Culture Magazine Thursday  19/03/2009 G Issue 275
فضاءات
الخميس 22 ,ربيع الاول 1430   العدد  275
من ذكريات حلق الوادي.. ويحيى توفيق

 

وحلق الوادي يا من لا تعرفونها: ضاحية غير بعيدة من تونس العاصمة تديرتها قبل أكثر من ثلاثين عاماً يوم هاجرت إلى تونس في رحلة سميتها الهجرة الثانية؛ أما الأولى فقد كانت إلى بلاد الفرنجة أي قبل تونس بخمس سنين، ما الذي ذكّرني بتونس وأنا ألوذ بداري في مصيف (الهدا) في ليلة باردة من ليالي الشتاء لا أسمع إلا صفير الرياح وصرير النوافذ والأبواب أعيش مع الكتب، ومدفأة الحطب وكأس معها يسمى زنجبيلا.. يا الله ما ألذّ عزّة وعزلة النسّاك التي كنّا نقرأ عنها ونضحك منها.

كنت حدثتكم في مقال سابق عن أكثر كتبي وأنها لا تعيش معي فأنا وإياها كالعشاق الذين حيل بينهم وبين مايشتهون بعضها داخل كراتين بدار الأسرة بالطائف في غرفة دونها غرف في ظلمات ثلاث وكتب أخرى قد نسيتها في شقة لي بضاحية حلق الوادي أذكرها كلما سمعت أغنية (بساط الريح) لفريد الأطرش تذكّروا هذه الأغنية الخالدة، وطائفة أخرى من كتبي في محافظة اللاذقية على حدود تركيا، أو تخوم بلاد الروم كما كان يسميها المؤرخون القدامى.

هكذا كتبي وقصتي معها أو غصتي!! نسيت أن أقول لكم وشيء منها بقي في منزلي القديم المطلّ على نادي سباق الخيل الأول في حيّ الملز قرب شارع الأحساء بالرياض.

لماذا هذه المقدمة ؟!! لأصل منها إلى ما أريد الحديث عنه معكم في هذا المقال.

الشتاء موسم القراءة عندي حيث أطيل الاعتكاف، لا أخالط الناس إلا لماماً وهل بمصيف الهدا في فصل الشتاء مجتمع أو ناس؟! لهذا أحببت هذا الجو لأنه يجبرني على البقاء ويحفزني على المطالعة والتأمل والصبر والتحمّل.

كان من بين الكتب التي بقيت بين يدي بضع أجزاء متفرقة وكتب مختلفة وشيء من شعر قليل، تناولت البارحة واحداً منها فوجدته (ديوان سمراء) للشاعر الذي كلما ذكرت اسمه أو رأيت رسمه أشعر بتأنيب الضمير ووخز الوجدان، هذا الإنسان الكبير بحق لم يعطَ بعض حقه في الدراسات الأدبية فقد كنت أُعجب بمقطوعاته التي ينشرها في صحيفة المدينة المنورة.. وأتمنى لو تجمع وتطبع ليتاح لعشاق الشعر الجميل حفظه من الضياع ولمّه من التشتت.

ولما يسّر الله وأظهر الشاعر طائفة صالحة من دواوينه تلقفها القرّاء بشوق، واستقبلها المحبون بقبول حسن, وكفّلها بعضهم دولاب قرب جدار كلما دخل عليها وجد حولها غبار.

أعود إلى ديوان سمراء وأضرب صفحاً عن عنوانه ووسمه فقد عرف الناس قصة هذه القصيدة وحفظوا مقاطع كثيرة منها لأنها غُنّيت واشتهرت وشرقت وغربت، النسخة التي بين يدي ليس عليها تاريخ الطبع ولا جهة النشر كنت قرأتها منذ زمن وأشّرت وعلّمت بقلم الرصاص على بعض المقطوعات؛ لأن ليس لها ثبت بالمحتويات وأرقام الصفحات...

ما علينا من هذا وإن كان دارسو علم المكتبات والتوثيق والتوريق يلاحظون ذلك ويعدون هذه السطور من عزم الأمور.

أعود للديوان فهو يقع في (175) صفحة قد طبع على ورق جيد صقيل وحرف مشكول واضح جميل أما القصائد فقد أحصيتها ورصدتها عدّا فقد بلغت (66) ما بين مقطوعة ورباعية وقصيدة وتحية وصور وصفية، أزعم أني قد تلوت أكثرها وتأملت بعضها وتفحصت أقلها ولعلها..

الآن دعونا ندلف إلى الشاعر جالساً في إيوانه متأبطين معنا ديوانه في الصفحة 14 قصيدة عنوانها - أشجان - يقول فيها :

كَلفٌ أنْ تحبَّ منْ لا يُحِسُّ

أنْتَ تأسُو جراحه وهوَ يقسُو

وهَوَانٌ أنْ تستَنِيَم لغرٍ

بكَ يلهُو فلا يصونُ ويأْسُو

فتَرفَّعْ إن شِئتَ في العيشِ عِزّاً

عن هوى النفس. .لا تذلُّك نَفْسُ

وفي صفحة 46 يصور الشاعر حالة الإنتظار بجوار الهاتف استعداداً لتلقي مهاتفة منها وما أكثر ما سهر الشعراء في الليالي الظلماء يُمنّون أنفسهم بوشوشات الغيد الأماليد فيقول:

قالتْ (سأهتفُ) يا حبيبي في المَسا

وأتى المساء فمالها لا (تهتفُ)!!

وجلستُ في صمتٍ أراقبُ (هاتفي)

ويدي على خدّي وقلبي يرجفُ

و(الهاتف) المسكون بالصمت الرهيبِ

على يميني ميّتٌ لا يعزفُ

والحزنُ في عيني ينامُ ودمعَتي

جمدَت على جفني وروحي تنزف

ماذا دهاهـا ؟ كيف تنسى وعدهـا!!

لمَ لا تحنُّ على الشجى وترأف ؟

وعدَتْ تكلِّمُني فماذا رابَهَا ؟

ليَضِنَّ (هاتفُها) عليَّ وتُخلِفُ

وإذا أردتم بقية القصة ونهاية السهرة راجعوا القصيدة ليكتمل عندكم المشهد..

وفي الصفحة (130) رباعية أذكر أن صديقاً من نجد اطلع عليها ونسخها وكان قد بيّت النية ليرسلها مع هدية إلى حبيب في بلاد بعيدة وذاك الحبيب يهوى الحجاز وقد رأى صاحبنا أن يداري مزاج محبوبه ويساير ميوله ( ونصف العقل مداراة من تحب ) وقد عدّل فيها - القصيدة - قليلاً بما يوهم المحبوب أن الهدية إشتُرِيَت من الحجاز وللعلم فالهدية حتى لا تذهبوا بعيداً هي عباءة نسائية اشتراها من سوق السدرة بالرياض وكتب لها أنه أخذها من المدينة المنورة وهكذا يفعل البعض يرسلون جالون ماء يظنه المُهدى إليه من زمزم والله أعلم!!!:

أهدي إليكِ من (الحجاز) عباءةً

كالليل من شوقي الطويل تبوح

حمّلتها عطري لعلَّ أريجُه

يلقَى شذاكِ على النوى فيفوح

فأشمُّ بعضَ عبيرهِ ويلمُّ بي

في غربتي طيفٌ عليَّ شحيحُ

فتقبّلي منِّي هديةَ عاشقٍ

في قلبِهِ شوقٌ إليك صريحُ

وبعد أن طفنا مع الشاعر وقلّبنا صفحات ديوانه الأثير أتوقف عند قصيدة قالها بمناسبة حصول الأمير عبدالله الفيصل والأستاذ أحمد عبد الغفور عطار والأستاذ طاهر زمخشري على جائزة الدولة التقديرية وما يهمنا هو القسم الأول الأكثر منها والأكبر ويقع في (21) بيتا خصصهم تحية لأستاذ طاهر وقدمه على زميليه في المناسبة نختار منها :

يا (طاهر) النفس من كبرٍ ومن تيه

أرهقت قلبك بعض الحب يكفيهِ

لا تعرفُ الحقدَ حتى حين تلمحُهُ

في عين شانيك بالبسمات يطويهِ

وتقتل الشرّ إن جاشت حبائلُهُ

في لحظة الضعف لم تضعف فتبديهِ

يا أعذب الحبِّ حبّي أنت تدركه

فالحب حسٌّ وقلب الحرِّ يهديهِ

في يوم عرسك كم قالوا وكم نفثوا

فحيحَ حقدٍ طفا في جوفِ راويهِ

تأمل الأبيات السابقة جيداً إنها تصوير لموقف حصل فقد أبى أحدهم وهو أديب معروف إلا أن يطلب التكلم كعادته في كل حفل تكريم ليخالف ويناكف ويتحدث عن المحتفى به طاهر زمخشري بإساءة مباشرة اشمأز منها الحضور واستنكرها كل غيور وقد أحسن الشاعر الوفي يحيى توفيق حيث سجل لنا هذ الموقف وشخّص لنا هذا المشهد وأرخ لهذه الواقعة، وإن تعجب لذلك الإنسان فقد كرر فعلته مرّة أخرى يوم تنادى طائفة من أدباء مدينة جُدة لتكريم الأستاذ عبد العزيز الرفاعي فقد حضر ولم يكن اسمه في قائمة المتحدثين ولا جدول المشاركين وفجأة قام بدون استئذان واتجه إلى منصة الخطابة واسألوا الدكتور محمد عبده يماني، فقد دهش وذعر وحوقل وبسمل وأخذ ذلك الرجل ينال من الضيف المكرّم عبد العزيز الرفاعي وهكذا فحيح الأفاعي وقد حصل هرج ومرج واغتاظ أكثر الحضور وجلّ الجمهور ولكن المفاجأة التي لم تخطر ببال أحد أن الأستاذ الرفاعي عقّب بعد ذلك عليه مثنياً وذاكراً أنه أديب معروف وزميل قديم.. هكذا!! كم أنت عظيم يارفاعي إنك تذكرني بقول السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام (أحبوا مبغضيكم وارحموا لاعنيكم).

سقت قصة الأستاذ طاهر زمخشري لأعود بعدها إلى ذكريات حلق الوادي وتونس فقد سعدت بلقاءات وجلسات مع بابا طاهر كما كانوا يسمونه وسمعت طرفاً من ذكرياته وحضرت تلحين بعض أغنياته رعى الله تلك الأيام:

أذْكرتني مالست ناسيه

ولربَّ ذكرى جددت حَزَنَا

كم ذا أغالبه ويغلبني

دمع إذا كفكفته هتنا

لي ذكريات في ربوعهم

هنَّ الحياة تألقاً وسنا

ومما أتذكر أن الصديق الأستاذ محمد عبدالله العوين قبل أن يكنّى ب (أبي مشعل) يوم كان شاباً أعزب جاءنا منتدباً من الإذاعة في بدايات عمله بها واتصلنا بالأستاذ طاهر وضرب لنا موعداً لا نُخلِفه، ذهبنا إلى داره في (المنزه) كما أذكر وسجّل معه الأخ محمد العوين حديثاً مطولاً غادَرَنا بعده إلى الرياض وقد ترك في تونس ذكريات وصداقات وآهات وشهقات، أما قصة شراء شقتي في حلق الوادي التي تطل على بحرالروم فقد رويتها أو أكثرها في مقال نشرته في الجزيرة الثقافية عن الأستاذ علي بو سلامة الناشر التونسي الذي يَسّر عليّ كل شيء عَسِر, سهّل كل صعب وألان كل صلب، وقّرب كل بعيد فيا تونس الخضراء, وياحلق الوادي ويا أحبتنا في تلك الديار:

اذكرونا مثل ذكرانا لكم

ربّ ذكرى قرّبت من نزحا

هذا مقال اختلطت فيه الذكريات بالقراءات والدموع بالآهات فيارب عفواً ويا أيها القراء صفحاً فأنا أكتب في الليل وحولي نار وحطب فإن رأيتم مايسركم وإلا فقولوا حاطب ليل...

عبد الرحمن بن فيصل المعمر

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة