Culture Magazine Monday  21/04/2008 G Issue 244
فضاءات
الأثنين 15 ,ربيع الثاني 1429   العدد  244
 
(حقول طالبان) زهورها ألغام
ريمة الخميس

 

 

(حقول طالبان) هو العمل الأول - حد علمي - للسعودي عبد العزيز السليم، صدر عن دار فراديس في طبعته الأولى 2008م ولم يجد فرصته بعد في أسواق المملكة، يقع في 446 صفحة، ويضع هويته على واجهته: (رواية).

تجربة أولى بهذا الحجم المخيف فكيف تكون أعماله التالية؟ لكن وراء هذه الضخامة سبباً آخر يأتي من خارج سياق الضرورة الفنية، ربما يكون حمى التنافس بين شبابنا في الفترة الأخيرة والذي أغرق المكتبات بما سموه (رواية) باعتقاد لديهم أن الرواية هي أسهل أشكال الكتابة الفنية، وأكثرها اجتذاباً للقراء وتحقيقاً للشهرة متى ما زاد رصيدها من ثالوث الممنوعات: الجنس والدين والسياسة. ولهذا لجؤوا إلى تعرية صريحة حد الفجاجة في ظني أنها تخرج بأي عمل عن دائرة الفن إلى دوائر الابتذال أو الترخص.

ما تشهده الساحة الآن من فيض عارم لهذه الكتابات يضعنا على الفور أمام عديد من التساؤلات، أعرضها سريعاً لكي أعود إلى (حقول طالبان)، أو أمام خيار صعب: إما أن نحكم شروط وجماليات الرواية كما وضعها الذين تناولوا الظاهرة الإبداعية فلا نكون قد أنتجنا أكثر من رواية واحدة في أحسن الأحوال من كل هذا التراكم ، وإما أن نبتكر شروطاً جديدة له، نستخلصها منه، لتكون الرواية السعودية وحدها لها شروطها الخاصة والمختلفة عنها في كل بلاد الدنيا، إذ من الواضح أن معظم كتاب وكاتبات الرواية (الجديدة) (لنسمها كذلك) ليست لديهم أبسط فكرة عن شروط الرواية، أو ربما لم يقرؤوا كماً مناسباً من نماذجها يمنحهم خبرة المحاكاة.

لن تتسع المساحة لعرض تلك الشروط ومحاولة تطبيقها على (حقول طالبان)، أو حتى الشروط الأساسية (كالماهية والمهمة والأداة). ولهذا أكتفي بالمهمة وحدها لأضع ذلك التساؤل البسيط: لماذا الكتابة في هذا الشكل بالتحديد؟ وأعني (هدف الرواية).

الهدف أو الغاية أو المهمة يضعنا وسط فيض من الاجتهادات التي قد تبدو متضاربة بدرجة أو أخرى، بين أصحاب الوظيفة الاجتماعية للفن، وبين أنصار رفعة الفن وترفعه إلى أن يكون في ذاته غاية، فن من أجل الفن.. تلك المقولة التي وجدت جاذبيتها الساحرة منذ قدماء المنظرين فيما قبل الميلاد وحتى اليوم، وإلا فما هو الهدف الاجتماعي لمعزوفة تشجينا دون أن ندري سبباً محدداً لهذا الشجن؟، لكنه من العدل أن نعترف أن فناً من أجل ذاته لا ينبغي أن يكون مطروحاً إلا في ظرف تاريخي بلغ فيه الفن ذروته، ونحن ما زلنا بعيدين عن تلك الذروة..!

بحثاً عن الوظيفة الاجتماعية في ركام (الرواية) في الفترة الأخيرة نكتشف أن كل الأعمال - بلا استثناء - قد أمسكت بنموذج أو ظاهرة أو مجال أو موقع وراحت تعريه بلا هوادة، بل وتضع عدسات مكبرة على مفرداته الصغيرة لتقفز بها الى سطوح الدهشة.. هذا جميل لأن (الفضح) لأي عنصر سالب في حد ذاته دعوة الى الاجتناب أو العلاج أو التقويم أو المكافحة، فتكون الوظيفة الاجتماعية للعمل قد أعلنت عن وجودها، أو على الأقل هذا ما يقوله رجل مثل روجيه جارودي الفنان وحده هو الذي يطلعنا في كل ما مررنا به من ظواهر عادية على شيء لم ننتبه إليه بقصد الحض واتخاذ الموقف، لكن ما قاله جارودي يفترض أصلاً أن يكون عمل الفنان بالأساس فن اكتملت فيه كل شروط الفن.. لنعود إلى السؤال من جديد: هل (شبهة) الوظيفة الاجتماعية في الرواية السعودية الجديدة كفيلة بتدشينها كعمل فني؟ بغض النظر حتى عن (نية الكاتب) الخالصة في الدعوة إلى الإصلاح أو نيته التجارية التي تخطط للرواج ولو عبر الابتذال والإباحية، مع ملاحظة أن (الأخلاق) مبحث هام وخطير من مباحث العمل الفني.. لأبادر على الفور بالقول إن الوظيفة الاجتماعية وحدها لا تقيم عملاً فنياً لأن تلك الغاية يمكن أن يحققها على نحو أفضل وأكثر مصداقية واحتراماً بحث أكاديمي اجتماعي دون المساس بالنموذج المستهدف، وإذن فلا بد أن يجاور السؤال: ماذا يقول العمل مباشرة شقه الثاني: وكيف يقوله، فهذه الكيف هي التي تصنع الفن وتصقله..

أعود الى (حقول طالبان) 446 صفحة كيف أعرضها أو ألخصها، مع ذلك فليس أيسر من ذلك، فالكاتب لا يريد أن يقول من هذا العمل كله إلا التالي: مدارسنا الثانوية والمتوسطة بما فيها من تناقضات وتمزقات هي الحقول الخصبة التي لا يتخرج فيها العلماء والكتاب، وإنما النماذج الشائهة والمرتبكة الصالحة للعمل بين صفوف طالبان. هذا رأيه وهو حر فيه. المهم أن من يقرأ هذه الجمل التلخيصية لا يعود بحاجة الى الرجوع إلى الكتاب، وتلك كارثة تسحب من العمل قيمته الفنية. يقول الكاتب هذا الرأي من خلال رصد بالغ الدقة والتفصيل لكل ما يجري في إحدى المدارس، وينقله كما هو بكل تجاوزاته وبذاءته الحرفية دون أي تدخل.. يكاد الأمر يشبه (كاميرا) نسيها أحدهم وهي في حالة التشغيل فلم ينتبه إليها أحد، سجلت بالصوت والصورة كل شيء كما هو ثم أخذها أحدهم وقام بتفريغ الشريط صوتياً، وبوصف بالغ الدقة للصورة يعوض عن الرؤية .. 73 مشهداً التقطتها الكاميرا لمساجلات بين اثنين بارزين من أساتذة المدرسة هما اللذان يحركان كل الأحداث، أحدهما (عون الله الظهيري) المسئول إلى جانب عمله المفترض في التدريس (لا يقوم به) عن المصلى بالمدرسة، طوال الوقت لا يفعل شيئاً إلا أن ينظم المصلى وينظفها ويفيض في الشرح والتفسير للطلبة الذين تركوا الدراسة أيضاً والتفوا حوله. باختصار هو يمثل نهاية التطرف على جانب يقابله في نهاية التطرف على الجانب الآخر الأستاذ رياض العسجد، الرجل العصري المتمكن من ثقافته الغربية غالباً، والمالك لحدة من الذكاء والدهاء تفلح دائماً في إشعال غريمه عون الظهيري، أما الطلبة فلا يفهمون شيئاً من هذا أو ذاك، وغير قادرين على الاختيار أو الانحياز، انحيازهم للشيء ونقيضه رهن باللحظة التي تكون، ولذلك - في نهاية الكتاب - يشتبك الطلبة مع مدرسيهم في قتال أدمى الوجوه وكسر العظام دون أن يعرف أحدهم الى من ينحاز أو عن من يدافع، (ويلاحظ غياب الأستاذين العسجد والظهيري معاً من ساحة القتال)، كارثة تحولت فيها المدرسة إلى ساحة حرب شرسة قام الوصف بدور أدق عدسة تصوير بال Close up على القبضة التي تلكم في الجنب والذراع التي تلتف حول العنق، إلى أن تدخلت الشرطة لتفضها..، ثم انتقال من الكاتب إلى الصفحة الأخيرة والمشهد الأخير من العمل ليقول: في صباح اليوم التالي اصطف الطلاب يغالبون النوم في عيونهم تاركين أجسامهم تستسلم للتثاؤب والكسل يرددون: سارعي للمجد والعلياء، مجدي لخالق السماء، وارفعي الخفاق أخضر، يحمل النور المسطر. وينصرفون الى فصول الدراسة، ثم كلمة (انتهت) المعلنة لانتهاء (الرواية).

هنا قد أرى أن العمل يعكس وعياً وثقافة مكينة لكاتبه ما في ذلك شك، حتى الأسماء التي يذكرها من أعلام حياتنا الثقافية أسماء حقيقية تكشف عن متابعة للساحة الثقافية بشكل جيد، وعناوين كتب التفسير ومؤلفيها تؤكد تلك الثقافة وذلك الوعي، أما العمل نفسه - ورغم أهميته - بشكله هذا فليس رواية ككل الروايات التي تدافعت في الظهور مؤخراً. ولدي أسباب، قد يكون من بينها أن الزمن الحقيقي للقص هو نفسه الزمن الفني الأمر الذي يجعل الكتاب (مادة تسجيلية) تحتاج إلى إجراء (المونتاج) لتحويل المادة إلى عمل فني، ومنها أيضاً أن السرد التسجيلي اعتمد الترتيب الزمني لحظة بلحظة، ببداية سردية تقليدية فيما يكرس لفكرة (الحدوتة) التي لم تعد تصلح لرواية أو قصة قصيرة. وأظن أنه كان بوسعه أن يبدأ الرواية من أكثر اللحظات توهجاً، من معركة الطلبة، ثم في ارتدادات للوراء يستعيد المواقف التي حفزت ذلك القتال. هذا من شأنه أن يهيئ زمناً فنياً للرواية، مثلما من شأنه أن يهيئ للكاتب إمكانية نسج عالم فني لعمله، ذلك العالم الذي لا تصنعه الحكاية وإنما وضع المواقف المختارة في تقابل درامي يمثل العصب للعمل الفني.

الكتاب حقيقة يستحق احتفاءً خاصاً، هو جدير به كمادة تسجيلية لرواية، لكنه ليس رواية، مادة تسجيلية لو أسقطنا منها مائة صفحة لما اختل شيء.

يقولون إن لكل كاتب عملاً وحيداً يظل طوال حياته يحور فيه تحت عناوين جديدة، ولا أظن أن (حقول طالبان) ستكون هي ذلك العمل الوحيد الذي سيعاد تحت عناوين أخرى.

- الرياض reema.alk.2008@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة