Culture Magazine Monday  07/01/2008 G Issue 228
فضاءات
الأثنين 29 ,ذو الحجة 1428   العدد  228
 

الشعر العامي موهبة ودلالة(2)
د. عبدالرحمن الفريح*

 

 

استقر الشعر العامي على لهجة نجد لغةً وأسلوباً في القرن الحادي عشر.. وكان الشعر ذا القافية الواحدة هو الأغلب في الشعر العامي القديم ثم غلب على الشعر العامي فيما بعد النظم على قافيتين ولا سيما للغناء وبقي الشعر ذو القافية الواحدة مستعملاً حتى الآن ويُسمَّى بالشعر الديواني. وليس الشعر العامي ذو القافية الواحدة ظاهرة تمثل الشعر الأمي القديم لمجرد كونه على قافية واحدة بل يضاف إلى ذلك غلبة النطق الفصيح وكون معظم العامية لأجل الإعراب والصرف والأدب العامي يحيط بكل مجال هام من مجالات الحياة ويلج كل جانب ويواكبه حتى لنراه قد استجاب لمتطلبات ما يحقق إحاطته وقوة تأثيره، فإلى جانب أنه فن رفيع يعبر عن خلجات النفوس ويشف عن حركات العواطف ويستجيب لدواعي الميول فهو كذلك بتقسيماته المثلى يعطي لكل جانب حقه ويشبع متطلباته لقد أعطى في الحماسة والغيرة وقوة التأثير وجمال التعبير وصدق اللهجة ما خلده وأبقاه على مدى الدهر وأعطى في الحكمة والمثل ما أصبح به لكنة الحكماء ومضرب الأمثال وحسن المقال كما هو شأنه في الغزل والنسيب.. وأعطى الوصف في المتحرك والساكن وضروب الحياة ووصف الآثار الإنسانية ودقة التصوير وسمو التعبير وعمق التفكير ما أشبع هذا الجانب وأعطاه حقه وفي كل ضروب الشعر وأغراضه ومناحيه أبدى وأعاد وجاء بما أغنى.

وكما أن هذا واقعه فيما أعطاه رصيفه الفصيح فكذلك هو واقعه في ضروب الحياة التي واكبها وعايشها لكل ضرب منها ما يتفق وواقعه وحقيقته.

إنَّ تسجيل النماذج المشهورة من الشعر العامي لتدل أيضاً على خطوات التطور اللغوي ورصد نمو اللهجات وهذا مفيد للغويين والباحثين المهتمين بعلم اللغة كفائدته التاريخية، والبحث في اللهجات يُعد من مباحث علم اللغة العام وتعود بداياته إلى القرن التاسع عشر الميلادي على يدي (فرانز بوب) فقد نشر هذا اللغوي عام 1816م كتابه عن التعريف باللغة السنسكريتية حيث قارن بين هذه اللغة واللغات الألمانية واليونانية واللاتينية، ويعد فالين من الرواد الأوائل الذين درسوا لهجات الجزيرة العربية وذلك في عام 1848م ثم تلاه المستشرق (كارلو لاندبرج) فأصدر بين عام 1901م - 1913م كتاباً ضخماً عن لهجتي (حضرموت) و(دثينة).

في الدرس اللغوي العربي الحديث نجد أن الدراسات اللهجية تعود إلى بداية الأربعينات على يد اللسانيين الوصفيين وخاصة جيل الرواد الذين ابتعثوا للدراسة في الجامعات الغربية ومنهم الدكتور إبراهيم أنيس الذي حصل على درجة الدكتوراة من جامعة لندن عام 1941م وكانت أطروحته في (لهجة القاهرة) والدكتور تمام حسان قدم بحثاً عن (لهجة الكرنك) وآخر عن (لهجة عدن) نال بهما درجة الماجستير والدكتوراه من جامعة لندن وقدم عبدالحميد سيِّد بحثاً بعنوان (من لهجات الجزيرة وآدابها في السودان) حصل به على درجة الدكتوراة من جامعة القاهرة عام 1958م وقدَّم عبدالعزيز السيد رشوان مطر بحثاً بعنوان (دراسة لغوية في لهجات البدو في مصر) نال به درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1960م، وقدَّم الدكتور محمد الباتل الحربي بحثاً عن (اللهجة المحكية) ونال به الباحث درجة الماجستير من كلية الآداب بجامعة الملك سعود.

لم تقتصر الدراسات اللهجية في الدرس اللغوي على اللهجات المحلية بل تجاوزتها إلى دراسة لهجات القبائل في التراث العربي لمعرفة الخواص اللهجية لكل قبيلة ولمعرفة مدى إسهامها في تكوين العربية الموحدة فقدم عبدالفتاح إسماعيل شلبي بحثاً بعنوان (الإمالة في القراءات واللهجات العربية) نال به درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1952م، وقدم الدكتور عبده الراجحي بحثاً بعنوان (اللهجات العربية في القراءات القرآنية) نال به درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1967م، وقدم إبراهيم بركات بحثاً بعنوان (الجملة الشرطية عند الهذليين) نال به درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1977م، وقدم أحمد علم الدين الجندي بحثاً بعنوان (اللهجات العربية كما تصورها كتب النحو واللغة) نال به درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1977م، وقدَّم الدكتور موسى مصطفى العبيدان بحثاً بعنوان (لهجة بني كلاب) وقدَّم الدكتور الشريف عبدالله البركاتي بحثاً بعنوان (النحو والصرف بين التميميين والحجازيين) وقدَّم الدكتور عبدالحميد أبو سكين بحثاً بعنوان (اللهجات العربية إلى منتصف القرن الثاني الهجري) وانسحب منهج دراسة اللهجات القديمة على اللهجات الحديثة بأدبها العامي.

إذا كان ثمة فرق بين بداية اللحن في اللغة وبين بداية المركب من لغة دخلها اللحن فإنَّ اللحن في اللغة تجاوز لمعنى المفردة بغير وجه حق أو خطأ في تصريفها أو إدخال لفظ لا معنى له في الفصحى.. واللحن اللغوي قديم جداً ولا يكون الأدب أدباً عامياً حتى يكون مركباً من لغة دخلها اللحن حين يكون الشعر والمثل والتأليف كله متحرراً من قيود الفصحى وربما وجدت في هذا الأدب العامي جمهرة من الألفاظ والتركيبات الفصيحة؛ وشيوع الألفاظ العامية قديم ووجود الأدب العامي قديم بدليل شيوع الألفاظ العامية في القرن الخامس ومع شيوع الألفاظ العامية لا بد من وجود الأدب العامي بيد أن مؤرخي الأدب وجُمَّاعه زهدوا في ذكر الأدب العامي؛ قال ابن خلدون: والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد خصوصاً علم اللسان يستنكر هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد.. الخ ومن الباحثين في الشعر العامي من يعقد صلة بين بداية الشعر العامي في نجد وما ينسب من أشعار لبني هلال أصحاب التغريبة غير أن الملاحظ أن بني هلال رحلوا من نجد وهم فصحاء ثم إن منطقة نجد من أبعد المناطق عن التأثر باللحن فكيف يكون اللحن نشأ منها وهذه إشكالية لا بد من الوقوف عندها وجلاء الأمر فيما يتعلق بها.

سار بنو هلال إلى المغرب بلغة سليمة وأدب فصيح إذ كانت أحداثهم في القرن الخامس وهم على هذا المستوى اللغوي والأدبي.. ومن خلال استيطانهم بالمغرب وامتزاجهم بالبربر وغيرهم فسدت لغة وأدب من أتى بعدهم والذين أتوا بعدهم سجلوا ملاحم أسلافهم بشعر عامي مستفيدين من رنين المعاني للأشعار الفصيحة التي قِيلت في ملاحم أسلافهم.. ولكون خلف الهلاليين عواماً لم يدونوا أدب أسلافهم أو الأدب الذي قيل في هذه الأحداث فقد تلقفوا أصداء منه بالرواية ومع طول العهد مزجوا الواقع بالخرافة وشدهم للواقع أعلام بشرية ومكانية واقعية، وتقدم وصف ابن خلدون: للغة جيل العرب التي خالفت لغة سلفهم من مُضر في الإعراب جملة وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات قال أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري: لغة العرب في عصر ابن خلدون بالمغرب وغيره هي بداية البداية للشعر العامي بلغة أهل نجد.. وقد وفد هذا الشعر العامي إلى نجد ولم يصدر منها وتعشقته قبائل نجد بتأثير السحر الملحمي الأسطوري في أدب اللغة الهلالية في عهود الفروسية العربية وشكل هذه القصائد ومنهجها هو المثال الذي احتذاه الشعر العامي بلهجة أهل نجد والشعر الهلالي الذي دونه ابن خلدون وما دونته أسطورة التغريبة شعر منحول غير خلي من دلالة تاريخية لأن الأسطورة لا بد أن تكون محاكاة لواقع موجود.

* عضو مجلس الشورى


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة