Culture Magazine Thursday  19/03/2009 G Issue 275
فضاءات
الخميس 22 ,ربيع الاول 1430   العدد  275
لغة الخوف وانعكاساتها على تقنيات السرد في الرواية السعودية (2)
نورة القحطاني

 

إنّ المتتبّع لمفردات الرواية يدرك شيوع الصيغ اللفظية الدالة على الخوف، وتعد المفردات المنتِجة للخوف أكثر المفردات اللغوية تكرارًا ،وتتنوع في درجة توليدها للخوف داخل شخصيات الرواية، كالموت، والصحراء كفضاء يثير الخوف بما يحويه من ظلام، ودهاليز، وكهوف، ووحوش مفترسة، وقطاع طرق، وحكايات الجن، وغيرها مما زخر به عالم الرواية، وما يهدد الشخصية ويثير خوفها يظهر في لغتها التي تشي بالضعف والانهزام والاستسلام من خلال مفردات متنوعة تحمل دلالة الخوف، كالفزع، والهرب، والصمت، والوحشة، والاختباء، والهلع، والارتباك والانكسار، هذه الصيغ وغيرها أسهمت في تشكيل جمل تعبيرية تحمل أحاسيس الشخصية وتوتراتها النفسية مثل:

-(صوّب أحدهم بندقيته، فدوّت رصاصة حتى استقرت في ظهره، ثم سقط على وجهه دونما حراك، فوقفنا واجمين، حتى أن بعضنا سقط على ركبتيه من الخوف)(6)

-( كانت الأفكار تصطخب بعنف داخل ذاك الرأس النابت من الرمل، الرمل الذي انتقم لكرامته وجثم بثقله فوق جسد طراد، حاصره من كل ناحية حتى لم يستطع حراكًا). (7)

أما على مستوى الفقرة فنجدها تميل إلى الطابع الوصفي الذي يصف الفضاء الروائي والأحداث والشخصيات ويجسد الحالات النفسية، ونأخذ مثالاً على ذلك تلك الصورة الوصفية لمشهد هجوم الذئب على البطل وصاحبه :(الذيب جاء. همس نهار برعب واضح وبصوت متقطع، كان الذئب على بعد خطوات قليلة، وهو يمشي كأعمى تقوده الرائحة، ولحظة أن رآهما، أو رأى رأسيهما النابتين من قسوة الرمل انسحب بجذعه قليلاً إلى الوراء، وخفض برأسه نحو الأرض كما لو كان سيختبئ عن الطريدة. راقبهما لوهلة قبل أن يمشي نحوهما بطريقة تشبه الزحف. تجمّد برهة أمام نهار، مصوّبًا نظره تجاه عينيه،محدّقًا فيه بدقة وشراسة، لم يكن يغمض ولا يغفل عن فريسته ولو لثوان. تحرّك نحوه فجأة، وخبطه بقائمته الأمامية، فصرخ نهار بشدة، وهو يزيح وجهه عنه، اندفع الذئب بأسنانه المشرعة كالموت ونهشه. زعق نهار وهو يحاول أن يحرر وجهه من شراسة الذئب. زعق حتى ارتبك الرمل، وبكى الطلح البعيد، وأغمض الشفلّح وهو ينكمش على أغصانه بحياء، وحاول الرمل أن يخفف قبضته على جسديهما، لكن الوقت لم يعد كافيًا ليتحررا من جوع ذئب البراري) (8) في المقطع السابق عبّرت اللغة عن لحظات الخوف التي عاشها البطل وهو يرى صاحبه يموت بوحشية أمامه، وجسّد الحدث وكأنّه ماثل أمام القارئ فيتعاطف معه و يشعر بروح الخوف التي أسقطها السارد على المحيط الذي يوجد فيه البطل، فأصبح الرمل والطلح والشفلّح يشارك الشخصيات في خوفها وبكائها.

كما اعتمد السرد على الجمل الفعلية التي برز فيها الفعل الماضي واضحًا مثل :( جاء، همس، رأى، تجمد، تحرك، زعق، بكى) هذه الأفعال تجسد حركة ذهنية داخلية للحظة حدثت، لتسهم في تحريك المشهد الروائي، وكان استخدامه للصيغ السردية بصيغ الماضي والحاضر، ولم يعن بالصيغ الدالة على المستقبل، فهو يرى أنه لن يكون أفضل مما هو فيه الآن من معاناة وهموم.

يميل الكاتب إلى استخدام لغة الوصف في مقاطع سردية متعددة، فرسم الواقع الحياتي الأليم الذي يعيشه اللقيط (ناصر) في ظل ظلم المجتمع له وعقابه على خطيئة لم يفعلها، كما تناول بالوصف حياة (توفيق) وما تعرض له من سلب لحريته ورجولته، واستثمر إمكانات الرمز للتعبير عن رؤاه الإنسانية .

كما وظف الكاتب عنصر اللون ودلالته للتعبير عن الخوف و القلق والضياع وخيبة الأمل التي تعيشها الشخصيات، فمفردات مثل:) مظلم، ظلام، الدنيا سوداء، الأحلام سوداء، الليل) توحي بالسواد وما يرمز له من شعور بالخوف والاضطراب.

إنّ مثل هذه المفردات تكررت في صفحات متعددة من الرواية؛ الأمر الذي يؤكد أثر هاجس الخوف على السرد، وقد تعمق هذا الأثر باستخدام الكاتب مستويات متعددة في السرد، فمرة يكون السرد بضمير الغائب، ومرة يكون بضمير المتكلم (أنا) على لسان البطل، و كأنّ الكاتب يفصح باستخدامه ضمير الغائب ما يتردد البطل أو يخاف من الإفصاح عنه، ومرة يأتي الأسلوب عن طريق التعبير عن شخصية اللقيط (ناصر) من خلال أوراق ملفه الذي نسيه في الصالة.

في الرواية حكايات كثيرة تروى بالتناوب بين ضمير الغائب والمتكلم، فكانت فصول الرواية تأتي بالتناوب بين سرد حكاية (طراد، توفيق، ناصر) بشكلٍ جعل الرواية مليئة بالأحداث، وظف فيها الكاتب كل إمكاناته، حتى (الحلم) كان أحد التقنيات التي أغنت الرواية، وجعلتنا أكثر قدرة على اكتشاف دلالات الخوف الذي يطارد الشخصيات في الواقع، لذا نرى البطل يحاول التخلص من خوفه بالهرب الذي تبدأ به الرواية، لتكشف لنا الأحداث سرّ هروبه بالتدرج في تصعيد العقدة التي يشعر بها لنلمس تطور لغة الخوف تصاعديا، فنلاحظ أنّ الفصول الثلاثة الأولى من الرواية والتي حملت الخيوط الأولى للحكاية تبدو تمهيدًا لهاجس الخوف، الذي يزداد عمقًا كلما تقدمنا في فصول الرواية، وفي كل مرة تتكرر فيها مفردات الخوف تحمل بعدًا جديدًا يقوي البنية اللغوية في السرد، ومعها يزداد إيقاع الخوف حتى يبلغ أعلى نسبة له في الفصل الأخير من الرواية.

وحين نتأمل تشكيل بنية الخوف في هذا الفصل الذي حمل عنوان (بطولة ذئب) نلحظ اتكاء الكاتب على الإيقاع السريع، من خلال استخدام ضمير الغائب في تصوير المشهد، ولعل هذه التقنية تعد أكثر تدفقًا واتساقًا مع حالة الشخصية القلقة والمتوترة في ظل الواقع الذي عايشته، وبعد أن بلغت الحكاية نهايتها، وانكشف السرّ، كأنما أحسّ البطل بالهزيمة، فنلحظ تراجعًا في قراره، فيلغي فكرة الهرب ويقرر العودة مستسلمًا لمخاوفه، ليؤكد أثر الخوف على السرد حتى في خلق نهاية حزينة تفوح منها رائحة الضعف والانهزام .

ويلحظ قارئ رواية (الفردوس اليباب) للكاتبة ليلى الجهني انعكاس الخوف في لغة الرواية، حيث إنّ بنية الخوف والقلق والموت شكلت معجمًا لغويًا من تكرارٍ لمفردات وصور ورموز تبرز فيها دلالات تعمق أثر هاجس الخوف في وجدان الساردة و أحاسيسها، فتقابلنا لغة الحزن التي تحمل ألفاظ الموت المنتجة لمشاعر القلق والخوف، إذ تتكرر مفردة الموت في صفحات متعددة حتى تبلغ تقريبًا (97) مرة، وتقابلنا مفردة الظلام بمرادفاتها (45) مرة، إضافة إلى مفردات دالة على الضعف والاستسلام والعجز عن المواجهة، كما تكثر الأسئلة الموجهة إلى الذات الساردة، والتي تعبر عن حيرتها و شعورها العميق بالهزيمة والقلق، لأن الخيبة والخوف من مواجهة المجتمع بالخطيئة التي وقعت فيها الشخصية سيطر على الوعي واللاوعي أيضًا، عندها تلجأ الكاتبة إلى الاستعانة بتقنية (المنولوج) لإظهار الحياة الداخلية للشخصية، وكشف ما تفكر فيه، وتنقل لنا مشاعر التمزق والصدمة، وقلة الحيلة، وهذا النمط من السرد يتناسب مع مضمون الرواية التي ترصد الخوف الداخلي الذي تعانيه الشخصية، ولا تستطيع إظهاره للآخر، لتبوح من خلاله عن المسكوت عنه في حياتها، عبر (تقنية الرسائل) التي كتبتها لصديقتها بلغة سيطر عليها الهذيان وتداعيات الذاكرة من دون ترتيب منطقي للأحداث، ويتناسق هذا بطبيعة الحال مع الحالة النفسية للبطلة، ففي الفصل الثاني من الرواية تترك الكاتبة للبطلة أن ترتد إلى داخلها بحوار تقول فيه :) أتكون يا طفلي حاقدًا عليّ؟ إذن، لم تدب مثل هذه الكائنات الهلامية الباردة فوق جسدي؟ لم لا تريني وجهك وتدعني أتحسس طريقي إلى العينين، إلى الأنف، إلى الشفتين أطبع فوقهما قبلة محروقة وأبكي بين يديك وأنا أجرب لوعة أن أختار الحرمان فقط؛ لأن حبك نعيم اختلسته في غفلة من العيون، تعجلته ولم أنتظر أن يطرق بابي) (9) .

***

6) السابق، ص: 28.

7) نفسه، ص: 87.

8) نفسه، ص: 113.

9) ليلى الجهني، الفردوس اليباب، الشارقة، دائرة الثقافة والإعلام، 1998م، ص: 14.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة