Culture Magazine Thursday  25/06/2009 G Issue 289
فضاءات
الخميس 2 ,رجب 1430   العدد  289
مبادئ (الحوارية) في (الجامعة)!!
خالد بن أحمد الرفاعي

 

من مظاهر الخيبة المؤلمة أنْ يتورّط الإنسان في الاحتفاء بلفظٍ لقيمته الدلالية، ثم يكتشف بعد حينٍ أنّ هذا اللفظ لا يدلُّ على معنى آخر فحسب، وإنما يدل على معنى مناقض للمعنى المفترض كلّ التناقض.

لفظة (الجامعة) أحد هذه الألفاظ التي نتورّط دوماً في الاحتفاء بها، ثم نكتشف أبداً أنها تتضمن ما يناقضُ دلالاتها، ويناقضُ وجودنا أيضاً.

تدلّ (الجامعة) - مصطلحياً - على مؤسسة تتصف بالحوارية، وبالتعدّدية، وبالتهيؤ الأبدي لجمع ما لا يمكن جمعه أو اجتماعه في مؤسسة أخرى.

هي - والحال هذه - ضديد ل (المدرسة)، التي تدلُّ في معاجم اللغة على (المحو- والخفاء- والدوس (والحفظ) والشدة)، وجلُّ هذه المدلولات تحمل - كما نرى- طابعاً إقصائياً في صيغتها اللفظية، تؤكده ممارسات (المدرسة) في الواقع، ففي (التعليم العام) نجد الطالب مسكوكاً في خط تعليمي (فريضي)، وما على الطالب إلا أن يبدي نوايا حسنة تجاه هذا الخط: حفظاً - وفهماً - وتفاعلاً، وأما في (الجامعة) فالوضع يغدو مختلفاً - أو هذا ما يجب أن يكون -، فاللفظة وحدها تعطي معاني مناقضة للمعاني التي تعطيها (المدرسة)، قوامها: (الانفتاح- والتعدّد -والاجتماع).

أي إنّ ثمة اختلافاً على مستوى الدلالة بين (المدرسة) و(الجامعة)، يجب أنْ يتلوَه اختلاف على مستوى المدلولية، والمدلولية هنا تطبيقية بطبيعة الحال؛ لكوننا نتحدث عن مؤسسة علمية عملية، لا عن جملة مسكوكة في خطاب !!

مرور الطالب من (المدرسة) في (التعليم العام) إلى (الجامعة) في (التعليم العالي)، يعني - ضرورة - مروره من طور إلى طور، من الإلزام إلى الاختيار، من الأحادية إلى التعددية، من التقلينية إلى الحوارية... إلخ، ومثل هذه المعاني تُستقى من لفظة كل صيغة تعليمية قبل أنظمتها وتطبيقاتها.

غير أنّ الواقع يفاجئنا ونحن نتحرك في بلاط (الجامعة) بمظاهر أحادية صارمة، لا بين اتجاه فكري وآخر- كما هو مقرّر ومعهود - ولكن بين قسم وآخر في كلية واحدة، حتى إنك واجد قسماً علمياًً يجدُّ ما وسعه الجدّ في سبيل إسقاط مشروعات قسم علمي آخر يجاذبه شرفَ الانتماء إلى (كلية) واحدة، بادعاءات لا تمتُّ في الأصل إلى أصل، ولا تمتلك في ذاتها مقدِّمة، ولا تفضي بالعقل إلى نتيجة.

وإذا ما كان هذا الوجه حاصلاً على ما فيه من غرابة وعجابة، فإنّ كل ما هو فوقه لن يكون غريباً ولا عجيباً، إذ إنّ التنبيه على الأدنى تنبيه على الأعلى من باب أولى، من هنا يمكن أن نعبر بحزن بليغ من اعتراض (قسم) على (قسم) - كما في الصورة السابقة - إلى اعتراض أكبر، هو اعتراض (كلية) على طموحات (كلية) أخرى، بشكل مباشر وصفيق، أو بشكل يشبه المؤامرة المقيتة!

مشكلة هذه الصور أنها تتطلب وجود شخص ما - أو شخصية - فوقها؛ ليتمكن من إدارة جولات الصراع بين أطرافها، وذلك بتغليب طرف على طرف، مقابل تغليب المغلوب على الغالب في الجولة الثانية، وهي إدارة لا علاقة لها بمشروع معيّن، ولا تستند إلى رؤية ما، وإن صنّفها بعضهم على أنها ضرب من ضروب الحكمة والتجلي.

هذا النمط من الإدارة يجيء بفعل (المنتمين إلى الأقسام والكليات المتعددة)، ليحلّ محلّ الرؤية الحوارية التي يجب أن تتحاكم إليها الجامعة، وإذا ما حلت الذات محل الرؤية، فلا صوت يعلو صوتها الواحد!!

بكل ما مضى أصبحت الجامعة (مدرسة)، وأصبح (التعليم العالي) تعليماً عاماً، فقط تتغير عليك البناءات والألقاب، وأما الجوهر فيظلُّ هو هو!!

إنّ مدرسية الجامعة ليست محصورة في الصراع الذي ينشأ بين أطراف لا تهدأ إلا إذ قادها غيرها، وإنما هي متعددة الأشكال والأنماط، ولدينا هنا صورة الأستاذ الجامعي الذي يبرز متعدِّداً وحوارياً في مشاغله الثقافية، ثم يدخل الجامعة ليعوِّض ما فاته من محاولات الإقصاء، فتراه يمارس مع تلامذته صوراً لا حدّ لها، من القطيعة والتعالي، وربما السخرية والاستهزاء، وكثيراً ما كنت أجد نفسي ضحية شخصيتين اجتمعت في شخص واحد، الشخصية المتعددة التي تبرز في الخطاب الثقافي للأستاذ، والشخصية الأحادية التي نجدها في خطابه المهني، وهنا بقدر ما يقمع المثقف الإسلامي تلامذته الذين يشفون عن ميول ليبرالية، نجد المثقف الليبرالي يمارس الفعل عينه مع تلامذته المنتمين إلى الفكر الإسلامي، واقرؤوا - إن شئتم - مقدمة كتاب (الليبرالية في السعودية والخليج) ل (وليد بن صالح الرميزان)، لتروا كيف تخلى بعض أساتذة الجامعة الليبراليين عن حواريتهم، وأخذوا يمارسون ضغوطاً قوية على طالب ال (الماجستير) لكونه اعتمد منهجاً إسلامياً في قراءة التيار الذي ينتمون إليه.

إنّ تنازل (الجامعة) عند تعدّديتها، عن مهمتها التي أنيطت بها - ويدلُّ عليها اسمها - ساهم في تشظي الذات الإنسانية فيها، وتعدديتها من الداخل، فصار للأستاذ الجامعي من الوجوه بعدد ما لجامعته من كليات وأقسام، وبعدد ما للإد ارة من وجوه كثيرة، تلبس بعضها وتخلع بعضها الآخر، لتستطيع البقاء في طور الإدارة الحكيمة!!

وإذا ما نظرنا إلى الطالب الجامعي فسنجده أكثر تعددية في داخله، وأكثر تشظياً في ذاته؛ لأنّ الضغط المتعيّن في حقه أكبر، فتراه إسلامياً في محاضرات الثقافة الإسلامية، وليبرالياً في محاضرات الأستاذ الليبرالي، وتائهاً في محاضرات الأساتذة التائهين بين عديد المناهج الفكرية المحيطة.

وما من شك في أنّ هؤلاء الطلبة سينطلقون يوماً ما إلى أماكن العمل، يستصحبون معهم ذواتاً ليست ذواتهم، ويجترون بألسنتهم أقوالاً تعبر عن كلِّ شيء إلا عنهم، ومن هنا تكبر معنا مشاكلنا، فترانا سريعي الذوبان في غيرنا.

إن أكبر الواجبات في هذه المرحلة أن تنصرف إدارات الجامعات السعودية إلى تبني رؤية ثقافية حوارية، تكفل للجميع بيئة تحفل بالتعدّد، دون اختراق إطار ثوابت الدين أو ثوابت السياسة، وهذا يتطلب الآتي :

- أن يرمّم أساتذة الجامعات ذواتهم، ويعيدوا صناعة مراياهم المهشّمة، وأن يطرحوا أنفسهم بوصفهم إضافة إلى الآخر، ويتقبلوا الآخر بوصفه إضافة إليهم، وهذا لن يكون إلا إذا أصبحوا يمارسون بأنفسهم ما يدعوننا إليه في خطاباتهم الثقافية الرنانة.

- أن يعي المسؤولون عن القرار في الجامعة - سواء في ذلك أصحاب القرار العلمي كرؤساء الأقسام أو أصحاب القرار الإداري - أنّ العجلة لا تتحرك إلا حُرِّكت، وأن أعمالهم الثقافية لن تقوم مالم يقدموا شيئاً من التضحية، وهذا لن يحصل ما لم يقفز هولاء على مقولة (الانحناء للريح خير من الاجتثاث) !!

- أن تتبنى الجامعات الزيارات العلمية، أو التبادل العلمي، لأن خروج المثقف من الدائرة التي ينتمي إليها وظيفياً يجعله أكثر قدرة على التعبير عن ذاته، وأكثر استغلالاً لفرص الحرية المتاحة، وبهذه الصورة سنضمن فتح قنوات أكبر للحراك الثقافي، ولن نجد مشكلة في أن تضيف الجامعة هذا المثقف أو ذاك.

الرياض alrafai16@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة