Culture Magazine Monday  19/01/2009 G Issue 267
فضاءات
الأثنين 22 ,محرم 1430   العدد  267
الذاكرة الأدبية والهوية الثقافية
أ.د. صالح الهادي رمضان

 

أصبح التفكير في الذاكرة الثقافية عامة وفي الذاكرة الأدبية خاصة إحدى القضايا الكبرى في الدراسات الإنسانية الراهنة وذلك من جهتين مختلفتين: أولاً من جهة صلة الذاكرة بالنشاط الحاسوبي وما يتحدى به الذكاء الافتراضي أو الاصطناعي عمل الذاكرة التقليدي وأشكال إنتاج المعرفة والتواصل، وثانياً من جهة التطور المذهل الذي تشهده اللسانيات الإدراكية ومختلف مجالات تطبيقها في العلوم الرياضية والطبية وفي تكنولوجيا المعلومات والاتصال بصورة عامة.

وقد غدت الذاكرة موضوعاً من الموضوعات الناظمة للفكر الإنساني المعاصر بصفتها قضية من قضايا الحوار مع الغير وأسلوباً من أساليب التعبير عن الاختلاف الثقافي.

ولكن الحديث عن الذاكرة في الثقافة العربية كثيراً ما ينصرف عن هذه المشاغل المهمة المفيدة لحياتنا المعاصرة ليحتفي بقضايا هامشية بل كثيراً ما يصطبغ برؤية دفاعية تبريرية غير مجدية في أغلب الأحيان.

وربما نزع الحديث عن الذاكرة عند الكثيرين منزعاً عاطفياً بكائياً في أسلوب من التأفف والتحسر على ماض كان فيه المجتمع يحتفل بالذاكرة الثقافية في أدق دقائقها؟ وربما غلب التفجع على الماضي التطلع إلى المستقبل والإسهام الحقيقي الإيجابي في تطوير اللغة وضمان حياتها الاجتماعية وازدهار استعمالها.

ولئن كنا لا نشاطر هذه الرؤية تشاؤمها المحبط فإننا نرى كذلك أن الذاكرة الأدبية أخذت في كثير من الأعمال الأدبية وفي مواطن كثيرة من استعمال اللغة العربية تفقد الاقتدار التعبيري الضروري في كل إنتاج فني مفيد، وفي كل تواصل حامل طابع الهوية الثقافية، ونعني بالاقتدار التعبيري دقائق التعبير عند الحديث عن مختلف العوالم المحايثة للمتخاطبين وعند تمثل المدركات الحسية والمعنوية من أمكنة وأزمنة وأعمال وأحوال ويعني الاقتدار اللغوي أيضاً السيطرة على العناصر اللغوية الذهنية المتفاعلة في وجود المتكلم النفسي والاجتماعي، وعند تشغيله لمختلف وسائل الإدراك؟

بماذا ندرك الأشياء وما بينها من علاقات؟ كيف ننظم المدركات من حولنا؟ كيف نصنفها ونصل إلى إدراك قوانينها الكلية؟.

لاشك في أننا ندرك كل هذه الأمور التي حولنا بالذاكرة الأدبية أي الذاكرة التي تستخدم وسائل المحاكاة بالمعنى الأرسطي للعبارة وبالتمثيل والإنشاء؟.

ندرك الأشياء بالذاكرة لأننا لابد أن نقيس كل شيء من الأشياء التي ندرك بما نعرف من النماذج الشبيهة به أو المنتمية إلى أجناس قريبة منه متاخمة له، نقيسها باستعمال التشبيه والتفضيل والمقارنة التضخيم والتقليل وسائر الأعمال القولية التي نستعملها في خطابنا اليومي وهي من صلب الأدب أو قل إنها تستعمل وظائفه استعمالاً حيوياً تفاعلياً.. وهذه الذاكرة الأدبية نوعان كبيران:

1- ذاكرة اللغة بمختلف معاجمها وسجلاتها التعبيرية وتراكيبها وأنظمتها الدلالية وما يسمى عادة بالتقاليد القولية. وهي تقاليد تمثل نسبة لا بأس بها من الأقوال اليومية في كلامنا. هذه الأقوال والاستعارات النائمة (التي نستعملها في الكلام اليومي دون أن نتفطن إلى أنها استعارة) والعبارات المسكوكة الجاهزة (رغم أنفه - أهلاً وسهلاً) هي ذاكرة اللغة ونسغها المتجدد أو هي خلايا حية تتوالد يومياً في مختلف ضروب التواصل بين الأفراد والجماعات.

وتظهر هذه الطاقة الأدبية مثلاً في استعمال الألوان على وجه المجاز للتعبير عن الدلالات المتعاقد عليها في المجتمع (أبيض للإيجابي من الأشياء وأسود للسلبي منها مثلاً في تعبيرنا المعاصر وربما الإيجابي في الاستعارات القديمة) أو في الاستعارات التوجيهية كاستعمال جهة الفوق للدلالة على الأفضلية والتحت للدلالة على الدونية، نقول للتعبير عن الاستجابة وتلبية الطلب (على رأسي).

وهذه الذاكرة لا تحتاج إلى مؤسسة تعليمية لتنميها وتبنيها بل يكتسبها المتكلم اكتساباً اجتماعياً، تصبح جزءاً من سلوكه اللغوي، ولكنها معرضة في العصر الحديث للاهتراء والتكلس والتقلص لأن المؤسسات التي كانت في العصور الماضية تسهر على تربية هذه الملكة أو هذا الاقتدار اللغوي تتلاشى وظائفها في مجتمعاتنا الحديثة تدريجياً.

أما ثاني أنواع هذه الذاكرة فهي الرصيد الأدبي المشترك بين المتكلمين بنفس اللغة: وهذا الأدب ليس بالضرورة ذلك الإنتاج الفني المصوغ في أجناس أدبية معترف بها ضمن مؤسسة النقد والكتابة. إنما يتسع مدلول هذه الذاكرة ليشمل قدرة الأفراد والمجتمعات على تنظيم حياتهم اللغوية اليومية والسيطرة على النشاط الفكري والنفسي بواسطة اللغة وعلى تسمية الأشياء التي يدركونها ويستعملونها وينتجونها وينظمونها في أنواع وأنماط وأشكال من الاستعمال والاستهلاك المادي والمعنوي على السواء وتمثل هذه القدرة بصورة أو بأخرى أدب الأمة وأساليب تواصلها في مختلف مقامات التواصل الأسري والاجتماعي والاقتصادي والمهني والمدرسي وغيرها من هذه المقامات. وهي بعبارة بسيطة تلك الكفاية الثقافية أو القدرة على التواصل في ظروف تحفظ للمجتمع توازنه وقدرته على التأثير الإيجابي فيما يستعمل من الأعمال القولية.

إن هذين النوعين من الذاكرة الأدبية، الذاكرة في دلالتها المتسعة، والذاكرة في دلالتها الأدبية الضيقة هما اللذان يمدان الهوية الثقافية بما تحتاج إليه من المقومات الضامنة لاستمرار التفاعل بين الأجيال، المقومات المعبرة عن خصوصية اللغة وعبقريتها وعما يميزها من سائر اللغات والثقافات. ولا شك في أن مختلف مؤسسات المجتمع هي وحدها القادرة على تأسيس التربية اللغوية الضامنة لهذه الهوية، في آداب التواصل والتخاطب وفي التعليم والتكوين وفي سائر مظاهر التمدّن الاجتماعي والأنس البشري وفي صلة المجتمع بالآخر.

الرياض

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة