Culture Magazine Monday  21/04/2008 G Issue 244
تشكيل
الأثنين 15 ,ربيع الثاني 1429   العدد  244
 

بإصرار مؤطر بالقناعة
الريس يواجه موجات الفن الحديث باستلهامه الموروث

 

 

إعداد : محمد المنيف

رغم التوجه الحديث في مجال الفنون واندفاع الكثير من التشكيليين نحو موجة التجديد والحداثة التي وصلت ببعض قاعات العرض إلى تبني أعمال مفاهيمية وفراغية تنطلق من الفكرة السريعة الذوبان اعتماداً على لحظة إثارة الدهشة المؤقتة لتنتهي بنهاية المرور بها وإزالتها من الموقع، هذا التوجه الغربي الذي يسعى من خلالها المنظمون لمثل تلك المعارض إلى طمس الثقافات الأصيلة المتكئة على إرث بصري ثقافي عميق الجذور والوصول بالفن إلى مرحلة تعميم فكر وثقافة لا أصول لها لم يثن الكثير من التشكيليين عن تمسكهم بمعطياتهم ومصادر إلهامهم النابعة من محيطهم بكل تفاصيله وكنوزه الغنية بمحرضات الإبداع على العطاء.

بحث في أعماق الموروث

قبل أيام افتتح في قاليري حوار بالرياض معرض للفنان عبد القادر الريس الذي يُعد أحد رموز التشكيل الإماراتي نتيجة خصوصية طرحة وتعامله مع منجزه موضوعاً وتقنية استطاع بها وبإصراره على إثبات أهميتها أن يوجد له موقعاً في قلب المتلقي في وقت تكالبت فيه الاتجاهات المعاصرة على قاعات العرض في الشارقة ودبي وأبو ظبي، ومع هذا لم تثنه هذه الموجة عن السباحة بثقة الغواص الذي حدد موقع محاراته ولؤلؤه ليدفعنا إلى قراءة نصوصه البصرية العائدة من مرجعياته الثقافية والبيئية ليمنحنا فيها فرصة التأمل في جماليات ذات طبيعة جذابة بشفافيتها الحالمة، أتقن الاشتغال الفني بها عبر جسور اللون كمنظومة دلالية ذات حلقات متتابعة لا يمكن أن تغفلها العين أو يتجاهلها العقل جعل منها منهجاً يستند فيه على بلاغة المدرك، في معالجة عناصر اللوحة بعيداً عن التطرف الشكلاني أو تبعية الواقعية التسجيلية الساذجة، فالريس يقترب من الحداثة دون إفراط على صعيد الرؤى والمعالجة اللونية من خلال تنوع المفردات البصرية في فضاء اللوحة لديه.

يقدم الريس في لوحاته خطاباً إبداعياً بوصفها مقترحات جمالية، بإيقاع متنامٍ يجمع فيها بين جمال اللوحة شكلاً وبين تعبيرها عن الهمّ الإنساني، عبر إشارات إنشائية يسترجعها من مختزل تصويري يعيد صياغته في مختبر نسقه اللوني أسس به مناخاً فنياً خاصاً.

نشاهد في لوحاته سعيه إلى الإشارة أو العلامة والدلالات بمعالجات دقيقة تصل إلى مراحل غاية في التبسيط بعفوية محكومة بخبرات طويلة، تنطوي على قيمة تكتيكية تتناسب طردياً مع المعنى، إيحاءً أكثر منه مباشراً للعين، خصوصاً في أعماله التجريدية التي يستخلص رموزها من مرجعيته التراثية التي ينهل منها ثيماته الرئيسة، تارة يرمز لها بالحرف وتارة عبر تدرجات اللون وتأويلاته وأخرى بموتيف شعبي اقتنصه من الأبواب الشعبية والنقوش الجصية، وأحياناً كثيرة يكتفي باللون كعنصر محرك لجسد اللوحة بإظهاره قوياً متضاداً أو متجانساً شفافاً راقصاً لا تحده أُطر أو يقف دونه حواجز.

تحرُّك ديناميكي حر

تتسم أعمال الفنان عبد القادر الريس بقوة الأداء وحرية التعامل مع العناصر دون قيود، في أعماله الرمزية أو التجريدية وحتى الواقعية التي نراها بشكل استاطيقي أكثر منها موضوعاً مباشراً فوتوغرافي الروح والتكوين حيث يمنحها حرية الامتداد في أي اتجاه يراه مريحاً، منسجماً، ومتزناً.

يقدم الفنان عبد القادر الريس في أعماله الأخيرة توافقاً مدروساً وكأنه يتعامل مع نص شعري له قافية ووزن، بمعالجات تكنيكية مع أنساق اللوحة بمغازلة حذرة مع حداثة مشفوعة بحس مرهف مهيمناً بها على مفرداته التي ينتقيها بعناية وحرص شديدين موغل بهم في مخيلته المتكئة على مختزل بصري قوامه تراث غني، مليء بالكنوز، فكان له أن يختار منها ما يشاء وأن يقدمه كيف يشاء بما وهب من قدرة على تحويلها من صور ثابتة إلى إبداع لا يمكن أن يزول من ذاكرة المشاهد.

تُحرِّك أعمال الفنان الريس في ذهن المتلقي الأحاسيس، والاستبطان والتأمل في تفاصيلها من خلال ما يمكن مزجه عند مشاهدتها بين الإدراك الحسي بالعقلي، والربط بين جوهر الفن الذي يجمع هذين الطرفين وبين جوهر العلم الذي يعني الفلسفة، بتحليل متقن لجمال واقع الطبيعة، الفردي منها والجمعي ليصل بنا إلى الولوج في أبعد مدى في مساحات الجمال الذاتي والموضوعي.

لقد حقق الفنان الريس في معرضه القول إن محاكاة الطبيعة في الفنون الحديثة المعاصرة بشكل فوتوغرافي ليست هدف الفنان، بل إن الهدف يأتي في كيفية مزاوجة المدركات البصرية التي يمثلها الواقع (الطبيعة) بالفكرة (المتخيل)، فكان له الوصول إلى التأكيد على أن الفن يمكن أن يكون غاية ووسيلة في نفس الوقت.

تداعيات اللون وإقحام للحرف

الإيقاعات اللونية ورشاقة التعامل مع الكتلة والمساحة التي اعتمدها الفنان عبد القادر الريس خصوصاً التجريدية منها أو الرمزية تدفعنا للعودة إلى ما وراء أدواته، اللون، الخط، والكتلة، التي تجمع فينا الحقيقتين الزمانية والمشهدية لنستعيد شكلاً لم يكن هامشياً في الذاكرة بقدر ما يؤكد حضوره في مثل هذه الحال.. مع ما يمكن الإشارة إليه حول صفة التكرار في بعض الأعمال التي اختصرت للحضور وقت التأمل والنظر في الثلاثين عملاً التي ازدانت بها قاعة حوار بالرياض.. وإذا كنا مأسورين بما أحدثته الدهشة الأولى المستفزة لمشاعر الإعجاب الذي لا ينتهي فإننا حينما نعود للتفاصيل والتحليل البصري لبعض الأعمال التي توحي بالسكون تارة وبالحركة تارة أخرى بتفاعل دون انفعال، نجد أن الفنان استطاع بكثافة مساحات اللون أن يشكِّل الكتلة لإيجاد مضامين حسية لمظاهر واقعية يستشعرها المتلقي ويأولها كيف يشاء.. هذه الإيحاءات اللونية كانت كافية جداً ببساطتها واختزالها دون إقحام للحرف العربي في البعض منها إذ جاء مفروضاً دون انسجام مع التكوين العام للوحة طرح تساؤلاً كبيراً لدى الكثير في ما يعنيه بهذا الوجود للحرف في وقت كانت فيه اللوحة مكتملة البناء، ومع ذلك تبقى أعمال الفنان الريس نموذجاً ناصع البياض لإبداع أصيل نبت في أرض خصبة، وظف به الشكل والمضمون.. مؤكداً قدرته على أن يلفت نظر العالم إلى منابع الإبداع والجمال في بيئتنا الشرقية.. كاسراً بتلك الأعمال ما تعودنا عليه من تكنيك أكاديمي سمج، واضعاً لنفسه أسلوباً خاصاً به يستلهم الإرث الخليجي كبيئة ينطلق بها من اللحظة التي تشكل مفاتيح مستلهماته، جاعلاً من اللون عنصراً مؤثراً له كيانه، فأصبح أسلوباً تعبيرياً خاصاً به من بين الفنانين الخليجيين عامة والإماراتيين على وجه الخصوص.

سيرة ومسيرة

قطع الفنان عبد القادر الريس شوطاً كبيراً في مسيرته التي سجل لها التاريخ سيرته الإبداعية محلياً وعربياً ودولياً فقد بدأ كما يقول متأثراً بالانطباعية إلى أن طور تكنيكه من خلال اكتساب الخبرات التي شملت الواقعية والتجريد بنجاح منحه اهتمام المتاحف العالمية والعربية منها متحف الدوحة، ومتحف عمان، ومتحف الفن المعاصر في الكويت، ومتحف الشارقة للفنون، ومتحف الفن الحديث في نيودلهي، ومتحف شنغهاي للفن المعاصر.. والريس عضو في جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، له مشاركات في كثير من المعارض التي أقيمت في الإمارات ودول الخليج إلى جانب معارض خارجية منها: مهرجان الشباب العربي في ليبيا، ومعرض سدني، معرض أثينا، وغيرها من المعارض والمسابقات التي أهلته للفوز بجوائز كثيرة غير أن حصوله على الجائزة الأولى في معرض الشباب 1975 كان بمثابة الانطلاقة الحقيقية لمسيرته التشكيلية، والجائزة الأولى بمعرض الربيع الثاني في أبو ظبي، والجائزة الأولى بمعرض الإمارات السادس، والجائزة الأولى بمعرض الإمارات الأول، وجائزة الدانة الذهبية في الكويت، والجائزة الأولى في مسابقة العويس، والجائزة الأولى بمعرض الإمارات في عيون أبنائها، وجائزة السعفة الذهبية.. كما أقام عدداً من المعارض الشخصية كانت محطاتها في: بيروت، براغ، تشيكوسلوفاكيا، واشنطن، ألمانيا، الإمارات، الكويت، وقطر، السعودية.

monif@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة