Culture Magazine Thursday  17/06/2010 G Issue 315
فضاءات
الخميس 5 ,رجب 1431   العدد  315
 
عناوين أو أحكام
لمياء السويلم

يتبادر إلى الأذهان أننا مجتمع سريع في إطلاق أحكامه، بمعنى أن الأحكام جاهزة لدينا سواء كان الحديث عن ثقافة اجتماعية أو حتى عن مجتمع المثقفين، والأحكام السريعة تطلق على مستويات مختلفة، فالحكم الذي كان على الأخلاق بوصفها جوهر الأشخاص في المجتمع القديم تحوّل إلى الحكم على الأفكار اليوم، إذ إن المجتمع قديماً في حجمه الصغير كان الأفراد فيه معروفين لبعضهم وكان يسمح باحتكاك الكل ويسهل من التواصل المباشر فيما بينهم مما يجعل الحكم يقوم على طبيعة التعامل وطريقته وأخلاقية الفرد في تفاعله مع الآخرين، أما اليوم مع نمو المجتمع وتوسعه وتعقد الحياة واستحالة تعارف الجميع، عدا عن تباعد المسافات وتغير نمطية العيش أصبح الحكم يقوم على الفكر بوصفه جوهر الشخص، إذ مع عجز الأفراد عن التعامل الشخصي والاحتكاك المباشر مع الكل يصير الذكر عن الآخر الذي لم يلتقه الفرد يتركز حول أسلوبه في الحياة وطريقة معيشته التي تنعكس عن أفكاره التي يؤمن بها، وبقطع النظر عن معيار الحكم على الفكر وعلام يعتمد في تقييمه فهو يبقى عملاً تقييمياً يشكل حكماً بالأخير.

وباختلاف الرأي حول كون الخلق أو الفكر هو المعيار في الحكم، فإن القول بأننا مجتمع سريع في تكوين آرائه وإصدار أحكامه هو قول ليس جديداً، ولهذا على الأسئلة أن تتوقف عند السبب فيما نحن فيه وعند الكيفية التي صارت بنا إليه وعن الزمن الذي مضى بنا له، ولأن الإجابة عن كل هذه الأسئلة تصعب على موضوعية مقالة وحيدة فالمحاولة هنا ستقارب الإمكان لتبحث فيه عمّا يمكن أن يمهد أو يكشف الجواب فقط.

ارتبط الحكم على الأشخاص في التاريخ القديم والقريب داخل مجتمعات غير مدنية كمجتمعنا على الكلمة الواحدة في أكثر من حالة وعلى أكثر من وجه، فالعقود من قران وشراء وبيع كانت تقوم على كلمة واحدة، والحروب الكبرى والصغرى رغم أثمانها الباهظة كانت تقوم لكلمة شرف، والدعوة والأمثال والأثر قامت جميعها باستمرار على حفاظ العربي على كلمته وإن كلفته حياته، والكلمة هنا ليست مجازاً عن عقود متعددة البنود أو وعود مدروسة إنما هي كلمة وحيدة بالعدد لا بالمجاز فقط ولطالما كانت نعم أو لا، كلمة للقبول والرفض، واعتماد كلمة واحدة دون أن يكون لكل فكرة سبقتها أو لحقت بها أي قيمة في الحكم وأحياناً لا يكون لمعنى الكلمة ذاتها أي قيمة مثل أن ينطق بها الشخص دون أن يكون قد قصدها لكنها ستؤخذ منه وعليه كلمة ثابتة، هو اعتماد فيه من التضييق الفعلي على أفق الرأي وتسفيه للفكر مقابل التلفظ اللغوي، لأن في التركيز على جزء واحد دون المجموع فيه تضليل وتعطيل للقراءة الشاملة والعميقة عموماً، غير أن في التركيز على مفردة واحدة فقط الحكم فيه تعطيل لقدرة الفكر على التحليل والتعمق لأنه قد تم تجريده من معطياته التي يجدها في الكلام من خلال الأفكار والعبارات وترتيب الجمل التي لا يمكن بأي حال أن يتم التعبير عنها بكلمة أو اثنتين، إن التفكير بعملياته المعرفية الطويلة والمعقدة والفكر بكل ما ينتجه من أفكار من المستحيل أن يختزل في لفظة وحيدة، ولهذا كان الحكم على الأشخاص من خلال كلمة ما يتلفظ بها كان يربك التعبير عموماً مما انعكس كثيراً على إرباك الفكر واللغة والرأي.

هل ينسحب هذا على العجز الذي يستفحل اليوم بالمصطلحات والمفاهيم الجديدة منها والقديمة، أليس في العلمانية بالعجز الواضح عن تقديم مفهوم متكامل وناضج يقارب حقيقة معناها إشارة على أن الفكر يرتبك بسبب المعرفية التي تحكم على الفكر من خلال مفردة واحدة فقط، أليس الحكم على كل كاتب يحاول شرح مفهوم العلمانية ليقارب المعنى بأنه كاتب علماني إشارة أخرى إلى أن الحكم على الكلمة الواحدة سبب في حرب التصنيفات اليوم أيضاً، أليس في تجاهل المقالات العلمية والكتاب الفكري مقابل عنوان رواية نتيجة لهذا الحكم كذلك؟

هل أنتجت أحكام الكلمة الواحدة أقوالاً مثل (الكتاب مبين من عنوانه) و(الكلمة الفصل بدلاً من فصل الكلام) أم أنه إنتاج متبادل؟ هل يمكن أن تكون الثقافة الشفهية هي الأرض الخصبة لهذه الأحكام، وكيف يمكن أن يكشف تراكم هذه الأسئلة عن الحدية في الحكم والتي ترتبط ارتباطاً شديداً بسرعته وجاهزيته، ألا تؤسس السرعة في الأحكام لتسطيح الرأي وبقائه على مستوى الضدية أو الاتجاهات المعاكسة، هل يمكن اعتبار الذاتية في الحكم حول كل كلمة أو مفهوم دلالة على عجز الأفراد عن التزام الحياد تجاه ما لا يعرفون، أليس في تراجع الموضوعية من معظم الأوراق النقدية شكل لعجز معرفي عند الناقد عن الحيادية قبل محاولته الالتزام الموضوعي، ألا يجد في مجتمعنا الفرد العادي نفسه قبل الناقد مدفوعاً دوماً ودون وعيه نحو الحكم على كل شيء وإن لم يعرف منه شيئاً سوى اسمه عدا ذاك القلق الذي يسكنه مع كل جديد لم يشكل حكمه عنه بعد، وأخيراً هل يمكن اعتبار فتوى الطوارئ وحمى الاستفتاء ما يندرج تحت هذا أيضاً؟!

أليس في حاسة النقد الاجتماعي التي يدركها الجميع اليوم في أنفسهم قبل أن يقرؤوها في المقالات والكتب هي إشارة إلى أن دلالات الكلمة الواحدة أقوى وأهم حضوراً من كل منجز ومنتج اجتماعي وثقافي، وختاماً هل يمكن للتغيير الذي يبحث عنه المجتمع بمختلف شرائحه أن يتحقق إن لم يتم إدراك خطورة الحكم الجاهز وتأصله في طريقة التفكير..

Lamia.swm@gmail.com الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة