Culture Magazine Thursday  21/10/2010 G Issue 320
فضاءات
الخميس 13 ,ذو القعدة 1431   العدد  320
 
شوقي بزيع: شاعر "عكاظ" 2010
د. غازي قهوجي

إذا كانت حبّة القمح تتحوّل إلى أنشودة عندما يتذوقها البلبل - على قولة جبران - فكيف يكون شَدو مَنْ امتلك حقل سنابل، وسَكَنَ وَجْدُ الطير رؤاه، وانكَشَفَ أمامه سرُّ التحليق؟

«دَعُوا الطيور تأتي إليّ».. هذا ما أقوِّله «لشوقي» وعن سابق وعي ورصدٍ واقتناع».

هذا الصياد الماهر المغاير، الذي هَدَفَ كثيرون لو كانوا طريدته، وهو الأعزل الذي لم يعرف معنى الفخّ والكمين، ولا اقتنى شَبَكاً أو قَفَصاً أو شركاً. إذ تبرق اللغة وتسطع وتشعّ حين الحديث عنه وفيه بصيغة الحاضر، وهو على سماحةٍ و(طيابةٍ) ووداد صاحب حضرةٍ وحضور تَضجُّ مطارحُه بجديد الشعر والنثر وحلو الكلام، وله في كلّ منها على القلوب أمر ونهيٌ وحبٌّ وسلطان.

كان قُربي منه على الدوام مشرقاً، أنيساً، وعلى مرمى ابتسامة وتحية وسلام. وكان من دون انقطاع على هجرةٍ داخلية مع الذات، ما هدأت يوماً على متنٍ ولا استكانَت على ضفاف، وكان على اغترابٍ متواصل مع سَرْبِهِ، كرحيلٍ مزمن إلى (يثرب)، يجدّ ويكدّ ويجتهد ويؤوِّل هدف الزيارة ومعنى السعي والطواف.

هذا الشاعر الممعنُ في الذهاب إلى الغامض، والى المسكوت عنه، هذا المُداهم للخفيّ، والمتواري الخبيء، هذا الساكن في رعدة التوجُّس وصحراء «الانتظار»، الممسوك من الماضي، الذي لم يبقَ من جمره سوى الرماد، ومن سيوفه غير الأغماد.

هذا المترحِّل بين أترابه ومعاصريه، المسافر في المسافة والوقت بين البرق وبين الرعد، والمنطلق غزيراً في المدى الواصل بين الزهر وبين الرحيق، المنفصل المتصل والمثنّى المضيف أمام أحادية الأشياء والرؤى والأحلام.

شوقي المنحاز موهبة إلى الآتي، بالذهاب إليه، والساعي إلى المختلف، الرافع عالياً بيرق المفاجأة كأحد الخوارج على السائد والرائج والمألوف. فهو بطبعه وطبيعته: «غريبها بين النساء» وليس هو على الإطلاق «كأنه الغريب» (1).

إنه المغاير الذي وجد في «الاختلاف لذة لا يحققها التشابه أو التماثل، لأن المختلف وحده هو الذي يقترح الإضافة لا التكرار، والتحدّي لا الاستكانة، والجريان لا الاستنقاع والتأسُّن».

هذا المؤجّج للصراع بين نصفَيْه الداخليَين والمنحاز إليهما معاً وبالتناوب لحصد وقطف الناتج الجديد وولوجه في الثنائية الخالدة التي أصبحت لديه مُشَكِّلةً لمجموعة جزرٍ بحرية فيما المياه التي تفصل بينها هي ذاتها التي تصل بينها.

هكذا، بين الوصل والفصل جرى وانساب ماء كلامه، وتألّفت شخصيته وأورقَتْ وأزهرَتْ وأثمرَتْ.. وأخَذَنا معه إلى جنات تجري من تحتها الأشعار! وأوهمنا بمجيء الذي لن يأتي.. وصدّقناه وآمنّا يقيناً أنه بذهاب الوَهْم يصبح القلب في وحشة.

«شوقي» هذا الشاعر المشدود عَصَباً والراعف دماً والمنكسر أمام وردة، الرقيق على نضارة، الطاعن في الشباب.

هذا المغامر على قلقٍ يهزّ الروح والهاتك حجاب توالد المجهول، الممتطي فرَس اللغة، وقد نَزَع عنها السَرْج والأجراس وقد حفِظَتْ ذاكرته الحداء والرنين الممتدّ رؤى ومراداً ومرتجى ولهفة جذلى، وغوى من سفح (حَرَمون) شرقاً إلى شطّ مدينة (صور) غرباً، مجتازاً وعر الصخر وطاوياً شجر السهل وسرو الساحل، وصولاً إلى الماء في زمن اختلف فيه العرب وما زالوا على التاريخ حتى أضاعوا الجغرافيا، أيام أُوتِيَ بدمٍ كَذِبٍ على أكثر من قميص، وأُلقيَ في غيابة الجبّ «بيوسفيّين» كُثُر.

هكذا، بين برّ وبحر وما بينهما، قال: «أنا الذي أضع قدماً في الماء وأخرى في التراب فيما تلفح رأسي المثخنَ بالخسارات رياح عاتية قادمة من جهات الأرض».

أحسب أن «شوقي» قد نسج، ومنذ زمن، عباءة السفر، ورمى مرساته على ريف «مرثية الغبار» (2) ، وتاه زمناً، فكانت غيبة صغرى.. ثم ظَهَرَ وقد عَصَمَتْهُ أصالته محمولاً على صَهَوَات المَوْج وراحات الرمل، تَحفُّ به خيول الماء، ويواكبه نخل لم يعرف الانحناء، ليدخل المدينة آمناً وقد أفردَت له حضناً، كما سبق وأفردَت لمن أضاف في سمائها نجمة، وزيّن جبينها بزهرة.

وعندما كان «شوقي» يصل إلى مكان ما، ويدخل في مناخ ما منهياً جزءاً من رحلته كان يعمد إلى حرق مراكبه، حتى لا ينسحب إلى الخلف أو يعود ويتراجع إلى الوراء، فهو قاصد منابع وعاشق صبّ لبكر المياه، وهو المسقط عن لغته أدوات التشبيه ومتكآت الكلام عبر هجرة كلماته معه إلى هوىً لم يمر بخاطر ورؤيا لم تخطر على بال.

وحين تقدّم الزمن على هواجس «المكان» بدأت رحلة «الوقت» فَكَبُرَ الحجيج وعَمَّ وانتشر، وبقي «شوقي» منفرداً بين جموع «المهاجرين» ومميزاً بين جمهرة «الأنصار».

هذا الوافد بكل شاعريته وكياسته وأناقته وخفّة ظلّه. هذا المحبّ الكبير والحائر الكبير، ذكَّرني بأحد الصوفيين العشّاق، حين قال: (ربِّ زِدْني فيك تحيُّراً!).

هذا الشاعر المغاير الذي وَهَبَنا عِطْر (الحيرة) وبهجة الدهشة وعَبَقَ الجديد، وفتح في اللغة نوافذ تُطِلُّ على الروح، حيث تَرْقى معها المدارك ويرقّ في كنفها الشعور.

* * *

(1) «كأني غريبك بين النساء»، عنوان أحد دواوين الشاعر.

(2) القصيدة الفائزة.

kahwai_ghazi@hotmail.com بيروت
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة