Culture Magazine Monday  19/05/2008 G Issue 248
فضاءات
الأثنين 14 ,جمادى الاولى 1429   العدد  248
 

الأدب الشعبي «3»
د. لمياء باعشن

 

 

قدمت الميثولوجيا الإغريقية لإنسان العصر الفيكتوري المفاتيح الحقيقية لماضي وجدانه الإنساني وكان هذا الارتباط بالأساطير الإغريقية والرومانية والعبرية هو الأساس الذي قام عليه الوجدان الجمعي لأمم الغرب التي اعتبرت تلك الأساطير نماذج حضارية لها جذور ضاربة في عمق تاريخ الإنسان ومن ثم كانت أصولاً رئيسية للثقافة الأوروبية المتحضرة.

وبنهاية القرن التاسع عشر لم يعد هنالك من يماري في أهمية التراث ودوره في منح الأمة هويتها وحمايتها من الذوبان في الأمم الأخرى.

ولما انتبه النقاد الأدبيون إلى تسرب التراث الشعبي إلى شرايين الأدب الرسمي، أفاقوا إلى طبيعة هذا التراث القابلة للغربلة وإعادة القراءة وتجديد التأويل والمعالجة بأساليب التحليل المستحدثة، فمضوا يربطون الإنتاج الأدبي الذي يبدعه الأفراد المتميزون القادرون على التعبير باللغة الأدبية المتفوقة بإنتاج الشعب القريب إلى حس العامة ولغتهم.

فكان للأدب الشعبي ولادة خامسة نسميها بالولادة المنهجية حيث اكتمل المنهج الفنلندي على يد آنتي ارني Antti Aarne في 1910 في الدليل الذي وضعه عن (أنماط الحكايات الخرافية وأنواع الحكايات الشعبية)، وتوالت بعدها دراسات المأثورات الشعبية ونقدها وتحليلها وعلى ضوء المدارس النقدية الحديثة.

فبعد التصنيف والتنصيص ومن ثم غربلة التراث وتصفيته، أنشأت له المعاهد وألفت فيه الكتب وأقيمت له صحافة خاصة وأصبحت له مدارس واتجهاهات معروفة حتى صار مجالاً هاماً في العلوم الإنسانية يليق بالأكاديميين الجادين الاشتغال به.

ومن أهم الدارسين الذين ربطوا بين الأدب والتراث الشعبي العالم الروسي فلاديمير بروب صاحب الكتاب الشهير (مورفولوجيا الحكاية الشعبية) الذي صدر في عام 1929.

وقد أثبتت دراساته الفلكلورية المقارنة من خلال التصنيف والتبويب أن هناك نوعاً من التوحد في الموتيفات الشعبية العالمية.

فبتحليل الوحدات البنائية للنص مع إبراز العلامة الحتمية بين بعض الوظائف المزدوجة يتشابه المأثور الشعبي غالباً في جميع أنحاء العالم لأن الظروف البيئية المتشابهة تخلق عادة مأثوراً شعبياً متماثلاً.

وأدى البحث في قوانين الصياغة العامة للقص الشعبي إلى أن النص والنص وحده أصبح محور المناهج النقدية الحديثة فكانت النصوص الشعبية مجالاً خصباً لتحليلات المدارس الشكلية والبنيوية.

ثم أن الظهور العفوي في بناء القصة الداخلي لرموز فنية بالغة الثراء والعمق أثار اهتمام محللو الروايات الشعبية من أتباع كارل جوستاف يونج C.G.Jung

الذين توصلوا إلى إن رمزية الحكاية تكشف حقائق نفسية عميقة مختفية في اللاوعي الجماعي، وإلى أن الرمز الأدبي في محاولته التغلغل في أعماق الإنسان الفرد إنما هو يستعين بموروث هذا الإنسان الفرد باعتباره عضواً في الجماعة للكشف عن طوايا نفسه المختبئة وراء عقله الواعي المتحكم في سلوكه وتعبيره وفكره.

وبذلك أنهت المدرسة السيكلوجية تلك الفردية المتميزة للمؤلف مرة أخرى بدمج وجدان الفرد صاحب الإبداع بوجدان الجماعة ككل، فمدلولات الرمز الذي يستخدمه لا توجد إلا في وجدان الجماعة التي ينتمي إليها الفرد وفي المعطيات الحميمة الخاصة بشعبه.

ثم كانت للأدب الشعبي ولادة سابعة نسميها الولادة الإحيائية وهي مرحلة استنهاض حركة إحياء التراث المهمل المتجه بالضرورة إلى الطمس والاندثار بغرض إعادة التعرف على طفولة وتطور وتحولات المخيلة البشرية.

ولكن إحياء التراث هنا ليس بمثابة حفظه من الضياع فقط، ولكنه يعني معايشته وإعادة إنتاجه لجعله حياً لا مجرد نماذج متحفية صماء أو شواهد قبور.

فاستحضار التراث لا يتحقق إلا بإعادة تشكيله وبإعادة إنتاجه بما يوائم المرحلة المعاصرة وباستثماره والنسج على منواله حتى تكون هنالك قيمة تفاعلية بين الماضي والحاضر.

والإحساس النوستالجي: أي الحنين إلى الماضي لا يكفي للارتباط ارتباطاً عضوياً وحقيقياً بالضمير الشعبي منذ لحظات تكوينه الأولى وعلى مدى التطور والتفاعل والتغير الذي تعرض له هذا الضمير من عصر إلى عصر.

إن الغرض الأساسي من وراء هذه الولادة الإحيائية هو إعادة إنتاج الماضي كلبنة لإنتاج المستقبل.

فمهم جداً ألا يتوقف الإنسان عن إنتاج الفلكلور وألا يموت التراث الشعبي بتأثير زهق المدنية المعاصرة والتطور التكنولوجي.

لذلك نجد مثلاً أن أمريكا تقيم احتفالاً قومياً سنوياً في مدينة جونزبورو Johns borough بولاية تينيسي Tenessee، وهذه المدينة هي مركز الجمعية الوطنية للرواية الشعبية National Storytelling Association حيث يجتمع الرواة التقليديين من مختلف الولايات ليحكوا على جمهور عريض حكايات قديمة وحديثة بغرض الحفاظ على الأساليب السردية لفن الروي.

لقد ظل الأدب الشعبي يتنقل شفاهاً وعبر قنوات متعددة وغير مرئية ولا مرصودة وكانت دواوينه هي صدور الرواة في المجالس العامة.

وقد لوحظ في هذه المرحلة أنه بالرغم من أن هذه الجماعة من الرواة يتوارثون مكنون التراث عن آبائهم، وبالرغم من أن اعتمادهم في ذلك يقوم في مجمله على التذكر، إلا أن عملية الاسترجاع لا تخلو من إعادة البناء بطريقة مبتكرة أكثر من الترديد الحرفي لكل ما تحمله الذاكرة.

لذلك فإن لهذا السرد الشفهي إستراتيجياته التي تتم عن طريق التحادث وجهاً لوجه بين أفراد المجموعة اعتماداً على الإشارات وتعبيرات الوجه والنظرات والنبرات الصوتية المختلفة، بالإضافة إلى ما تضمنه المواجهة من تجاوب فوري ومباشر مع مصدر المعلومة من كبار السن حاملي الحكمة المتوارثة وخلاصة التجربة الفردية.

فالنص المدون إذاً غير كاف للحفاظ على الأدب الشعبي بل إن التوارث الصحيح يجب أن يحيي عملية الثقافة الشفاهية بجميع عناصرها.

واليوم تعتبر مدارس النقد الأدبي المعاصر الأدب الشعبي نموذجاً أولياً يحتذى به الإبداع الأدبي لأنه ليس مجرد خطرفات مجتمعات بدائية فشلت في أن تنتج أدباً حقيقياً.

وهذه هي آخر وثامن ولادة للأدب الشعبي والتي يمكن أن نصفها بأنها ولادة تكريمية يتم فيها الاعتراف بأحقية الأدب الشعبي في أن يكون الأديم الحقيقي للأرض التي يقف عليها أدباء هذا العصر باعتباره حجر الأساس الذي يرتكز عليه البناء الفني الحديث والذي يترك بصماته على الإنتاج المعاصر لأننا لا يمكن أن ندرس نتاج الأفراد بعيداً عن معطيات المجموع.

إضافة إلى ذلك فإن التعرف على الأدب الشعبي يمهد لنمو ثقافي مميز فهو السبيل إلى تذوق الأدب في مراحله المتقدمة، وهذا التعرف سيؤدي إلى إحيائه وإعادة استخدامه فيعود ليتسرب مرة أخرى إلى شرايين المجتمع بطريقة تلقائية وغير منظورة ليصبح تدريجياً جزءاً من نسيج ثقافة شعب أي مجتمع وجزءاً رئيساً من مكونات فكره وأدبه.

والآن وقد توصلنا إلى فهم مشترك لمعنى كلمة شعبي معنى كلمة أدب ومفهوم الأدب الشعبي ومراحل تطوره وعلاقته بالآداب الإنسانية الأوروبية وغيرها، لا بد وأن نسأل: ماذا عن التراث الشعبي العربي عموماً والخليجي السعودي على وجه الخصوص؟ كان وضع التراث الشعبي في الشرق العربي حتى وقت قريب وضعاً مؤسفاً اتسم بندرة الدارسين الأكاديميين وقلة الخبرات الميدانية وغياب المنهج والنظرية العلمية والتطبيقية الميدانية التي عن طريقها تستقيم أجزاء ومكونات تركتنا الفلكلورية.

وبدأت تجربة جمع التراث وتأصيله من الرواة والحفظة متأخرة فقد كنا كغيرنا من الشعوب- وإن جاء رد فعلنا بعدهم بقرون- نماري في أهمية التراث ونماطل في جمعه ونتمادى في إهماله حتى خفي علينا كثير من معانيه وأسدل ستار الترك والنسيان على كثير من آثاره وظل مطموراً بعيداً كل البعد عن الدراسة الصحيحة والتحليل الجاد والنظرة الموضوعية.

وهذا ما أدركه الدكتور طه حسين في بحثه عن الأدب في جزيرة العرب حيث يقول: (ولسوء الحظ لا يعني العلماء في الشرق العربي بهذا الأدب الشعبي عناية ما، لأن لغته بعيدة عن القرآن، وأدباء المسلمين لم يستطيعوا أن ينظروا إلى الأدب على أنه غاية تطلب لنفسها، وإنما الأدب عندهم وسيلة إلى الدين.

*****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة