Culture Magazine Monday  17/03/2008 G Issue 239
مراجعات
الأثنين 9 ,ربيع الاول 1429   العدد  239
 

استراحة داخل صومعة الفكر
ويورق الخريف
عيسى بن علي جراباسعد البواردي

 

 

قبضة الخريف دائماً قاسية.. إن على مستوى العمر.. وإن على مستوى الطبيعة.. والطبع.. الخريف مرحلة تهرم فيها الأشياء وتشيخ.. لا يبقى منها إلا ذلك العود الصلب المقاوم الذي لا يهرم.. والإرادة القوية التي لا تهزم..

شاعرنا تبرأ من الشعر.. هل أصابه جفاف الكلام وعجزها؟ أم أن يأسه تملكه وأسلمه إلى استسلام العزيمة.. أي الهزيمة.. لا أدري.. حسبنا أن نعرف السبب ليبطل العجب..

مالي وللشعر إن أوقدت قافية

ألا وهبّ المدى ريحاً فتنطفئ

أداه للقب نبراسا يضيء. ولكم

عليه إن شاخت الآمال أتكئ

ركنتُ أجري على أمواجه سفني

وإن طفت فإلى شطيه ألتجئ

فكيف يعثر ما خبأته زمناً

من لوعة الحب؟ كيف الحب يختبئ

تساؤلات هي مزيج من الحيرة، والضعف.. من اليأس والبؤس.. لا مكانة لها في إرادة حية تقهر العجب وتستند إلى حائط مكين من الثقة بالنفس.. الشكوى يا شعرنا الحبيب مظهر قيد لابد من كسره.. ارسم طريق دربك بشعرك الواثق.. الرثاء للموتى الأحياء الذين مات عشقهم في دواخلهم.. كن عاشقا:

ها أنا كم رثيت العاشقين ومن

حيث انتهوا في دروب الشعق ابتدئ

ها أنت تقاوم النسيان ومقاومته مظهر عافية

من يذق لوعة الهوى ليس ينسى

لو غدا قلبه من الصخر أقسى

يرتدي بردة النهار خليا

ويجافي مضاجع الليل بؤسا

ويناجي النجوم.. نجما فنجما

ويراها نواطقا وهي خرسا

وإذا البدر غاب أطرق حزنا

وإذا ما بدا تبسم أنسا..

هكذا وبهذه الحيوية المشبوبة تنتصر ابتسامة البدر على حزنه.. وإشراقة الأمل على ألمه.. كن جميلاً ترى الوجود جميلاً..

إن أمسى وما احيلاك طيفا

كلما لاح كالسنا طبت نفسا

كيف أنساك لست ممن إذا طال

التنائي يخون عهداً وينسى..

إذا أنت موجود.. إذا أنت حي (مطايا الخوف) عنوان سلمنا معه إلى الخوف:

تعبت من توقد الحروف

وركضها في مهمه مخوف

(مخيف) أنسب من (مخوف)

تموح بين أضلعي وتغلي

وتستفز همة الضعيف

تضمد الجراح في الحنايا

وترسم الصباح للكيف

ومن نداها تخصب الفيافي

وتورق الأغصان في الخريف

الفيافي هنا ليست خطأ.. ولكن ما حق الحروف علينا أن نشيد بها ونشير إليها.. أحسب أن (القوافي) أحق من الفيافي

شاعرنا يريد حروفه غيثا يهمي.. وجدولاً ينساب.. وخطرة ذات أكمام.. وسلوى لكل قلب.. وبلسما لكل جرح.. وصوتا مسموعا لا يتوارى تحت مظنة الخوف.. ومظلة الصمت.. هكذا أعطى لكلمته خياراتها واختياراتها بعد أن نامت السيوف.. ولم يبق إلا صوت الكلمة.

بحثت عن سيوفنا فكانت

حروفنا أمطى من السيوف

(إلى أين)! تساؤل وجَّهه إلى قلبه علَّ قلبه يستجيب ويجيب

إلى أين يا قلبي؟ أتدري بما جرى

من الضيم للعشاق أم أنت لا تدري؟

ركضت بلا وعد فلم تبلغ المنى

وبحث بلا صبر فأنقصت من قدري

ولكنت إذاً أحسستُ نبضك مسرعا

وضعتُ يدي خوفا وأمعنت في الزجر

لمَ كل هذا التقريع لقلبك.. إنه بوصلة الحب.. وفزاعة الهوى.. دعه يبحث عمن يهوى بعيداً عن التدخل واليأس.. قلبك أدرى بنصيبه.!

فحظك يا قلبي سراب.. وكم دعا

قلوبا وأزكى في حشاها لظى الهجر

إذاً الحب ما شابته فينا شوائب

تسامى ولم تنفذ إليه يد الدهر

لقد بات ما أخفاه قلبي من الهوى

وكم بيّن المخفيّ بيتُ من الشعر

قلبك هو الذي صاغ شعرك.. وأحلى مشاعرك.. دون قلب ينبض بالحب لا شيء..

(ذهول الصمت) ماذا يعني؟!

سكبت بين يديك القلب والمقلا

وبتُ استمطر الأحلام والأملا

ورحت أعزف ألحان الهوى طمعا

أن تستلين وأن يخضر ما ذبلا

ذكرتها بزمان الوصل حين أتت

تميس في عنواف بعدُ ما اكتملا

لماّ التقينا أثارت فيَّ عاصفة

من المشاعر تجتاح الحشا وَجَلا

وأوغلت في الحنايا رعشة أسرت

لسان قلبي وظل الصمت منذهلا

ماذا تنتظر أكثر من هذا.. قلبك وعيناك.. وقيثارك أمام عود ذابل.. وعنفوان لم يكتمل..لا شيء إلا عاصفة تعقد اللسان وتحكم عليه بالصمت المذهل.. ماذا بعد هذا المشهد التراجيدي:

ثم انثنت خشية الواشين عائدة

عجلى.. وعدت غريب القلب منذهلا

معها الحق كل الحق أن تعود إلى حين تختار لقاء لا رجفة فيه ولا خوف، وهكذا فعلت:

ثم التقينا وكادت أن تبوح بما

في قلبها ورأيت الشوق مشتعلا

فقلت للنفس: حانت فرصة لترى

بعض اقتداري واني أحسن الغزلا

بلغت بشاعرنا الجرأة أن يصعد طرفه نحوها يترسم ملامحها كما لو أنه اللقاء الأول.. والأخير.. وكانت المفاجأة:

رأيتها ورأتني والتقت يدها

بيدي وحمرة خديها بدت خجلا

تعانقت مقلتانا وابتدت قصص

من الغرام تثير السهل والجبلا

ذكرها بزمان الوصل.. هل نسيته؟ أجفلت.. أشاحت بوجهها عنه.. بدت غاضبة قفلت من حيث أتت.. أما هو فقد غمرته وحشة الليل.. ووحدة اللقاء.. وأخذ يعزي نفسه

عجبت للحب كم قتلى به كرمهم

طلّ ويحيا رفيع القدر من قتلا

نهاية لابد منها ولو لم تُعجب..

حياة شاعرنا الجرابا.. مزيج من تجارب حب.. وعتب.. و(صراع)

بين عقلي وبين نفسي سراع

أي هذين يا فؤادي يُطاع

تشتهي النفس كل شيء ولو كان

سرابا ومنتهاه الضياع

إنما العقل درة ليس تبلى

وله في دجى الرزايا شعاع

يعشقان الجمال مالهما فيه

اتفاق.. ولا عليه اجتماع

حار قلبي فيما يريدان. فالعقل

رزين والنفس فيها اندفاع

جميل.. بل ورائع هذا التوصيف لصراع العقل والنفس فقد أبان بدقة وجه الخلاف والاختلاف بين عاطفة مشبوبة عاطفة مشبوبة عمياء وعقل مفكر ومدبر.. ولكن مع كل هذا الإدراك والوعي مازالت الحيرة تملأ فكره.. وتكاد تجتذبه إلى ما تهوى نفسه

صوت عقلي لا يستساغ ونفسي

صوتها كم له يطيب استماع

يا فؤادي أراك تبحر والموج

عنيف وقد تهاوى الشراع

فاتق الله.. كم نفس على العلة

تُشرى.. وكم عقول تباع..

أحسنتَ.. وأجدتَ..

ومن صراع النفس والعقل إلى صراع آخر.. صراح حياة أو ذل.. صراح حرية أو عبودية

ثوري كما شئت يا بغداد واحترقي

لم يبق في العرب إلا حس مرتزق

ثوري ولا تيأسي إن لم تري أحدا

يمد نحوك كف الغوث والغدق

ثوري فما زال يا بغداد في دمنا

مشاعر ترقب الأحداث في عنق

صرخة استنهاض قوية وهو يشهد عاصمة الرشيدة ترسف في قيود الغزاة الطامعين.. مستباحة أرضها وسماؤها

عاد التتار جيوشا غير عابئة

إلا بسفك دم الأعراق والعلق

هولاكم يستفز الكون في صلف

بحكمة من جنون الطيش والنزق

أيةحكمة تعني؟!.. إنها حفنة من جيوش رعاة البقر وأذيالهم الطامعين في خيرات العراق.. وإذلاله..

حرب صليبية هوجاء رأيتها

تحرير شعب من الإيمان والخلق!!

عاد التتار فما بال المظفر لم

يعَد ليجمع فينا شمل مفترق؟

نساق نحو مصير غامض بدأت

خطاه من نفق داج إلى نفق

المصير يا شاعرنا لا يكتنفه غموض.. إنه واضح كوضوح شمس النهار.. إذلال كل ما هو عربي.. وإهانة كل ما هو مسلم.. وإعادة التاريخ إلى الوراء أيام كان الاستعمار يجثم بثقله على ساحتنا العربية والإسلامية يمزق أوصالها.. ويغرس في قلبها كيانا دخيلا اسمه (إسرائيل) مخلب القطة للغرب الاستعماري.. شاعرنا لم يفقد الأمل.. ولم نفقد الأمل معه:

لا لستِ وحدك في الميدان فاصطبري

على اللظى وبربي الصابرين ثقي

بوارق النصر مازالت تلوح لنا

فحمحمي يا خيول الحق..وانطلقي

إن لاذ بالصمت قومي فالطريق إلى

بغداد فاتحة الباقي من الطرق

كأني به يقرأ ما في نفس شاعرنا الآخر القائل:

من حلقت لحية جار له

فليسكب الماء على لحيته

لا داعي للخوف فللعراق رب يحميه.. وأحرار من داخله يذودون حماه.. ونعوش طائرة للغزاة تؤكد أن مصير الغزو إلى فشل ونهاية مهما استثرى في استبداده وعناده.

هذه المرة يطرح الشاعر لغزاً يريد لنا حله.. وما نحن بتأويل الألغاز بعارفين..!

لِمَ نبكي..؟ ومنَ يحن علينا

نحن في صوب السهام إلينا

ما اتانا الغزاة.. لكن أتيناهم

وصرنا لهم فؤاداً وعينا

هم أرادوا.. قلنا لهم ما أرادوا

وارتضينا.. قالو لنا: ما ارتضينا

نحن من نحن؟ حار فينا أعادينا

لأننا نعينهم بيدينا..

وإذا ماجت الخطوب قريبا

قيل في غمرة الهوى: ما علينا!

وإذا الصادقون هبوا أشعنا

فيهم اليأس والجنى لكلينا

ونصل مع شاعرنا إلى بيت القصيد:

نحن لغز محير. فلنا دين

عظيم لكن به ما ارتقينا

لم نزل في الدروب نتعب ركضا

والحصان الأصيل صار حصينا

ما رجعنا إلا بخفي حنين

مَن له ينسبان ليس حنينا

(نتعب ركضا) لا تكفي.. قل نلهث ركضا.. أما اللغز فقد حللته بكل جسارة وجدارة.. لا تعليق عليه.. ولا إضافة إليه.. إذ لا عرض بعد عروس كما يقول المثل.

شاعرنا الإبداعي يأخذنا معه جميعاً من مشهد إلى مشهد.. هذه المرة مع سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.. وإذا به ظمأ قاتل

زجرت فؤادي عن هوى من يصده

فما باله زجري له لا يصده؟

أقربه مني.. أمدُّ له يدي

ولكن حبال الشوق قسرا تشده

وأمنحه نصحي كلما في الهوى هوى

لعلي به إن حاد عني أرده

يُمني بوعد كالسراب يظنه

سيهمي.. فلم يصدق بما ظن وعده

له زورق كم تاه في بحر عشقه

فلا جزره أحنى.. ولا رقّ مدّه

يرى ذله عزا لدى من يحبه

ولا ينثني لو كان للجبن ورده

يسير بلا رشد إلى حتفه ضحى

ومن ذا الذي يهوى وما ضاع رشده

الجنون فنون.. ومن جنون الحب أن يكون العاشق سرابيا متمسكاً بأوهام عشقه إلى درجة الجنون.. ومن السراب.. إلى المساءلة:

تسائلني: متى حطّ الرحال؟

وهل تقضي حياتك في ارتحال

اعندك ما يعنيك من شراب

وراحلة وزاد واحتمال؟

فقلت لها: أيا نفسي دعيني

أكاد أضج من عمق السؤال

ضعاف الناس تسكرهم حياة

أحبوها. وجدوا في الوصال

ولو عرفوا حقيقة ما أحبوا

للجّوا في نفور وانفصال

وراحوا يطلبون لهم حياة

بعيدا عن تهاويم الخيال

تهويات جميلة مع النفس مليئة بالعمق.. وما دام الخطاب مع النفس ووددت لو أحل جملة (ضعاف النفس) بدلا من ضعاف الناس.. وكلاهما صحيحة.

فارس رحلتنا لا يعترف بفصول السنة الأربعة.. كل فصولها خريف.. لا صيف، ولا ربيع.. ولا حتى شتاء.. لماذا؟

شح القادم القريب مخيف

فلماذا التخذيل؟ والتسويف؟

قد سقينا خمر الشعارات حتى

صار صارفينا مثل الدنيء العفيف!

طرقت بابنا خطوب وعاثت

في حمانا حوادث، وصروفه

فإذا بالسمع فيها أصم

ذاهل، والبصير فيها كفيف

وإذا بالثرى جديب تلظى

بالزوايا.. كل الفصول خريف

حين يأتي العمر بلا ربيع فإنه يتحول إلى خريف ولو كان في ريعان شبابه.. العمر لا يقاس بالأعمار.. وإنما بالأعمال.. بالإعمار.. وبالكرامة الوطنية

أيا المدعون عزا وفي الموصل

حياة قد مُرِّغت.. وأنوف

ما كسانا الهوان إلا ازدواج

وصدود عن ديننا، وعزوف

أيها المدعون مهلا فللقادم

صوت مجلجل.. ومخيف

نحن سر الضياع جبن غدونا

بعقول أزرى بها التخريف

بهذا الإيقاع القوي رفع صوته بمقدمة غاضبا وشاجبا هوان أمته على نفسها وعلى غيرها في لحظة تحول تاريخي لا مكان فيه للقاعدين ولا للمدعين.. يتساءل شاعرنا وقد وضع النقط على الحروف:

أين لحن الضياء يسري فتنداح

شموس يحار فيها الكسوف؟

روض آمالنا ذوى.. وتهاوى

للأماني الحسان قصر مخيف

قد سئمنا فلا الغناء غناء

في ربانا، ولا الحفيف حفيف

كيف للشعر أن يعود كما كان

طروبا وقد جفته الطيوف؟

صوته بُح، فاللحون نشار

والمعاني خناجر وسيوف

ومع هذا لم ييأس:

ربما عاد إن رجعنا إلى الحق

وقد وُحدِّت عليه الصفوف

وفي وضوحه تلمس دلائل صدقه.. وغيرته في سبيل حقه.. لا يخاتل في شعره.. ولا يخادع في مشاعره لأن إيمانه أقوى من أنانيته وسلبيته:

غير مجد مع الخطوب النواح

أنا ماضٍ.. فزمجري يا رياح

لم يعد في يدي الخيار فمن خلفي

سهام.. ومن أمامي رماح

ودمي نازف، وليلي طويل

كالح الوجه.. والحمى مستباح

كل المشاهد المأساوية من حوله مروعة.. في فلسطين جرح نازف.. وفي العراق دمار، ودماء، وشقاء، وفي أكثر من قطر عربي وإسلامي تدخلات.. ومؤامرات.. ومع هذا يدفعه يقينه إلى غد أكثر إشراقاً.. فرحم الأمة العربية والإسلامية لم يعقم.. إنه ولاَّد:

أنا ماض.. وإن ظمئت فللحق

معين من فيضه أمتاح

لست بالخائر الجبان ففي القلب

سكون، والنفس فيها ارتياح

لكأني أطير إن هبَّ للجنة

أزكى شذا، ومالي جناح

تشرب الأرض من دمائي فتخضر

وينمو مع الصلاح الصلاح

أنا ماض.. ولن أكون وجدا

ما على الصادق المغيور جُناح

فإذا مت فابعثوني شهيدا

يدفع المؤمنين حيث الفلاح

واكتبوا بالدماء إني شهيد

وإلى الله غدوتي والرواح

أمتي حية، ولكن إذا صار

كثيراً من المراض الصحاح

أنا ماض فاستبشري يا روابي

إن خلف الدجى يلوح الصباح

بهذه القصيدة الإيمانية الوطنية رفع رايته التي تأبى أن تُنكس.. مخاطبا عالمه.. مذكرا إياه بالماضي الجديد.. إن صوت حاضر يستحضر في تجاديفه كل مفردات اليقظة.. والنهوض من ربقة السبات.. الديوان ربيعي ربيعي لا مكان للخريف فيه لأن صوت حياة..أقول لشاعرنا عيسى بن علي جرابا وقد طوف بنا عبر ديوانه (ويورق الخريف) لقد أكدت بشعرك ومشاعرك أنك شاعر بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة ومعنى.. كنت رفيق درب.. أخذتنا حيث تريد.. وحيث كانت أمنيتنا معك شيقة، وموفقة.. رغم ما تحمله من آهات تحمل أنبل وأجمل ما ننتظره من أمنيات.

الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 - فاكس 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة