Culture Magazine Monday  17/03/2008 G Issue 239
فضاءات
الأثنين 9 ,ربيع الاول 1429   العدد  239
 

صورة العرب في السينما الأمريكية بعد عصر الاستشراق ((4))
د. سلطان سعد القحطاني

 

 

النواة الأولى لصورة العرب:

في زمن كان الثالوث القاتل (الجهل والفقر والمرض) يسيطر على الجزيرة العربية وأجزاء كثيرة من العالم العربي، جاء الرحالة المغامرون يجوسون خلال الديار لاكتشاف ذلك المجهول، يسجلون انطباعاتهم عن هذه الفئات البشرية، ويرسلون تلك الانطباعات إلى أصحاب القرار في بلدانهم، من أجل دراستها واتخاذ القرارات المناسبة حيالها، بهدف المعرفة من أجل الهيمنة والسيطرة، كما يقول إدوارد سعيد. ومن خلال هذه الانطباعات استغل السينمائيون تصوير هذه الفئة من العرب لتكون صورة عامة تستحق الولاية من قبل أمة متحضرة، تريد أن تنشر حداثتها ومخترعاتها وتسوق صناعتها، واستمرت هذه الصورة تكرر في كل زمان ومكان، وأراد أصحابها لها أن تستمر لخدمة هذا المشروع طويل الأجل، واستبدالها بصورة مشابهة في ظرف ما، فما تزال الصور الكاريكاتورية التي رسمها الرحالة الفرنسي فرانسوا دو شاتوبريان في سنة 1803، يصف رحلته من دمشق إلى وسط الجزيرة العربية، فيقول: (بدا لي العرب حينما رأيتهم طوال القامة، ولو أنهم أبقوا أفواههم مغلقة دوماً لما دل شيء لديهم على الوحشية، بيد أنهم ما أن يبدأوا الكلام حتى تسمع لهم لغة صاخبة وملفوظة بملء النفس وتلحظ أسناناً طويلة...)، وهذه الملاحظات التي لاحظها شاتوبريان على العرب في باديتهم، من طول في القامة، والأسنان، وعلو الصوت، لا أظن أنها خاصة بالعرب، فهناك من السلالات العالمية من هم أطول قامة منهم، وأسنان العرب مثل أسنان الآخرين ليست كلها طويلة، أما اللغة الصاخبة فمن البيئة المفتوحة، وهذا معلوم عند علماء الأجناس البشرية، وهناك من هو أطول صوتاً منهم، فهل هذه الصفات دليل وحشية؟؟!!، هناك من المتوحشين من لا يتكلم على الإطلاق، والحديث يطول لو فتحنا هذا الباب؛ ولكن من العجب أن تتواصل هذه النغمة الفكرية عندما يوصف العرب، فبعد عقدين من الزمن كتبت الرحالة الفرنسية (أوجين مليشيور دوفوغيه) في كتابها (رحلة إلى بلاد الماضي) موضوعات تتطابق وما كتبه شاتوبريان، فتقول: (إن عظمة مشهد الشرق (المشاهد البدائية) تحيلنا إلى العصور التوراتية، وتعود بنا من غير وعي منا إلى المشاهد البطرياركية لأيام العالم الأولى، إنهم البدو الرعاة وهم أول من التقينا هم، ثم تصفهم فتقول: كانت لهم عيون من نار وأسنان بيض مثل العاج، وحدها تحيي الوجوه الشاحبة النحيفة من جراء الحرمان)، ولا نجد غرابة فيما قالت هذه الرحالة عن وجود هذه الفئة من الناس في تلك الأيام (منتصف القرن التاسع عشر) وسيحفظ التاريخ لها حقها في هذا النص ومثله الكثير عن الاستشراق الكلاسيكي، وهي انطباعات بدائية، تغير كل شيء بعدها، لكن الغريب في الأمر أن هذه الانطباعات ما تزال تشكل المادة العضوية، حتى ما بعد الاستشراق، الذي التقطه المنتجون والمخرجون في هوليود وخلقوا منه مادة عمموها على كل العرب في البادية والحاضرة، عند الأغنياء والفقراء على حد سواء، وتلذذ بها كتاب وصحافيون ومنظرون ومفكرون، في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا (17)، وإن طوى التاريخ تلك الأفكار التقليدية البائدة في عالم اليوم في ملفاته، فإن الفكرة الرئيسة ما تزال تحرك بآليات جديدة، فالخوف من البدو ذوي الأسنان الطويلة، المتوحشين في صحرائهم التي تحولت اليوم إلى مدن وقرى وهجر، تعيش على أرقى مستويات التقنية، وتستعمل كل وسائل الحداثة في كل مناحي الحياة، وقد صنع الغرب صناعة جديدة توسل بها عوضاً عن العيون اللامعة والأسنان الحادة، ولكنها- على أي حال- من نفس الطينة، ويصدر منها عنف أقسى مما وصفه المستشرقون والرحالة العسكريون، فلا سبيل اليوم للمغامرة في فيافي الصحراء لوصف بدوي في الصحراء تقف بجانب خيمته الترفيهية أرقى موديلات السيارات، وربما يكون ممن يكيفون خيامهم وغرفهم المتنقلة بأحدث مكيفات الهواء؛ لم يعد هناك خوف من الصحراء ولا من أهلها، لكن الصورة الحديثة التي ستمهد السبيل أمام المنتجين والمخرجين، صورة الإسلامي المتطرف، وسوف يستلهم كاتب الحوار والمشاهد السينمائية إبداعه من اللحية الطويلة، والثوب القصير، والصوت العالي المملوء بالصراخ واللعن والسباب بكل ما أوتي من قوة وبلاغة في القول، ومن ثم يتلقفها من يصوغها على هواه، فيصدرها على هيئة إرهابية؛ وهناك صناعة في السينما الأمريكية في كل من الحالتين: حالة الإرهاب البدوي، كما صورته الأسطورة الاستشراقية، على شكل انطباعات دينية وثقافية وسياسية...، وغيرها، وأخرى ذات علاقة بها غير مباشرة، وهي صورة البدوي الذي ظهر في شكل إسلامي، وكلا الحالتين في النهاية متوحشة، ولم ينظر لهذه الشعوب العربية على أن أرضها محتلة وهي مشردة وحقوقها مغتصبة، وأنها تدافع عن حقها في العيش، بل نظر إليها على أنها متوحشة فحسب، وأن هؤلاء يعيدون عجلة التاريخ إلى الوراء في الشرق الأوسط، على حد تعبير الرئيس الأمريكي عندما ظهرت بوادر المقاومة في بغداد، ومن المؤسف أننا نجد من بعض الكتاب العرب من يؤيد هذه الأساطير البائدة وغير المنطقية، ويصف أهلها بالمجانين عندما يدافعون عن حقوقهم المشروعة، واهتم الغربيون والأمريكيون، على وجه الخصوص، بصناعة السينما، وتفننوا في عمليات الإخراج المثيرة للمشاهد لتصده عن المادة، وتؤثر فيه من الناحية النفسية، وتشده للمتابعة فيما يسمى بأفلام (Action)، وهذا باعتراف بعض النقاد الأمريكيين المعتدلين، الذين يرون أن الصورة- المجسمة والمتحركة- تعطي دلالة واضحة على مضمونها وهدفها، وبالتالي تكشف عن معنى النص، وقد استخدمت هذه الطريقة في تحويل النصوص المكتوبة إلى نصوص مرئية على شاشات التلفزة، للتعبير عن مقصد المنتج لهذه النصوص، ولعل أقرب مثال على ذلك ما يعرض في بعض الدور السينمائية والتليفزيونية في بعض البلدان، بغرض تشويه صورة الآخر، من خلال الصور التي تقلل من قيمة ذلك الآخر، وبما أن هذه الصورة التي تحدث عنها الباحث كانت في الأصل نصاً مكتوباً، تحول إلى نص مرئي متصرَّف فيه، عن طريق المَشاهد الدلالية (Scenario)، أي مخطط سينمائي، وقد يستقي (السيناريست) موضوعاً يحوله كيفما يشاء، من نص آخر، وقد تطورت الآلة الإلكترونية وأظهرت قدرتها في أن تحول الحقيقة إلى خيال، والخير إلى شر، والذكر إلى شكل أنثى، وقد ترفع من قيمة شخص وتحط من قيمة آخر، من الموالين لهذه السياسة أو الأيديولوجية أو العرقية أو المذهبية...، وفي مثل هذه الحالة تم استبدال مطابقة اللفظ للمعنى الذي تحدث عنه النقد العربي في بداياته، عند الجاحظ وابن قتيبة وابن طباطبا...وغيرهم 5- تحدثنا في الحلقة الماضية عن مطابقة اللفظ للمعنى في الثقافة العربية من خلال اللغة، أما الآن فقد تحول في الثقافة المرئية إلى تهجين اللفظ ليطابق الصورة في النصوص المكتوبة بعناية ضد الثقافة العربية، وتحول النص من مقروء عند الطبقة المثقفة إلى نص مرئي عند العامة، ولذلك يقول بعض الباحثين في ثقافة الصورة المتلفزة إن التليفزيون استعمار ثان للعقل البشري، وقد وجدنا هذا القول صحيحاً إلى حد بعيد، فعندما تقدم هذه النصوص، التي بدأها الاستشراق بالوصف للمثقف، الذي يراها بعين الخبير الفاحص، أصبحت تقدم لعامة الناس من الوسط غير المثقف، وهذا الوسط لا يسأل عما يشاهد، بل يتأثر به مباشرة لقلة خبرته الثقافية وفئته العمرية، وهذا ما يمثل السواد الأعظم من المتلقين بطريقة المشاهدة؛ ويضيف (دوبريه) الفرنسي قوله: (أصبح الفن مجرد تصنيف وليس متعة للنظر)، ونجد الظاهرة الملفتة للنظر عند من يبشرون بالأدب الشعبي الرديء، حيث يرى دوبريه أن هذا النوع من الأدب!!، صورة مستهلكة، يستفيد منها تجار الدكاكين، وقد حطت من قيمة رجال الفكر لصالح هذه الفئة؛كما يرى الناقد الآخر (لسلي فيدلر) أن أدب الثقافة العليا يغيب ليحل محله أدب الجماهير المعتمد على الصورة؛ وهذه الصورة يديرها المنتفعون من ورائها ضاربين بالمصالح العالمية، والأخلاق العليا عرض الحائط، وهذه الآراء التي أوردتها باقتضاب شديد، يؤيدها قول (كرنان)، قبل نصف قرن من الزمان: (التلفزيون والصورة حلا محل الكتاب المطبوع)، ويعني كرنان من قوله هذا، إن الصورة موجهة للطبقة الجاهلة ونصف المتعلمين لتسيطر على عقولهم، واستخدمت فيها الدلالات اللغوية الهابطة، وتحولت معظم الروايات التي كتبت عن العرب، بأسلوب متحامل ضد الثقافة العربية، إلى مسلسلات وأفلام تسيء للثقافة العربية، وانتشرت عند العامة، وكانت تقرأ من قبل النخبة، أو ما يسمون بالنخبة المأجورة، من الأمريكيين والعرب الموالين لتلك الثقافة، فالصورة السلبية للعرب في الثقافة الأمريكية، هي نفس الصورة النمطية في الروايات التي صدرت عن مؤلفين متحاملين على الثقافة العربية، وبالتالي صبغت الثقافة العربية بالصبغة التي تريدها، وهي صبغة كاذبة- على أي حال- في زمن لم تعد الأكاذيب تصدق، وهي موجودة، لكنها لا تمثل العرب بأي حال من الأحوال، كما أن مثلها موجود في أمريكا وأوروبا، لكن هذه الصور في نظر المنتجين وظفت لأهداف مقصودة؛ ورغم انتشارا لإعلام وقنوات الثقافة المتعددة، ما زالت الألفاظ التي تروج ضد العرب،(Savage. Mad) وهي دلالات وصفات من أسوأ ما ينعت به الإنسان، مثل (أحمق.. مجنون..) يتمسك بها البعض، مع اختلاف الظرف التاريخي، وتتخذ شعاراً يعبر به عن العرب المسلمين، وفي هذا الصدد يقول جاك شاهين، اللبناني الأصل في كتابه (الصورة السلبية للعرب في الثقافة الأمريكية) الذي ألفه عندما عرف عن العرب ما لم يكن يعرفه من قبل، على مدى أربعين عاماً من عمره وكانت المصادفة أنه جاء ليدرِّس في أحد المعاهد في بيروت، ومن هنا اكتشف التزوير الذي كان يصدقه عن العرب: (إن تكون عربياً يعني أن تكون مسلماً ويعني أن تكون إرهابياً.. تلك هي الصورة السائدة عن الإسلام)، ومن يعرف الثقافة الأمريكية- على وجه الخصوص- والأوروبية- على وجه العموم - يدرك مدى خطورة الصورة في تلك الثقافة، فهي تعني للمتلقي الشيء الكثير، وتؤثر في مفاهيمه إلى أبعد الحدود، فهناك الكثير من المؤثرات السلبية عندما تفرغ اللغة من مدلولاتها الذهنية العامة - في لغة مشتركة - إلى مدلولات خاصة، أو عبثية، في لغة أخرى، وهذا ما قام به الباحث السينمائي، جاك شاهين، الذي قام ببحث في صورة العالم العربي في الولايات المتحدة الأمريكية وبين واقعه، حيث نشر بياناً مفهرساً بالصور النمطية السلبية، رجالاً ونساءً وأطفالاً استخدمتها صناعة السينما الأمريكية في كل فلم تقريباً تُضمن شخصية عربية على مدى القرن الماضي، وجمعها في كتاب بعنوان (كيف تشوه هوليود شعباً)، ولم تكن هذه هي المرة الأولى في حياة السينما الأمريكية، بل أن هذه النمطية أصبحت تقليداً عدائيا منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث يظهرون الصورة المشوهة- بالطبع- عن العرب، على أنهم متوحشون بلا قلب، وغير متحضرين، ومتعصبون دينياً، ومهووسون بالمال، ومتخلفون ثقافياً، يميلون إلى ترويع أبناء الغرب المتحضرين، المسيحيون منهم واليهود على وجه الخصوص....، وهذه الصور في حقيقتها الظاهرية حقيقية، لكنها في داخلها مزيفة مفتراة على العرب، لأنها لا تمثل العرب، بل هي عينة منتقاة من الطبقات السفلى في المجتمع، ويوجد مثلها الكثير في أمريكا نفسها (28)، كما يذكر بعض الكتاب الذين زاروا الأماكن القريبة من هوليود نفسها، وسجلوا مشاهداتهم.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود82244

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة