Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
فضاءات
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

سقوط الأقنعة في (جاهلية) ليلى الجهني «4»
د. لمياء باعشن

 

 

ويقابل النصوص المُصَمّتة في الرواية نصوص مُسْتنطقة تخرج من أعماق ذاكرة عربية جماعية لتطفو على سطح الفضاء السردي كدليل صارخ يدين العقلية العربية التي ما زالت تتمسك بأحكام الملة الجاهلية التي عاودت الظهور في عهود الإسلام الأولى.

يقتبس النص قصصاً من مصادر تراثية تفضح تعلق الثقافة العربية بالتمييز العنصري والعصبية القبلية ومدى الغلبة التي تمتعت بها تلك الممارسات الممقوتة حتى أصبحت محركاً خفياً للإستعلاء العربي على القوميات والأجناس المنضوية تحت راية الإسلام، وخاصة السود منهم. تكمن هذه النصوص في طبقات الضمير الجمعي الذي ينظر للأسود نظرة دونية نابعة من استعباده له في أزمان سابقة، ويتعامل معه على أنه دخيل على هوية نقية ويقاوم اختراقه لها، لذا حين أحبت لين مالك أدركت أنها ثقبت سياجهم الشفاف الذي نصبوه منذ دهور طويلة مضت بين الألوان والأجناس والأعراق لكي لا تختلط، فيحل الفساد في البر والبحر(104).

الإيمان الراسخ بعبودية السود فعلاً لا يمحوه الاستنكار القولي، فقد ظلت القناعات الخاصة المضمرة فاعلة في تكريس العنجهية والفئوية وتعزيز التقوقع خلف ستار الهويات الضيقة. ويظهر هذا التناقض في التجاهل التام للعناوين العريضة للمساواة التي فرضتها تعاليم الدين الإسلامي بتحريرها العبيد، فالثقافة التي تنظر إلى (بلال بين رباح بإجلال) هي نفسها التي تمتهن (لونه وأصله معظم الوقت) حتى إن مالك ظن لفترة أنه يقرأ أساطير مكذوبة لفرط ما تبدو منفصمة عما يحياه كل يوم في يم العنصرية القذرة التي تسبح فيها الحيوات من حوله (152).

عاش هؤلاء الناس في كنف الإسلام كل هذه القرون دون أن يتمثلوا تعاليمه السمحة، بل قيدوا أنفسهم بأفكار وممارسات من صميم الجاهلية، أفكار تسربت أصداؤها في (هذيان غوغول) قبل نهاية الرواية. تتداخل الأزمنة في هذا الهذيان الذي يسمح للشخوص بالتنقل من حقبة إلى أخرى، فيطل عينا عنترة بن شداد منشداً: ولقد ذكرتك...، ثم يقتحم المشهد المتأرجح زمنياً فارس تغلبي يقطر سيفه دماً ويرتفع قصيده متفاخراً بمقتل ملك الحيرة عمرو بن هند:

إلا لاَ يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا

فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَا (180)

تغوص ليلى في التراث وتستخرج من صميم الثقافة الجاهلية الجاهلة مزايدة عمرو بن كلثوم العنصرية كمؤشر على أن الجهل قد بلغ مداه في مجتمع (يرضعنا تصنيفاته منذ نولد (108) ويقنعنا بجبروت التفاخر بالنسب، فننساق وراء تعنّّت التقاليد المجافية لمنطلقات الإسلام الفكرية وكأننا ما تجاوزنا ذلك العصر الدموي متناسين ما يقودنا إليه هذا التنافر من انقسامات شرسة كانت سبباً رئيساً في

(سلسلة الاجهاضات) (8) التي دمرت نهضتنا القصيرة. ترسل أمريكا وفداً وراء وفد بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل في الأراضي العربية، لتعود خالية الوفاض وتعلن خلو الأرض من أي أثر نووي، لكنها تعلم جيداً أننا نمتلك تلك الأسلحة فعلاً وأننا نخفيها في مكان لا تصل إليه أجهزة كشفهم.

نحمل أسلحة الدمار الشامل داخل عقولنا، هو جهلنا الذي سوف نستمر في نشره حتى نتأكد من أننا دمرنا بعضنا البعض فرقاً وفصائلاً. أما الأسلحة المحظورة (121) علينا والتي يجب إلا نمتلكها فهي العلم والذكاء والوعي. التدخل الأمريكي في العراق، على همجيته، ليس مظهراً من مظاهر الحروب الجاهلية القديمة، فالعدو ليس جاهلاً، بل شديد الذكاء، أدرك أننا لا نجيد سوى لعبة التنميط، فوزع الأوراق علينا. يبدأ اللعب على حبال العصبيات فننغمس في أدوارنا وننهمك في تنميطاتنا، وما دام الهندي رفيق والتكروني كور والبدوي صربي والحجازي طرش بحر والبنغالي مقطع والمصري نصاب (108). فما الذي يمنع أن يكون العربي إرهابياً؟

تملأ طائرات العدو أجواءنا بينما نحن غائبون عن الوعي وعقولنا مشغولة بالتصنيف وليس لدينا أدنى استعداد للنظر إلى السماء حتى وإن تهاوت فوق رؤوسنا. وهذه دلالة عنوان الفصل الأول في الرواية (سماء تهوي). هذا المكان العلوي الذي تشغله الطائرات الأمريكية لا يمثل فقط فوقية التقدم التكنولوجي الذي يمكن العدو من الهيمنة على الفضاء، فالآلية العسكرية والمعدات والشاحنات، إضافة إلى ما تستخدمه الشخصيات في حياتها اليومية على الأرض من سيارات وراديوهات وتلفزيونات وجوالات وأجهزة كمبيوتر، هي في مجملها مظاهر التقدم العلمي للغرب. في مقاطع موجزة تشبه شريط الخبر العاجل في وسائل الإعلام الفضائية تعلن أمريكا أن لديها الجاهزية الكاملة (133) عدة وعتاداً، كما أن قوتها وغلبتها تتضح في وضعها خططاً واستراتيجيات وتنظيمات وتحالفات وثيقة (15). تشغل أمريكا المكان العلوي كعلامة زمنية أيضاً، فهذا الموضع فوق زماني مقارنة بالزمن الأرضي للنص: السماء وما فيها من آلية عصرية تحمل سمات القرن الواحد والعشرين وتدفع الزمن الأرضي بحدة إلى ما تحت الزماني، إلى عصور الجاهلية.

يبقى المكان التحتي محايداً في التقدير الزمني، فالأحداث تدور في المدينة التي تظهر مفرغة هي أيضا من أجمل القيم الإنسانية التي جاء بها الحبيب رسول الله، ومدينته المنورة ليست هي مدينة الرواية الزاخرة بالعصبية والتي عجزت عن تجاوز مرحليتها الزمنية وارتدت على أعقابها لتبقى رهينة سياق تاريخي يسحق القيمة الإنسانية بدعوى النقاء العرقي. يسيطر على المدينة نسق عروبي مليء بالتعنصر لم تقمعه نصوص الأنسنة القرآنية والنبوية ولم يتم ترويضه بل بقى كامناً في الوجدان العربي لتطفو تجلياته في هذا النكوص إلى عصور ما قبل الإسلام. وما يستدعي المزيد من القلق أن هذه ليست معضلة أجيال قديمة، بل جيل معاصر يتشرب بكثافة أدبيات هذه الثقافة الهمجية ويعيد تفعيل النمطية التشويهية المترسبة في المتخيل العربي التي لا تليق بمكان مقدس وحضري كهذا أرسيت فيه قواعد الإخاء والمساواة الإسلامية.

في المكان التحتي يقابل جاهزية أمريكا العسكرية جاهزية إطلاق الأحكام على الناس جزافاً، ويقابل تحالف أمريكا وبريطانيا تلك الشقيقة التي تأتي نوبتها فجأة بآلام في نصف رأس لين (54). مثلما وُضعت العراق تحت المراقبة، كان مالك تحت مراقبة هاشم وأيمن. ومثلما ينطلق مفتشي الأمم المتحدة في العراق بحثاً عن الطاقة الذرية يضع هاشم غرفة لين تحت التفتيش باحثاً عن دليل واحد يبرر لأبيه ثورته عليها (18). وكما لجأت أمريكا إلى الخداع لتغزو العراق فإن هاشم كان جباناً لا يستطيع مواجهة أخته، لذا فهو سيبحث عن أكثر الطرق التواء لكي يؤذيها (يؤدبها) (54). وكما وجهت أمريكا موجات من الضربات الجوية في غارات مدمرة عدة (137)، فقد ضُرب مالك بقسوة، وفتت الألم روحه. الألم والمهانة والإحساس المر بالخديعة. (13).

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة