Culture Magazine Thursday  30/04/2009 G Issue 281
فضاءات
الخميس 5 ,جمادى الاولى 1430   العدد  281
حكي مكتوب
أرض الأدب المحتلة
زكريا تامر

 

تظاهرت بالأسى العميق وأنا أسأل أحد الأصدقاء الأدباء عن أسباب توقفه الفجائي عن الكتابة، فأجاب فوراً ومن دون لحظة تفكير: الأسباب كالشمس في النهار. ما إن صرت أديباً ذائع الصيت ذا كتب مطبوعة وقراء حتى طوقني طوفان من المحن الخفية، فقد أمرتني زوجتي الشبيهة بالفراشة والكركدن بأن أطلعها على كل ما أكتبه قبل نشره حتى تتأكد من أنه لا يتضمن ما يسيء إلى مخفر الحياة الزوجية السعيدة، واعتبرت ما أمرتني به حقاً من حقوقها الزوجية تأبى التفريط به، وطالبتني قابلتي بأن تراجع ملياً كل ما أكتبه حتى لا تفلت مني سهواً كلمة تنديد بمن أخرجني من بطن أمي وطوّح بي أعزل إلى الأدغال المفترسة، واقترح علي ابني الصغير الكف عن الكتابة للكبار والمبادرة إلى الكتابة للأطفال كتابة فكاهية مسلية لا تعادي العولمة، وناشدني بائع الخضراوات ذو الدكان القريبة من بيتي أن أنظم أشعاراً مخصصة لامتداح الخضراوات وبائعيها وآكليها وهجاء اللحوم وبائعيها وآكليها حفاظاً على استمرار السلام الاجتماعي، ونصحني المؤذن في مسجد حارتنا بأن أريه كتاباتي مخطوطة، ووعدني بأنه سيحذف منها بتهذيب ورقة كل ما من شأنه أن يبعدني عن الطرق الموصلة إلى الجنة، وهددني قطي المدلل بالإضراب عن التثاؤب والمواء والتمسح بالأقدام إذا لم أسارع إلى إخباره بكل ما أفكر به قبل كتابته على الورق خشية أن يهرب من القلم ما يشجع الفئران على التمادي في صلفها والمطالبة بجائزة نوبل للسلام بحجة أن من نالها ليس أحسن منها، ونبهتني أختي الموشكة على الزواج إلى أهمية أن تتكاثر كتاباتي المدافعة عن حقوق المرأة المظلومة المضطهدة، وأن تعنى بحقها في البقاء في المطبخ مرفوعة الرأس، وطلب مني جيراني عدم التهرب من إطلاعهم على كل ما أكتبه قبل نشره حتى نظل جيراناً متآلفين مسالمين ينعمون بالحياة الآمنة، وزارني معلمي في الصف الثالث الابتدائي، وذكّرني بأني كنت أكسل تلميذ، واقترح علي أن يتولى تصحيح ما أكتبه قبل دفعه إلى المطبعة لقاء راتب شهري رمزي، وطلب مني جرسون المقهى الذي اعتدت التردد إليه يومياً أن أكتب مسلسلاً تلفزيونياً عن خلافاته الليلية مع زوجته وأمها، وكلما قدم إلي فنجان القهوة سألني ما إذا كنت قد أنهيت كتابة المسلسل الذي سيقهر المسلسلات التركية، أما جاري الشرطي، فقد اكتفى بمطالبتي بالإنصات لصوت الضمير اليقظ والثناء على هؤلاء المجهولين الذين تظل عيونهم مفتوحة في الليل وفي النهار.

وسكت صديقي الأديب المعروف لحظات ثم قال لي: ما ذكرته لك هو مجرد غيض من فيض.

فسألته: ومتى ستعاود الكتابة؟

فأجاب: لن أمسك القلم إلا بعد أن يكف هؤلاء الطفيليون عن التدخل في شؤوني الشخصية والانتقاص من حريتي في التعبير، وسأظل مضرباً عن الكتابة.

فلم أنطق بكلمة، ولكني سارعت إلى تخيل القراء فريقين، الفريق الأول يزغرد مرحباً بإضراب الأديب المعروف راجياً أن يقلده الكثير من الأدباء، والفريق الثاني يزدري الأدب والأدباء ولا يبالي بهما، ويطلب علمه ومسراته في الطعام الشهي والجديد من صور هيفاء وهبي ونانسي عجرم.

لندن

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة