Culture Magazine Thursday  25/06/2009 G Issue 289
فضاءات
الخميس 2 ,رجب 1430   العدد  289
جدلية الاتصال والانفصال
بين الخطابين الشعري والسردي-2-
نورة القحطاني

 

سندرس هذا التداخل وتجلياته في لغة الرواية السعودية تحديدًا باعتبارها جزءًا من الرواية العربية، تتأثر بعوامل التحديث في مسيرتها الإبداعية، حيث نجد الشعر والأهزوجة والأغنية تشكل أسلوبًا من أساليب السرد، وأداة من أدوات الوصف والتوثيق لدى بعض كتاب الرواية، ومن خلال متابعتنا لعديد من الروايات السعودية ظهر فيها تداخل الشعر مع النثر بطريقتين:

الأولى تقليدية تتجلى في ترصيع النثر بالشعر على شكل اقتباسات أو تضمين لم تدخل في البنية السردية دخولاً عضويًا،أو تضمين نصه نصوصًا موازية لها وظائف تناصية، والثانية تجديدية تظهر في ملابسة الشعرية للنص النثري فيستعير تقنيات الشعر ليكتب نصه، ويستدعي الصور والرموز لأسطرة المحكي السردي، والعجائبي، ويبدو ذلك بوضوح في روايات رجاء عالم التي تستخدم اللغة الشعرية لتكثيف الرموز، وخلق هالة من الضبابية على عوالم روايتها، وتختلف تجليات الشعرية في الرواية وكثافتها من نصٍ لآخر، بدءأ بالعنوان العتبة الأولى للنص قبل دخول عالمه، فهو مفتاح تأويلي يحمل دلالة تربطه بالنص، ويساهم في تشكيل اللغة الشعرية من خلال علاقة الاتصال والانفصال التي يقيمها بوصفه علامة تنتج دلالة النص عند تأويله، وتطالعنا روايات تحمل عنوانًا أقرب للشعر منه إلى النثر، إذ يعتمد على المجاز والإيحاء، ويحيلنا مباشرة إلى نص شعري مثل: (الفردوس اليباب) الذي يشير إلى (الفردوس المفقود) باعتباره دلالة مكانية، تشكل بنية دلالية موازية للنص ترتبط بأحداثه، ثم يتضمن النص فصولاً تحمل عناوين شعرية أيضًا: (الهواء يموت مخنوقًا، قارة ثامنة تغور، سقوط الوردة، لن تبكي الحساسين على الشرفات، اختزال الروح) كل واحد من العناوين السابقة يصلح أن يكون عنوانًا لقصيدة، كما يتسرب الشعر إلى متن الرواية من خلال استدعاء شعراء مثل: ملتون في قصيدته الفردوس المفقود، والتي أوردت جزءًا منها أثناء تداعيات الذاكرة وحديث النفس (أي شقي أنا! في أي اتجاه ينبغي أن أحلق غاضبًا بلا حد، وبائسًا بلا نهاية؟

وفي أي اتجاه حلقت ثمّ جحيم، أنا ذاتي جحيم، ...) (الفردوس اليباب ص32-33)

كذلك محمود درويش في أبياته (لم يبق لي حاضر

كي أمر غدًا

رب أمسي) (الرواية ص72)

كما أنها في مقاطع كثيرة حولت النثر إلى شعر منثور أو نثر شعري، يحمل من التكثيف والأحاسيس والعواطف المعبرة عن الحزن والشجن والألم بشاعرية مفرطة حتى تشعر وكأنك تقرأ شعرًا (لم يعاندني النسيان؟ لم يبدّل ثيابه ويفر تاركًا لي ذاكرة مدججة بلحظات حادة مزقت القلب ومزقتني؟ الدانتيلا والشموع والفردوس المفقود ...)(الرواية ص36) ومقطع آخر أيضًا تتضح فيه اللغة الشعرية (أغمض أحداقي. أنشد متسعًا للبكاء، حتى البحر غدا بعيدًا. صوته مثل وشوشة غامضة، والنسمة تمر قليلاً وتغيب طويلاً، والأبواب البعيدة تفتح ثم توصد بشدة، والعصافير تموت في الليل لتبعث في النهار، وأنا أموت في الليل لألعن في النهار). (الرواية ص46) وتنتقل اللغة إلى مناجاة ذاتية في حوار داخلي ممتد بين ذات البطلة والجنين المجهول ورب ترجو مغفرته لخطيئتها، عبر تدرج لغوي مكثف يعلن عن شعرية النص، في لوحات تتراوح بين الرثاء والهجاء: رثاء الذات المقدمة على الانتحار في لحظة سادها اليأس والإحباط، وهجاء للواقع الذي تلاشت فيه المثل وعمه الخداع والكذب، حيث نجد أشكالاً من الشعر داخل البنية السردية، تحقق مع تداخل الأزمنة أهم خصائص الرواية الحديثة التجريبية، وذلك بتداخل الماضي مع الحاضر والمستقبل في شكل تداعيات وأحلام واسترجاعات في لغة مكثفة لمعاني البوح، توحي بكتابة شعر داخل كتابة نثرية استطاعت أن تعبر باقتدار عن ذلك التداخل.

فإذا انتقلنا إلى روايات كتبها شعراء تحولوا من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية فنقلوا معهم تلك اللغة الشعرية إلى النص السردي، ومن يراجع روايات محمد حسن علوان (سقف الكفاية، وصوفيا، وطوق الطهارة) و(الغيمة الرصاصية) لعلي الدميني، و(الحزام) لأحمد أبو دهمان، و(حكاية حب) و(7) لغازي القصيبي، يجد أن لغتها تتسم بالتكثيف والاختزال، يتجلى في انتقاء المفردة الموحية، والتراكيب المجازية، واستخدامها استخدامًا استعاريًا، يقترب بها من لغة الشعر، فجاءت تؤدي وظيفتها في وصف الفضاء الروائي والأحداث والشخصيات، والتعبير عن مشاعرها وتجسيد حالاتها النفسية، ليتعاطف المتلقي معها، فاللغة الشعرية هي الأقرب إلى نفسه، ولها القدرة في التأثير فيه وإثارته.

والمتأمل في رواية (7) لغازي القصيبي على سبيل المثال، يلحظ أنّ السارد/ المؤلف يميل إلى لغة الشعر بإيحاءاتها المكثفة، ورموزها الغنية بالدلالات، واللوحات التصويرية للأحداث والمشاعر التي جاءت بلغة تحمل مقاطع شعرية متعددة، حيث يفتتح الرواية بأبيات للمتنبي يذكرها في مطلع كل فصل، ويبدأ الفصل الأول من الرواية بحكاية الشاعر (كنعان) الذي قدم لنا شخصيته من خلال عدة أحداث نثر في ثناياها قضايا كثيرة تتناول الشعر والشعراء، ويشير إلى انحدار وضع الشعر بعد أن دخل ميدانه جيل يدعي الشعر وهو كما يصفه البطل الشاعر (شعراء بلا شعر. فقاعات لفظية تتفجر من الأشداق مع اللعاب) (7 ص39) ويعرض شعرًا رديئًا لبعض الشعراء، ثم يدرج نصوصًا أخرى ليناقش من خلالها قضية التناص تحت عنوان (سرقة أم تناص) (الرواية ص51-53) فالكاتب هنا قد استثمر ثقافته الشعرية -باعتباره شاعرًا في الأصل- في عرض أفكاره ورؤاه حول إشكاليات تتعلق بالشعر في العصر الحديث، والأمثلة على توظيف الشعر داخل الرواية السعودية كثيرة ويطول سردها، لكننا أشرنا إلى بعض منها لإيضاح طريقة تداخل الشعر مع السرد كما ظهر في الروايات.

من هنا نجد أنّ الرواية الحديثة قادرة على احتواء الأجناس الأخرى، بل إنها تحولت إلى كتابة مغايرة تتسم بالشمولية، وتعددية التأويل،تفتح مساحاتها لاستقبال التأثيرات المتبادلة بين الفنون.

ولا نستبعد ظهور أشكال أكثر حداثة في مستقبل الرواية، فهي متحولة منذ ظهورها ولم تثبت إلى الآن على شكلٍ نهائي، ويبدو أنّ دعوة كثير من النقاد إلى أهمية لغة الرواية في إبراز جمالياتها لدرجة المناداة ب: (تبني لغة شعرية في الرواية، ولكن ليست كالشعر، ولغة عالية المستوى، ولكن ليست بالمقدار الذي تصبح فيه تقعرًا وتفيهقًا..) ومع هذا يجب الاحتراز من خطورة الإسراف في الكتابة بلغة شعرية حتى لا تصبح هدفًا في ذاتها، فتخل بوظيفتها السردية، إذ إنّ التكثيف والإيحائية والانفعال العاطفي قد يوقع القصة في إشكالية نتجت عن اقترابها من القصيدة، مما يتعارض مع تقدم الفنون السردية، فانعدام الفوارق الواضحة في بعض الكتابات جعل من الصعب على القارئ تحديد جنس النص، بل إنّنا نواجه كتّابًا يصدرون إنتاجهم تحت مسمى (نص) وهذا العنوان يشمل الشعر والنثر، فيبدو الكاتب أحيانا غير واثق من جنس ما يكتب؛ بسبب الاشتباك بين الشعر والنثر أكثر من بقية الأجناس الأخرى، حيث يمكن تلمس أثر أحدهما في الآخر، فتطور الجنس الأدبي سمة مطلوبة تزيده ثراءً، بشرط أن يظل ارتباطه بسمات الجنس قويًا، مع مرونةٍ تقبل الاستفادة من تقنيات الأجناس الأخرى ومعطياتها، فليس هناك موت لأي جنس أدبي ولكنه يتطور إلى أنواع جديدة أكثر انسجامًا مع تغيرات العصر وتحدياته، وهذا ما أشارت إليه نظريات الأدب التي تؤكد على أنّ مفهوم الأجناس الأدبية أصبح مرنًا مفتوحًا يسمح بالتعدد والتداخل ويطور من نفسه مع الزمن، ويستخدم في تحليل الأعمال الجديدة ويضاف إليه عناصر أخرى بحيث يظل متطورًا على الدوام (فنحن نشعر بالتغيرات المتتابعة في الذوق الأدبي، هناك جيل أدبي جديد كل عشر سنين وليس كل خمسين)، كما أكدت نظرية الأدب، وبناءً عليه فإنّ التداخل بين الخطابين السردي والشعري سيظل ابتكارًا إيجابيًا في خلق الإبداع، سنجني فائدة عظيمة من دراسة هذا التداخل عبر الانزياح، وسيتشكل منه وعيٌ بإشكالية الأجناس وكيفية استعمالاتها الجمالية، يصبح معها القارئ قادرًا على تمييز النصوص الجيدة بما تتضمنه من أصالة وجمال.

وأخيرًا وتحت ضغط ثنائية التأثر والتأثير لا نستطيع التنبؤ بمستقبل الأنواع السردية التي تكتسب جماليات جديدة تبرز فيها الشعرية العالية، فتجعلنا نميل إلى تسميتها بالكتابة الجديدة كما سماها إدوارد الخراط، التي تؤسس لنفسها في كل مرة تصورات خاصة من دون الإخلال بمعيارية الجنس الأدبي ووظيفته.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة