Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
الملف
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 
السلوك.. من الوظيفة إلى الثقافة
علي الشدوي

 

 

وأنا أكتب عن الأستاذ علي بن صالح السلوك، احتفاءً وتقديراً برجل قدم نموذجاً يحتذى للإنسان الذي يخرج من الوظيفة إلى الثقافة، على أن بدأ من مكان ما، لكي أعرف بمشروعه التاريخي والثقافي والاجتماعي. وعلى امتداد أكثر من ألف سنة تقريبا لا نتوفر في الغالب إلا على معلومات نادرة عما دار في منطقة الباحة اجتماعياً وثقافياً؛ فقلما لفتت هذه القرون الطوال انتباه أحد، وإذا كان الخيال (في حالة استعصاء مسألة على الحل على الرغم من الجهود المبذولة لحلها) أكثر أهمية من المعرفة، فلا بد من أن أحداثاً تاريخية جرت في منطقة الباحة، وأن شعراء ومتدينين وظرفاء ورواة وإخباريين ولدوا وعاشوا وماتوا، لكنهم تحركوا على حافة التاريخ.

هناك في أعالي جبال السراة، تحركوا في اتجاه أي شيء من أجل أن يعيشوا.

لم يسجل أحد سيرهم؛ لأن التاريخ هو تاريخ الإنسان، وغالبا ما ينسى صراع الإنسان من أجل أن يعيش. وقبل عقود، وبعد أن انضمت إلى الدولة السعودية، هب بعض المهتمين بتاريخ منطقة الباحة فتشوا عن جذورها في العصور القديمة.

وأقاموا هذا (المشروع التاريخي) وأفضل وسيلة إعلان عن هذا الحنين هو أنهم تتبعوا أخبار قبيلتي غامد وزهران في العصر الجاهلي ثم الإسلامي وانتشارهما خارج حدود أمكنتهما، وفي تراجم شعرائهما وقوادهما ومتدينيها القدماء.

بقي هذا التفتيش ذا صلة وثيقة بالموجة الأولى التي قدمت مع الطفيل بن عمرو الدوسي إلى المدينة المنورة، واستبقاء لهذه الصلة وحفاظاً عليها، انتقوا من المصادر التاريخية والإخبارية الأخبار الجديرة بالبقاء.

حتى الحكايات التاريخية التي اختاروها بقيت مشربة بروح الدين، ففي ذلك الوسط التاريخي البعيد، في العصور النبوية والراشدية والأموية، وقعت مجموعة من الأحداث وبقيت معاصرة إلى الآن، وأبرز ما يلفت الانتباه أن مؤلفي هذه الكتب التاريخية وعلى تعددهم رزحوا تحت تأثير إيحاء واحد يؤكد على أن ماضي منطقة الباحة يلزم أن يبقى متصلاً بفتوح البلدان التي شارك فيها أبناء قبيلتي غامد وزهران.

في ضوء هذه الخلفية، كانت منطقة الباحة في حاجة إلى باحث من نوع مختلف، وقد كان ذلك الأستاذ علي بن صالح السلوك، الباحث المتعدد الاهتمامات، الذي تمتلئ رأسه بالمشروعات الثقافية، ولديه شهية حادة للإحساس بحياة الناس الثقافية، طقوسهم وفنهم، صورهم البلاغية ومعانيهم وبديعهم وحياتهم، ويملك حباً في الاستقصاء يدفعه إلى الجلوس معهم، والاستماع إلى حكاياتهم وقصائدهم التي سجلت حبهم وأحداثهم ووقائعهم، ودونت كوارثهم وأزماتهم الاقتصادية. فيما هو يفعل ذلك، وضع وراء ظهره التدوين التاريخي للمنطقة بمفهومه التقليدي، من حيث هو استعادة لما دون عن رجالات المنطقة في كتب التاريخ الإسلامي، وسلط الضوء على المجهول والمعتم، ونقب في الوثائق ونفض الغبار عنها، وأخرج معظمها من مكتبات خاصة لبعض الأسر، وكرس قيم التنقيب والجلوس إلى الناس (كبار السن) وتسجيل ما يحفظون، وموازنته مع ما يحفظه أناس آخرون.

كان الأستاذ علي بن صالح السلوك وعلى مدى سنين عديدة، يفعل ذلك بروح الباحث المحب للناس ولحياتهم ولنشاطاتهم الاجتماعية والثقافية، يفعل ذلك كما لو كان يقول لنا: إذا كان ثمة حب فعلينا أن نبحث ونجمع وندون بحب، وإذا كان ثمة سعادة فعلينا أن نجعلها تتدفق، ومن يقرأ مدونته البديعة عن موروثات غامد وزهران، سيجد السعادة والحب التي يمنحها الله إلى الباحث السعيد والمحب، الذي وهب أغلب حياته ليجمع قصائد تحب الحياة في مختلف مجالاتها.

إن قراءة الجزء الخاص من مدونته المخصص لقصائد (الجبل واللبيني) تشعر القارئ بروح الباحث عن الرؤية السعيدة للحياة، رؤية ذلك الزمن الذي كانت فيه القرى حديثة، إلى حد أن كثيراً من ممارساتها وأشيائها كانت بلا أسماء، وتتحقق هذه الروح الفريدة للحب من قبل الباحث بعد انهيار الحياة ووصولها إلى العمى.

لا يمكن لمن لم يقرأ مدونته (الموروثات الشعبية لغامد وزهران) أن يشعر بمتعتها، وحينما أعود بين حين وآخر إليها لا سيما في هذا الجزء، أعود إليه لكي أغني، محملاً بهذا المقطع الشعري البديع الذي لم أعد أتذكر قائله:

أيغني الإنسان في الأيام القاتمة الصعبة؟

أيضاً في الأيام القاتمة الصعبة يغني الناس

.... يغنون عن الأيام القاتمة الصعبة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة