Culture Magazine Thursday  16/04/2009 G Issue 279
فضاءات
الخميس 20 ,ربيع الثاني 1430   العدد  279
دلالات (الحسية الجسدية) في بعض أعمال صنع الله إبراهيم
علي الدميني

 

يشير الدكتور غالي شكري، في كتابه الهام (أزمة الجنس في الرواية العربية) - بالرغم من نبرته الأيديولوجية العالية- إلى أن (الجنس) في المجتمعات البدائية لم يكن مشكلة بحد ذاته، وإنما كان استجابة طبيعية للرغبة في استمرار الحياة الكامنة في النبات والأشجار والإنسان، وأنه لم يصبح إشكالية إلا في مرحلة العبودية وما بعدها من المراحل، حيث مارس القوي عنفه ضد الأضعف، ونال المرأة من ذلك النصيب الأكبر، حتى اليوم.

لكن الأمر قد تبدل وخاصة في الدول المتقدمة، جراء المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية فأصبح تصوير (الجنس) في آدابها الحديثة تجسيداً للكثير من معاني الحياة وفي مقدمتها الحرية، وتم التعبير عنه - كما يقول د. غالي شكري - (في إطار رمزي يسمو به إلى مستوى الرمز، فيما أدبنا العربي ما يزال في تعبيره عن هذه الظاهرة يقتصر على دلالاته الاجتماعية أو النفسية).

اشتغل صنع الله على تصوير الحسية الجسدية في معظم أعماله، كغيره من الروائيين، وبالرغم من تمظهراتها العديدة كتعبير عن الحاجة البيولوجية (لا الوجدانية) للإنسان، إلا أنه كان يقوم بتوظيفها كحامل دلالي للتعبير عن أزمة ما أو مرموز ما، ويمكننا أن نتوقف عند بعض أشكال ذلك التوظيف، فيما يلي:

* العادة السرية والعلاقات المثلية: وقد ظهر التعبير عن جزئها الأول في أولى رواياته (تلك الرائحة) كدلالة على غياب الحرية وعنف سلطة القهر، كما برزت تلك الحسية الجسدية كعلاقات شاذة، اضطر لممارستها القابعون طويلاً في السجون، وأبرز أمثلتها ما حفلت به رواية (شرف).

العلاقات العفوية والمستحيلة: ويمكن النظر إلى تفاصيلها في روايته (نجمة أغسطس)، حين تنشأ علاقات إنسانية طبيعية بين بعض العاملين المصريين والموظفات الروسيات في إدارة إنشاء السد العالي، لكنها لا تبلغ ذروتها العاطفية ولا الحسية، فيعبر عن ذلك أحد أبطال النص بقوله (هذا آخر ما يجب التفكير فيه، وإلا وجدت نفسك في القاهرة، بينما ستوضع الروسية على أول طائرة ذاهبة إلى موسكو) (ص 17)!

وهنا تأخذ العلاقات الحسية المستحيلة، أبعادها الرمزية للتعبير عن عدم إمكانية قيام العلاقات الطبيعية بين المجتمعين، المصري والسوفيتي، لأن قوى ال(كي جي بي) السوفيتية والمباحث المصرية عملتا معاً (كل بطريقته) على إعاقة إمكانية قيام تلك العلاقات بين الطرفين.

الحسية كحامل فني ودلالي: في العديد من روايات صنع الله، يمكننا أن نرى من خلال القراءة الأولى بأن الروائي حين اشتغل على المادة الوثائقية (التاريخ، السيرة)، استشعر ثقل متنها فأجال النظر في ممكنات الحيل الفنية العديدة، التي يمكن بواسطتها التخفّف من كثافتها، فعمد إلى توظيف (الحسية الجسدية) لتعمل كعنصر تشويقي ودلالي، من أجل تفتيت تلك الكثافة!

غير أن الأمر لا يقف عند ذلك، بل يأخذ أبعاداً دلالية أعمق، يمكننا الإشارة إليها من خلال بعض أعماله:

في رواية (بيروت... بيروت) اتخذ (الفلم التسجيلي) لخفايا الحرب الأهلية اللبنانية موقعه المركزي في بنية خطاب النص، فبدا لنا أن الروائي وقد استشعر (ثقل) مادة الفلم كنص مقروء، قد عمد للتخفيف من تلك الكثافة بتوظيف علاقة (السارد) الجسدية مع (لميا الصباغ) زوجة صاحب دار النشر التي كان يأمل بعلاقته معها أن تساعده في نشر كتابه!

لكننا سنرى أنه لن يقف أمام ذلك فقط، بل سيأخذنا صوب منطقة أشد خصوبة ترينا أن العلاقة الجسدية مع (لميا)، كانت تنتهي دائماً إلى عدم إمكانية الاكتمال من جانب السارد تحديداً!

لماذا يحدث ذلك؟

هنا نضع أيدينا على مكمن ترميزها كعلاقة بين طرفين يحمل كل منهما ثقافة وموقفاً سياسياً مناقضاً للآخر، فتكشف الرواية عن قيم تعيشها (لميا) عبر استغلالها للحسية الجسدية لبلوغ أهداف أخرى، من خلال علاقتها المثلية بصاحبتها، ومن خلال العلاقة بسارد النص، حين تبوح له في حمأة مقدمات العلاقة الحسية، بأن صاحب دار النشر (زوجها) قد وافق أخيراً على طباعة كتابه، ولكن بواسطة دار نشر أخرى ستطبعه وتوزعه فقط على إخواننا العرب في داخل إسرائيل!! (وهنا بالطبع تنكسر العلاقة الحسية والثقافية معاً)!!

وفي رواية (وردة)، نتعرف على نشؤ علاقات إنسانية تبدو طبيعية بين امرأة تقود مجموعة من مقاتلي الجبهة الشعبية في معارك (ظفار) في عمان، وبين أحد أفراد المجموعة، حتى تطورت وجدانياً وجسدياً على مدى عامين في ساحة الحرب. وحينما توجا تلك العلاقة بالزواج، فإنه لم يتحقق إلا بعد الهزيمة وهما يجوبان أطراف صحراء الربع الخالي الشرقية، كدلالة رمزية على عدم إمكانية تحقق أحلامهما الأيديولوجية والحركية في الواقع!

وحيث تاهت خطوات بطلي الرواية في الصحراء، فإن السارد الذي قام بجمع مادته التاريخية للكتابة عن تلك التجربة، عبر ولايات سلطنة عمان، تقوده خطواته إلى التعرف على ابنة بطلة (الرواية)، وتتويج ذلك بإقامة علاقة جسدية معها!

قد تبدو هذه الحادثة (نشازاً) على صعيد بنية السرد ومرجعيات النص الاجتماعية، ولكن المتخيل السردي قد أحال الفتاة - التي لم تعرف أبويها - (إلى رمز) من خلال إصرارها على لقاء سارد النص، ومعاشرته، كدلالة على رغبتها الدفينة في إعادة تخصيب الأحلام التي حملها والداها، وماتا دون تحقيقها، حين كانا يعبران مفاوز الدروب العصية أو المستحيلة!

أما رواية (العمامة والقبعة) التي تشاكل عدداً من الروايات العربية التي استخدمت تصوير (الجنس) كمعادل رمزي للتعبير عن العلاقة المعقدة بين الشرق (العربي) والغرب (عصفور من الشرق، الحي اللاتيني، موسم الهجرة إلى الشمال، وسواها)، فإن صنع الله قد وظفه هنا وفق أبعاد وجودية، وحضارية، وسياسية.

ففي البعد الأول، يمكن قراءة الحسية الجسدية التي نشأت بين السارد (مصري) والفرنسية (بولين) - في رواية العمامة والقبعة - كرمز وجودي مرتبط بالبشر (المرأة والرجل) واحتياج كل منهما إلى الآخر، لإغناء معنى الحياة والتواصل، بمعزل عن اللون والجنس واللغة والمكان، بيد أن قوى الغلبة والسيطرة، التي تتلبس بمشروعات التوسع وهيمنة القوي على الأضعف، كانت دائماً تدمر إمكانات قيام تلك العلاقات الطبيعية بين البشر.

أما في المعنى الحضاري، فإن سارد الحكاية (مصري)، تلميذ الجبرتي، والحاصل على بعض المعرفة باللغة الفرنسية، يغدو من خلال (التسمية) رمزاً ل(مصر) في تلك المرحلة، التي كانت تبحث إبّانها عن ذاتها، متململة ما بين خياري إعادة استيلاد الماضي، أو البحث عن أفق آخر عبر عمليات التلاقح مع الغرب.

لذلك يمكن النظر إلى أن سارد النص الذي لم يقم أية علاقات جسدية حسية مع أية امرأة مصرية، باستثناء العلاقة العابثة والميكانيكية مع (أمة الجبرتي) قد وصل إلى قناعة مؤداها: أن (الجنس) كرمز للخصب والولادة والنماء الحضاري، لم يعد ممكناً في هذا الفضاء المحلي مهما كانت عناصره! وأن المآل الطبيعي لهذه التطلعات يكمن في العلاقة بالغرب، وجرى تصوير هذا التشوف عبر علاقة السارد (مصري) جسدياً بالمرأة الفرنسية، مرموز تلك القيم.

ولكن المعنى السياسي والاستعماري هنا، معبراً عنه، من خلال موضوعة الجسد، قد أسفر عن وجهه حين انتزع (نابليون) المرأة من عشيقها المصري، لتصبح واحدة من محظياته، وتجلى ذلك النزوع الاستعماري في ممارساته، حين خان مبادئ الثورة الفرنسية (العدل والمساواة والإخاء) واستسلم لمكوناته الاستعمارية عبر ما قام به ضد الشعب المصري والفلسطيني من انتهاكات ومذابح، تم تتويجها بمقتل العلماء، والذهاب إلى استباحة معاقلهم بالخيل، في الأزهر الشريف.

إن علاقة سارد الرواية (مصري) مع الفرنسية (بولين) في تشوفها إلى أن تكون رمزاً لتجسير إقامة علاقة إنسانية طبيعية بين شخصين من حضارتين مختلفتين، مثلما في مآلات إجهاضها، لم تكن مجرد علاقة جسدية بينهما وحسب،، وإنما هي خلاصة رمزية شديدة التعبير عن عالمين، لم يجدا بعد أفقاً للتواصل المثمر ولا للتعايش المتكافئ، لذلك انكسرت العلاقة في مهدها، مثلما انكسر (نابليون) وغادر مصر، وتركها لغزاة آخرين أشد قسوة.

ولكل هذا، فإن توظيف الحسية الجسدية في الرواية قد عمل على تعزير ما يراه (صنع الله إبراهيم) من أن الحملة الفرنسية على مصر لم تكن علامة على لحظة تماس تنويري وحضاري بين طرفين، وإنما كانت حلقة ضمن حلقات المد الاستعماري على دول العالم الثالث، المثقل بفقره المعرفي وصراعات أحماله الثقافية الفائضة عن الحاجة، والتي ستظل -ولله الحمد- مستمرة، ليس إلى الغد وحسب، وإنما إلى ما بعده!!

*جزء من ورقة طويلة بعنوان: صنع الله إبراهيم (الرواية - التاريخ - الجسد)


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة