الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 17th May,2004 العدد : 59

الأثنين 28 ,ربيع الاول 1425

شجن السؤال
لذّة السَّرْد
عبدالله بن عبدالعزيز الصالح

أكاد أجزم أن أي بداية أولى في التعالق مع الكلمة والحرف قراءة واطلاعاً في مرحلة التكوين الثقافي والمعرفي تلك المرحلة الغضة الطرية لا بد أن يستهويها بشغف لذيذ الخطاب السردي، ولاسيما المنجز الروائي، وأعني بها الرواية المترجمة إلى العربية تحديداً، تلك الرواية التي كنا نتطلع إليها بشوق ولهفة أمعنا فيها الركض وراء روايات: فيكتور هيجو، أرنست همنجواي، تشارلز ديكنز، تولستوي، ديستيوفسكي، إميلي برونتي، طاغور.. إلخ.
الذي شدنا إلى التواصل الحميمي مع ذاك المنجز السردي ليس نصاعة الترجمة، وإنما ما ينطوي عليه من بعد إنساني في مضمونه، وتفصيلات البناء السردي، ولاسيما (المكان) حيث الحضور الدال المتوهج للمدن والقرى والأزقة والأقبية والحانات، والغرف الضيقة والأبهاء الرحبة، والشواطئ والمرتفعات والحقول وأكواخ الفلاحين.. إلخ.
إن احتفاءنا ب(المكان) في الخطاب السردي يأتي من كونه يشغل مساحة أثيرة في الرواية، فهو المسرح الذي تتوالد فيه الأحداث وتتنامى، وتتمرأى على أرضيته الشخصيات في مشهدية تسعى إلى وصل خيوط العلاقة مع القارئ.
ما أروعه من إيقاعٍ نوستالجي! نوغل معه في لذة التماهي مع حشد هائل من الحيوات التي كانت تتمظهر في مخيلتنا الغضة الصغيرة في فضاوات السرد.
وبانغراس (المكان) في وجداننا صرنا نرى إلى أن التعبير الإبداعي عن إيقاعات (المكان) وخصوصيته يجب ألا يتم عن طريق النسخ المشوه لعناصر (المكان) الطافية على السطح، أو بمجرد تعدادها بشكل اعتباطي أو استحضارها بشكل تبسيطي لا ينطوي على أي دلالة فنية نائياً عن آليات التخييل والبناء والتحويل.. بل يتم عبر التقنيات الضالعة في الإبداع المطلة من شرفات الإبداع على بقاع الذات، ومن بقاع الذات إلى شرفات الإبداع.
وبتحريض من تلك اللذة السردية، كان السعي الجاد من أجل الحصول على الروايات المترجمة هاجسنا، فصرنا نتردد كثيراً بحثاً عنها في مكتبات البطحاء، وشارع العطايف ودار العلوم في عقارية الستين، ولا أنسى المكتبة العباسية في شارع عسير.. إلخ، كما كنا نلاحقها في حراج ابن قاسم كثيراً.
القراءات الأولى، تلك التي ركزت على الروايات المترجمة غرست في خلايا تكويننا الثقافي قناعات تنهض على الإحساس العميق بأن (الرواية) بضاعة غربية وافدة وهي حقاً كذلك وأن المناخات العربية غير مهيأة لتقبل تجلياتها، لأن الرواية فضاء متعدد الأبعاد يتماهى فيها الأخلاقي بالفانتازي ويتداخل الاجتماعي مع الأيديولوجي،وينفتل الثقافي بالسياسي.. إلخ، ومَنْ الذي بوسعه من كتابنا أن يكشف المستور في مجتمعاتنا العربية وبيئاتنا المتشابهة في الكبت والحظر؟ ومن ذا الذي بوسعه أن يجادل الراهن العربي، وما قبله بكل ما ينطوي عليه من تعقيد وقمع وسلطوية؟
هذه النظرة الشوفينية من قبلنا نحو (الرواية العربية) التي لم نكن نتماس معها بأي شكل من الأشكال استحوذت علينا حتى، وإن لم نكن نقرؤها، أو نتابعها في تلك المرحلة الغضة المبكرة في تكوينها الثقافي وصرنا نراها مجرد حكايات حب ساذجة لا تروي عطشنا إلى البحث والمغامرة والاكتشاف والارتحال.
ومن هنا كانت الرواية العربية في تصورنا القائم على الظن فقط، حيث لم نطلع عليها مجرد مشروع وليد يغالب أقماط الولادة! فأي إغراء يمكن أن يجذبنا نحو هذا الوليد الطازج الهش والأعمال السينمائية والدراما التلفزيونية المأخوذة عن الروايات العربية تكتظ بالهشاشة، ويندى لها جبين الطرح الإبداعي الجاد لما فيه من عقم بارد في المعالجة الدرامية.. إلخ.
ثمة موانع كثيرة صرفتنا عن قراءة الرواية العربية ليس أولها عدم جاذبية مؤلفينا العرب، مقارنة بالكارزما المهيمنة على عقولنا الغضة في تلك المرحلة بالأسماء الأجنبية الرنانة، وما توحي به معرفتها من تميز ثقافي بين الأصدقاء..
وليس آخر الحواجز والصوارف هو إحساسنا العميق برفض (المكان، عن احتضان (الحدث السردي) بكل تعالياته وتضامناته، و(الشخوص) بكل سطوعها النقي والمشوه، و(الزمن) بإيقاعاته المتداخلة!!!
أيضاً فإن المنهج التربوي لمادة الأدب في مدارسنا في المرحلتين المتوسطة والثانوية لا يلكز ذائقتنا إلا نحو الانصراف عن الأدب الرسمي المدرسي إلى الأدب المضاد، وهذه إشكالية تربوية، فانتفاء النصوص المقررة لا ندري على أي اعتبار يتم انتقاؤها واختيارها، فهي لا تنطوي على أي تحريض على السعي نحو الجمالي في الفن الأدبي، وإنما القصد الأكبر لمنتقيها هو التركيز على ما تحمله من مضمون أخلاقي، حيث التهذيب السلوكي الوعظي المباشر في الطالب هو المبتغى والمطلب، ومن هنا كان الاحتفاء من قبل المربين بكل ما يرقى بالطالب، ويزكي سلوكه مع إغفال أرعن لتربية الذائقة الجمالية التي توقد موهبة الإبداع، وتذكي شعلة البحث عن الجديد المضيف!
رسوخ الاعتقاد بهشاشة المنجز الروائي العربي وضعفه ظل متمكناً من بعضنا حتى نهاية المرحلة الثانوية، فحاول بعضنا إنصاف الرواية العربية بالاقتراب منها، ومحاولة الاطلاع على بعضها، فقرأنا روايات ليتنا لم نقرأها، فقد وقعت أيدينا على روايات تقليدية هشة ذات طابع حكواتي في أشد حالاته ضموراً.
وفي سعي جاد عن الأعمال الطلائية المهمة وفقنا إلى الاطلاع على روايات مهمة أعادت إلينا الثقة في منجزنا الروائي، فاحتفلنا وابتهجنا واغتبطنا بإنجازات نجيب محفوظ قبل أن يفوز بنوبل، وتصبح له كارزما شديدة الجذب وموسم الهجرة إلى الشمال، وعرس الزين، والأشجار واغتيال مرزوق، ومدن الملح، واللاز، وعرس بغل، ونزيف الحجر.. إلخ، وهكذا صارت أسماء مهمة مثل: نجيب محفوظ غير المرغوب فيه حداثياً رغم إبداعه الرائع الطيب صالح، عبدالرحمن منيف، الطاهر وطَّار، إبراهيم الكوني.. إلخ، ودخل في سلسلتهم لاحقاً د. غازي القصيبي، ليلى الجهني، نورة الغامدي، عبده خال، تركي الحمد.. إلخ أقول صارت هذه الأسماء المحلية والعربية كصنع الله إبراهيم وميرال الطحاوي ومي التلمساني تمثيلاً لا حصراً شديدة الجذب لاهتماماتنا، فأخذنا نتابع طرحها، ونبحث عن الجديد فيه في مكتبات المنامة والقاهرة ودمشق وبيروت وأحياناً كثيرة لندن!!
أسئلة كثيرة يمكن طرحها في سياق أرقناه من بوح لعل من أهمها كيف حدثت النقلة من الاهتمام بالإنجاز الروائي المترجم وقد اكتشفنا لاحقاً أن معظم ما كنا نقرؤه مترجماً كان من حيث الترجمة أسوأ من السيئ إلى الاحتفال البهي بالرواية العربية؟!
إن صفحات كثيرة لا يمكنها استيعاب الإجابة عن هذا السؤال، ولكن يكفي أن نومئ إلى أن الاحتفاء بأي إبداع على مستوى السرد أو الشعر لا يمكن أن يحدث من قبل القارىء إلا إذا كان العمل الإبداعي يستحق هذا الاحتفاء لما ينطوي عليه من معاشرة صادقة لعذابات الإنسان ووجعه، ولما يحمله من قيم جمالية استطاع المبدع توظيفها لترويج عمله الإبداعي دون انتظار لزفة النقاد أو لتطبيل الصحافة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved