Culture Magazine Monday  10/11/2008 G Issue 260
قراءات
الأثنين 12 ,ذو القعدة 1429   العدد  260
 

سليمان العيسى وأدب الأطفال (2)
د. ملكة أبيض

 

 

ولننتقل الآن إلى الساقية الثانية في أدب الطفل وهي المسرحيات الغنائية.

هذه المسرحيات مطبوعة في مجلد كبير يضم أربع عشرة مسرحية مستقلة تتناول موضوعات مختلفة أشد الاختلاف ولكنها تقع جميعاً ضمن رؤية الشاعر وأهدافه، بالإضافة إلى خمس مسرحيات من عدة مشاهد أو مسلسلات مسرحية هي: النهر، أحكي لكم طفولتي يا صغار، القطار الأخضر، الصيف والطلائع، المتنبي والأطفال.

من هذه المسرحيات، مسرحيات جديدة كتبها الشاعر تجسيداً لأغراضه التربوية المحددة؛ مثل قطرة المطر، التي تمثل حقلاً عطشان يشكو قلة الماء وعطش النبات، فتأتي قطرة المطر وتلقن الإنسان درساً في إقامة السدود للحصول على الماء أنى شاء وحيثما أراد؛ والفراشة والوردة التي تروي قصة طفل مؤذ يطارد فراشة فتخبئها الوردة بين أوراقها، وهي تلبي غرضين: عدم إيذاء الحيوانات اللطيفة، ومساعدة الآخرين حين يحل بهم ضيم؛ وقنبلة وجسد التي تحكي قصة الفدائي عرفان عبد الله الذي سقطت منه قنبلة يدوية وهو يبتاع الطعام لرفاقه في عمان، فصاح بالناس ليبتعدوا، وارتمى فوق القنبلة فغطاها بجسده كي لا تؤذي أحداً...

وفيها أيضاً الغربان في بستان العم أبي سلمى، ويقصد بالغربان المعتدي الصهيوني، وبالبستان فلسطين المحتلة.

إلا أن في المسرحيات ما هو قصص قديمة معروفة، ولكن سليمان العيسى أجرى فيها تعديلات من حيث الموضوع والشكل لتناسب مفاهيم العصر وذوقه، كما هو الحال في مسرحية الصرصور والنملة التي يقول عنها الشاعر:

(قصة الصرصور والنملة معروفة... كان الصرصور رمزاً للكسل.. وكانت النملة رمز الجد والعمل... لم تعجبني القصة بروايتها القديمة هذه منذ طفولتي.. واليوم أمد يدي إلى هذه الحكاية المعروفة فأقلب مفهومها رأساً على عقب... وأجعل منها مسرحية شعرية لأطفالنا.

الصرصور في هذه المسرحية رمز الشاعر.. رمز الفنان الذي يهب الناس حياته كلها، لا يحسب لغد حساباً. إنه شاعر الحصاد، وصديق الفلاحين، يضاعف بغنائه نشاطهم، ويزيد من إنتاجهم، ويسكب البهجة والمرح في نفوسهم)(8).

لذلك نراه يُخرج على المسرح طرفاً ثالثاً هو جوقة الفلاحين التي تدافع عن الصرصور، وتلوم النملة على موقفها منه.

كذلك يلفت النظر في هذه المسرحيات احتواؤها على مسرحية بعنوان (الأطفال يزورون المعري) ومسلسل مسرحي يضم اثني عشر مشهداً بعنوان (المتنبي والأطفال)، وهما رمزان كبيران من رموز تراثنا الشعري. ففي المسرحية الأولى يُخرج الشاعر الزمان على المسرح، ويدير حواراً بينه وبين الأطفال، يطلب الزمان خلاله منهم أن يمتطوا جناحه ويطيروا معه ليكشف لهم عن الوجه المضيء لتاريخهم، ويبدأ بالمعري.. وهذا مقتطف منها:

الزمان: سلامٌ على الفيلسوف الكبيرْ!

الأطفال (في هدوء وأدب): سلامٌ سلامْ

الزمان: (يقدم نفسه للمعري مع الأطفال)

صديقُك الزمانْ

يا شاعرَ الزمانْ

(مشيراً إلى الأطفال)

جئتُ بالزهر النضيرْ

بعطرِ الخزامِ.

الأطفال: (يقلدون الزمان في تحيته)

سلامٌ على الفيلسوف الكبيرْ!

مررنا عليكْ

أتينا إليكْ

بنت: نحب الشموس العظيمةْ

ولد: نحب الكنوز القديمةْ

الأطفال: نحب الحكايات من ألف عامْ.. إلخ)

فيقص المعري عليهم قصة من (رسالة الغفران) التي اشتهر بها... ويعده الزمان بأن يُحضر له الأطفال كلما ضاقت به الساعات واستبد به الهم

(9).

أما في (المتنبي والأطفال) فنستمع إلى طفل من مصر يخاطب الشاعر قائلاً:

لا كافورَ ولا إخشيدْ

وطنٌ مثلَ الحُلْم جديدْ

أُكتُبْ أُكتبْ للفقراءْ

أُكتُبْ للشعبِ المحرومْ...

ويقول له طِفلٌ أسودُ من زائير:

شتمتنا، سمَّيتنا العبيدْ

شَتَمْتَ هذا البلد المجيدْ

لأن كفّ الحاكِمِ

شدَّتْ على الدراهمِ

ولم تَنَلْ منها الذي تُريَدْ...

فيقول المتنبي معتذراً:

أُقدّمُ اعتذاري

للسادة الصغارِ..

كانتْ لنا أخطاؤنا

في سالفِ الزمانِ

كُنّا بلا قضيةٍ

كنا بلا إيمانِ

الآن قد ملأتُ عيني

بالنهارِ الآنْ..(10)

ولا أستطيع مغادرة المسرحيات دون أن أنوه بالمسلسل المسرحي المسمى، الحلم العظيم: القطار الأخضر، الذي يتكون من واحد وعشرين مشهداً، واقتطف فقرة من المقدمة المعبرة التي مهدّ له بها، يقول سليمان العيسى في هذه المقدمة:

(حُلُم الوحدة العربية..

هو موضوع القطار الأخضر

موضوعُ هذه الأناشيد يا أطفال...

أضعها بين أيديكم في هذا المسلسل الشعري

الذي يتحرك فيه بطل صغير من رفاقكم، اسمه نزار

ويتحرك مع أطفال العرب جميعاً، ليحطموا الحواجز والسدود التي أقامها الاستعمار الأسود بين شرايين هذا الجسد العربي الواحد،

ويبنوا الوحدة...)(11).

وقد لحن هذا المسلسل الموسيقار اللبناني وليد غلميه، وأنشدته فرقة من الأطفال.

وإلى جانب المسرحيات الغنائية، وخلال الفترة نفسها، كتب سليمان كتاباً آخر يحمل عنوان (شعراؤنا يقدمون أنفسهم للأطفال). وقد تنبه له شاعر عربي كبير هو الدكتور عبد العزيز المقالح منذ عام 1982 وكتب عنه دراسة تحليلية تبين محتواه وتبرز أهميته(12).

في هذا الكتاب يتحدث الشاعر للأطفال عن سبعة وعشرين شاعراً، أو بالأحرى يجعل هؤلاء الشعراء يتحدثون عن أنفسهم ويلقون بعض شعرهم أمام الأطفال. وقد اختار له أبرز شعراء العربية منذ الجاهلية وحتى أواخر عصور الازدهار الإسلامية. ولم يدرج فيه شعراء من العصر الحديث لأنه كان يفكر بكتابة مؤلف مستقل عنهم، ولكن الظروف لم تتح له ذلك.

ولعل أهم ما يلفت النظر في هذا الكتاب الموجه للأطفال، المشهد الذي شكل مقدمة له. وهو يتكون من حديقة عامة في المدينة يتنزه فيها الشاعر، ويجلس على أحد مقاعدها الخشبية. وهناك يدور حديث بينه وبين بلبل صغير حطّ بجانبه، وبدأه بعتاب حار، له ولرفاقه الشعراء، لأنهم لا يعلِّمون البلابل بيتاً من أشعارهم بالرغم من أن هؤلاء يعطونهم الكثير من الغناء والموسيقا الجميلة.

وخلال هذا الحوار لا ينسى الشاعر أن يذكر كيف ينبغي معاملة الطيور لتأنس بالإنسان، ويشير إلى تقاعس شبابنا عن قراءة الشعر وحفظه، في الوقت الذي ينجذب إليه الأطفال والبلابل، ويشرح مشروعه الجديد المتمثل في كتابة كتاب يتحدث عن شعراء العربية وأشعارهم، فيقدم له البلبل النصيحة التالية:

(ليكن حديثك عن هؤلاء الشعراء رشيقاً ناعماً، أشبه بقطرات الماء الصافية التي نرشفها بمناقيرنا الصغيرة من نُقْرةٍ في صخر)، فيجيب الشاعر: (سأبذل كل ما في وسعي لأحقق لك هذا الرجاء. لقد كان تشبيهك رائعاً، وأتمنى أن يكون عملي القادم مثله)(13).

ولدى تناول الأعلام اتبع سليمان العيسى مخططاً يتمثل في أن يلتقي الشاعر القديم الأطفال فيجلس إليهم. ويعرفهم بنفسه، ويتحدث عن المراحل المهمة في حياته، ثم يعرض عليهم بعضاً من شعره. ويمكننا أن نأخذ مقاطع من سيرة أبي فراس الحمداني مثالاً على ذلك:

يقول أبو فراس: أيها الصغار الأعزاء!

أنا قادم إليكم من حلب، مدينة الصخر والرجولة. كنت قائداً وشاعراً في وقت واحد. ولا تستغربوا ذلك، فكثير من شعرائنا القدماء كانوا فرساناً وشعراء، يخوضون المعارك، وينظمون الشعر الجميل وهم يحملون السلاح...

أصبحت والياً على منبج، ومن هناك، كنت انطلق مع كتائب الفرسان إلى الشمال، نحمي حدود الدولة العربية، ونرد غزوات الروم، ونخوض معهم المعارك العنيفة.

وقد وقعت في الأسر مرتين.

وفي المرة الثانية قادني الأعداء إلى القسطنطينية وسجنوني فيها، حيث بقيت أعواماً طويلة، أنظم الشعر العاطفي المؤثر، وأشتاق إلى بلدي وأهلي. وقد سميت القصائد المؤثرة التي نظمتها في السجن (الروميات) لأني قلتها وأنا في أسر الروم.

أيها الصغار الأحبَّاء!

ستبقى أمتنا تتجدد بكم أنتم.

ويكفينا نحن أن نترك لكم سيرةً طيبة، وصفحات مشرقة في التاريخ.

اسمعوا هذه المقطوعة العاطفية التي قلتها وأنا في الأسر، أخاطب فيها حمامةً رأيتها تنوح على غصن شجرة:

أقولُ وقد ناحت بقربي حمامةٌ

أيا جارتا، لو تشعرين بحالي!

..الخ

ما كاد الشاعر القائد أبو فراس ينتهي من قصيدته السابقة حتى التف حوله الأطفال، وصاحوا:

نريد أن تسمعنا مقطعاً آخر من قصيدتك الرائعة التي لحنها الملحنون، وغناها المغنّون في أيامنا، وما زلنا نسمعها أحياناً بصوت مطربتنا الراحلة الشهيرة (أم كلثوم). لقد حدثنا عنها أساتذتنا وقالوا لنا إنك نظمتها أيضاً وأنت في الأسر، في سجن الروم.

ويتوقف أبو فراس قليلاً، ويداعب الأطفال قائلاً:

نعم.. يا صغاري الأعزاء

لقد حزرتُ ما تريدون. إنكم تطلبون أبياتاً من قصيدتي الرائعة الجميلة التي أقول في مطلعها مخاطباً نفسي:

أراكَ عصيَّ الدمع شيمتُكَ الصبرُ

أَمَا للِهوى نهيٌ عليكَ ولا أمرُ؟

وهتف الصغار في صوت واحد:

نعم.. يا عمَّاه! هذا ما نريد ...الخ(14).

بقيت في أدب الأطفال ساقية ثالثة غزيرة وهي القصص.

وقد كتب سليمان في هذه الفترة عدة أنواع من القصص:

1- سيرة ذاتية لطفولة الشاعر بعنوان: وائل يبحث عن وطنه الكبير.

2- قصص نثرية من التراث، وهي: لبيك أيتها المرأة، والحدث الحمراء، وابن الصحراء.

3- وقصص مزيج من الشعر والنثر، وهي: الفرسان الثلاثة، ووضاح وليلى في وطن الجدود، وسرب البجع الأبيض.

وهناك سلاسل القصص والمسرحيات المعرّبة، بالاشتراك معي ومع مجموعة من الأصدقاء.

يبقى أن المجرى الأصلي المتمثل في شعر الكبار لم يتوقف إلا فترة وجيزة بعد الكارثة، ثم عاد الشاعر إلى الإنتاج فنشر (الثمالات) بأجزائها الخمسة، والكتابة بقاء، وكتاب الحنين، وهمسات ريشة متعبة. وقد أفردتُ له دراسة خاصة بعنوان: سليمان العيسى في نبرته الهادئة.

****

(8) العيسى، سليمان، مسرحيات غنائية للأطفال، دار الشورى، بيروت، 1982م.

(9) المصدر نفسه.

(10) المصدر نفسه.

(11) المصدر نفسه.

(12) المقالح، عبد العزيز (سليمان العيسى، أو النهر الذي لم يغيّر مجراه)، مع سليمان العيسى، دار طلاس، دمشق، 1984م.

(12) العيسى، سليمان، شعراؤنا يقدمون أنفسهم للأطفال، دار الآداب، بيروت، 1978م.

(13) المصدر نفسه.

(14) أبيض، ملكة (سليمان العيسى في نبرته الهادئة)، صحيفة الجزيرة، المجلة الثقافية، مصدر سابق.

انتهت - دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة