأة) تنويع الشاعر بين فقرات قصائده بمقطوعات نثرية جاءت ضمن معمارية القصائد وشكلت جزءاً لا ينفصل عن النص، وهذه مزاوجة تعبيرية لا يستطيع المتلقي أن يصادر حرية الشاعر في استخدامها ما دام أن هذا الشكل في الإفصاح الشعري يرضي ذائقة الشاعر ويعبر عن رؤيته الفنية..نجد تلك المسألة في قصيدة (صباح آخر لا يشبهك) و (مخاتلة) و (أنا عندي حنين) و (في مهب الغياب) و (صباحات غامضة) و (فاصلة ونصف انتظار) و (صباح الرياض) و (الحضور امرأة) و (عائد من النهر)..

واستخدام المقاطع النثرية البحتة في هذه المجموعة أعطى القصائد نفساً درامياً، وشكل (سيناريو) داخل القصيدة، كما يوحي بأن هناك لحظات ومعاني وإضافات لم تف بها الإشارات الشعرية العابرة..

بقي أن نشير إلى شيء من السيمياء والدلالة في عنوان المجموعة، وأول ما يتبادر في هذا الشأن هو مجيء هذا العنوان بمزيج عجيب من الوصفية الخالصة ومن الشعرية البحتة.. فحضور المرأة في المجموعة طاغٍ ولا مجال لتجاوزه..

فهل يعني ذلك أن الشاعر يصف مجموعته بكامل العذوبة؟! هذا تساؤل

- لا شك - يرد في ساحة الأخذ والعطاء..

التساؤل الآخر يقول: (نعرف ونحفظ أن في موروثنا الأدبي عبارة شهيرة جداً تقول (أعذب الشعر أكذبه).. ولا مناص هنا من استحضار المعادلة التي من خلالها قام الشاعر بوضع (المرأة) بدلاً من (الكذب) فماذا يعني ذلك؟.. هل (المرأة) معادل موضوعي للكذب؟ أو أن الشعر لا يعذب ولا يحلو إلا إذا تجسد في شخص امرأة كما قرر الأولون أن عذوبة الشعر توجد بشكل مذهل في أكذبه؟)

الإجابة في بطن الشاعر كما يقولون..

وفي مجمل القول أن الشاعر (إبراهيم الوافي) قدم للساحة الشعرية مجموعات شعرية مميزة ذات شخصية واضحة القسمات، والسمات وفي مقدمتها - لا ريب - مجموعة (أعذب الشعر امرأة).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة