Culture Magazine Thursday  21/10/2010 G Issue 320
ذاكرة
الخميس 13 ,ذو القعدة 1431   العدد  320
 
القصيبي قامة فقدناها
عبدالرحمن بن محمد السدحان

أطمح هذا المساء أن أتحدث إليكم قليلاً، وأنصت لكم كثيراً، مستفيداً مما سيقال عن صاحب القامة الإنسانية والأدبية الرفيعة غازي القصيبي، مقرراً بادئ ذي بدءٍ أن ما أعرفه عنه رحمه الله قليل من كثير مما يعلمه بعض من حضر هذا اللقاء الجميل، فشخصية غازي كما عرفته وعرفه الأقربون مني إليه كتاب مفتوح لا عوج فيه ولا لبس ولا غموض، يفتن بها محبيه وعارفيه، والعاملين معه نبلاً في القصد، ووضوحاً في الرؤية، ونقاءاً في السريرة أمام الخاص من الناس والعام، ناهيك بمن زامله في مجلس الوزراء أو خارجه من رفاق الهم التنموي المشترك، وهناك من عبر إلى رحاب شخصيته الأدبية المثيرة عبر صراط الحرف الجميل، شعراً ونثراً، منهم المعجب به كاتباً أو شاعراً أو متحدثاً بليغاً يأسر الأسماع والأبصار والأفئدة متى كتب أو تحدث، ومنهم (المختلف) معه، إما لغاية فنيةٍ تتعلق بقصيدةٍ أبدعها، أو مقالٍ كتبه أو رأي طرحه.

وإما اختلف معه رغبةً في (الاختلاف) نفسه، يحدوه في ذلك حب الشهرة ولو على حساب قامةٍ منيعةٍ في حجم غازي القصيبي!

والعارفون لغازي عن كثبٍ يسلمون بأنه -رحمه الله- لم يكن يأبه لمثل هذه النماذج من خفافيش البشر المسيرين في أقوالهم وحروفهم وأفعالهم بنزعة (الهوى) أو الطمع في حظوةٍ أو الرغبة في زلفىً تزكيه لدى من يعتقد أنهم يشاركونه ذلك (الهوى)!

كان -رحمه الله- يشفق على من خالفه بغير حجة أو ناكفه بلا دليل، بقدر ما كان يحترم من (اختلف) معه اختلافاً منهجياً مسبباً، وبلغة يباركها العقل السوي. وسواءً انتهى الجدل بينهما بالاتفاق أو بالاختلاف، يظل حبل الود بينهما ممتداً لا تشوبه شائبة.

لقد خاض الفقيد الجليل غازي معارك رأيٍ ضاريةً مع بعض من اختلفوا معه اختلافاً زاده الهوى ووقوده الحماس المفرغ من المعرفة والدليل، وبلغ طوفان الهوى لدى البعض منهم مبلغ التشهير بقامة غازي أدبياً ومعرفياً، والتشكيك فيه إيماناً ومعتقداً في حياته وحتى بعد مماته.

وتتابعت الأيام والشهور والسنين، غاب غازي خلالها عن ساحة الجدل الداخلي، منصرفاً إلى الهم الدبلوماسي، والذود عن صيت بلاده وسمعتها أمام بعض المؤدلجين سياسياً وعقدياً من المؤلفة عقولهم ليخرج من معظم تلك المعارك منتصراً!

نلتقي هذا المساء لنتأمل بعضاً من مآثر فقيدنا الجليل في عيون وأفئدة من عاصروه، ونتعرف على أطيافٍ من سيرته العطرة، ولذا، سأكرس ما بقي من هذه المداخلة القصيرة متذكراً مواقف للفقيد الكبير كان لي شرف مشاهدتها، أو المشاركة فيها، أو كنت ذا صلةٍ ببعضها عبر السنين، فأقول: أولاً: تعرفت على الفقيد الجليل ذات أصيلٍ بمدينة لوس انجلوس الأمريكية قبل نحو خمسة وأربعين عاماً، وتحديداً في عام 1963م، حيث كان رحمه الله يتابع دراساته العليا بجامعة جنوب كاليفورنيا لنيل درجة الماجستير في العلاقات الدولية، في حين كنت أخطو خطواتي الأولى في دراسة اللغة الانجليزية بذات الجامعة، وقد تطوع بتعريفي به طالب الماجستير آنئذٍ، معالي الأستاذ محمد الصقير، ومن الطريف أن أبا فارس الصقير قدمني له بانجليزيةٍ مرتبكةٍ، وتفجر عقب ذلك اللقاء القصير قدر من الإعجاب بغازي، ثم تعددت لقاءاتنا بعد ذلك بوتيرةٍ شبه يومية، داخل الجامعة وخارجها، وذات يوم تلا لقاءنا الأول، سألت غازي، و(براءة الأطفال تكسو حروفي): لماذا قدمني لك إبن عنيزة البار محمد الصقير باللغة الانجليزية، وكلانا، هو وأنا، حديثا عهد بهذه اللغة، فرد غازي بأن محمداً (يعشق) اللغة الانجليزية ويحرص كل الحرص على تعلمها في أقصر وقت ممكن، إلى حد أنه أقسم على نفسه يميناً مغلظاً ألا يتحدث إلا بها، مع أي كائنٍ كان، وتأكد بر أبي فارس بقسمه عبر لقاءات خاصة متفرقة، حيث كان يتابع الأحاديث والطرف منصتاً، وقد يعلق على موقف أو يروي (نكتة) بلغته الإنجليزية، فيستدر الابتسام مضاعفاً! كان لقائي الأول مع غازي صدفةً، وتلى الصدفة ميلاد عمرٍ جديدٍ لي استمر نحو نصف قرن!

ثانيا: من بين أبرز ملامح شخصية النابغة غازي القصيبي أنه كان طالباً متفوقاً في دراسته لمرحلتي الماجستير والدكتوراه، وقد مكنته ذائقته الأدبية وموهبته العلمية من ناحية، وتميزه المبدع في اللغة الانجليزية إضافةً إلى لغته الأم من ناحية أخرى، ثم، وهو الأهم، شغفه بالقراءة، كل ذلك مكنه من النبوغ في تحصيله العلمي لنيل درجة الماجستير أولاً بكلية العلاقات الدولية بجامعة جنوب كاليفورنيا، ثم الدكتوراه بعد ذلك بجامعة لندن.

وقد تناولت أطروحة الماجستير بالنقد والرد نظريةً شهيرةً في العلاقات الدولية للبروفيسور الأمريكي ذائع الصيت في ذلك الوقت بجامعة شيكاجو، الدكتور (هانس مورجن ثاو) تتعلق بموضوع القوة وتفاعلاتها في السلوك السياسي الدولي، أثراً وتأثيراً، ونال الطالب غازي درجة الماجستير بتفوقٍ مما حمل الجامعة على تقرير رسالته مرجعاً أكاديمياً لطلاب مادة العلاقات الدولية بها، وهو شرف لم يبلغه كثيرون من معاصريه من أبناء الإنجليزية وأحفادها، فما بالك بغير الناطقين بها أصلا!

أما رسالة الدكتوراه فكانت من جامعة لندن عن (ثورة اليمن) التي تفجرت في أوائل الستينيات الميلادية، وقد بذل في إعدادها جهداً جباراً، تمثل في قراءاته لعشرات المراجع عن اليمن منذ فجر تاريخها، مستخدماً كل المصادر والمواقع المتاحة إضافةً إلى عقد لقاءاتٍ مباشرةٍ مع عدد من الرموز الكبيرة المتصلة بذلك الحدث، يتقدمهم آخر أئمة اليمن الإمام محمد بن أحمد حميد الدين، والمرحوم الدكتور رشاد فرعون، مستشار جلالة الملك فيصل -رحمه الله- الذي أسند إليه الملك مهمة تحقيق رغبة غازي في سبر أغوار كثير من المواقف والأحداث المتصلة بتلك الثورة، كما تمكن، للغاية ذاتها، من عقد أكثر من لقاءٍ مع عدد من مستشاري الرئيس المصري الراحل، جمال عبدالناصر رحمه الله.

ومن عجب أن تلك الرسالة الضخمة عن ثورة اليمن لم تنشر حتى الآن، وقد لا تنشر، لحساسية الطرح السياسي فيها، وهي تؤرخ وتحلل لفترات عاصفة من الأحداث السياسية في جنوب جزيرة العرب منذ القدم، آخرها الانقلاب العسكري الذي قاده قائد الحرس الإمامي السابق، عبدالله السلال، وأذكر في هذا السياق أنني في عام 1970م، زرت المرحوم غازي في مقر إقامته بلندن في طريق عودتي نهائياً إلى المملكة من أمريكا، وكان يضع اللمسات الأخيرة على رسالته المثيرة لنيل الدكتوراه، وكان حديث عهدٍ بالزواج من رفيقة عمره السيدة الفاضلة أم سهيل، فأطلعني على بعض فصول الرسالة، وكانت حرمه المصون تتولى طباعة تلك الفصول، وتعرضها عليه أولاً بأول، وما هي سوى أشهرٍ بعد ذلك اللقاء حتى عاد الدكتور غازي إلى الرياض متوجاً بغار الفوز بامتياز.

غازي.. وزيراً:

إن الحديث عن استثنائية غازي القصيبي في كل أدوار حياته، لا ينضب له معين، وما تختزنه الذاكرة عنه أكثر كثيراً مما يمكن البوح به عبر هذه المداخلة المتواضعة، لكن غازي (الوزير) يظل أكثر الأحاديث إثارةً وإمتاعاً وإعجاباً، وهنا، سأقصر حديثي على الفترة التي شهدت فيها أداءه في مجلس الوزراء بعد عودته من العمل الدبلوماسي، في كل من المنامة ولندن، واستأذنكم بتدوين اللقطات السريعة التالية:

1- كنت خلال الفترة التي سبقت عودته من لندن إلى الرياض أردد على سمعه مقولةً استشرافية استنبتها وجداني وآمنت بها إلى حد الإصرار وهي أن موقعه الطليعي والتنويري وتاريخه التنموي وتأهيله، كل ذلك يؤهله لشغل فراغٍ هام في منظومة إدارة القرار السعودي، لا البقاء سفيراً في هذا البلد أو ذاك، وكان رحمه الله يستقبل هذا التعليق بابتسامةٍ حانيةٍ، قبل أن يقول: (كفانا الله (أذى) نبوءتك يا عبدالرحمن) فأرد بما يشبه الجزم قائلاً: ستعود بإذن الله يا غازي إلى حضن التنمية في بلادك التي افتقدتك إن عاجلاً أو آجلاً، وما ذاك على الله بعزيز).

2- وبعد عودته إلى الرياض وزيراً بدءاً من عام 1423هـ، كان يروي في حضوري وغيابي تلك المقولة متسائلاً عما إذا كانت تحمل شيئاً من (هواجس النبوة) بتوقع ما لم يطرأ يومئذ على البال، واليوم أقول لكم: إن ما توقعته لم يكن سوى حلم علق بالذهن والخيال معاً زمناً طويلاً أملاه الحب للوطن والحب لغازي معاً، ثم القناعة بأن الرجل يملك الكثير مما تتطلبه لوازم التنمية الصعبة تأهيلاً وأمانةً، وقدرةً على الانجاز!

3- كان الدكتور غازي عضواً فاعلاً ومؤثراً في مجلس الوزراء بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى، لا يتحدث إلا عندما لا يجد بداً من ذلك، إما توضحياً لموقف ما، أو دفاعاً عنه، أو نقداً، وفي كل الأحوال، كان يتحدث بثقةٍ وعلمٍ ووضوحٍ، وكان رأيه حول بعض القضايا الخلافية في المجلس.. يضع كثيراً من النقاط على الحروف، حاسماً بذلك النتيجة لصالح تلك القضية أو ضدها، وفق المعطيات المتوفرة عنها، معلومات واستنتاجات.

وقد يفك الاشتباك الحواري حول مسألةٍ ما باقتراح إعادته إلى اللجنة العامة لمجلس الوزراء، العضد الأيمن للمجلس، التي يشترك في عضويتها، نائباً لرئيسها، بهدف إعادة بحثه في ضوء ما دار بشأنه من نقاش، وكم من مرة، ينشأ موقف كهذا في مجلس الوزراء، فيشتد الحوار ويتفرع وتتعدد المواقف والآراء، فأختلس النظر بصمت إلى غازي من موقعي في المجلس، وكأنني التمس منه (التدخل) لفك الاشتباك!

4- كنت أسعد باستقباله مبكراً في مكتبي ظهر كل اثنين قبل جلسة مجلس الوزراء، فنتحدث عن أمور شتى، ثم ينضم إلينا معالي الوالد الدكتور عبدالعزيز الخويطر، وزير الدولة عضو مجلس الوزراء، ومعالي الأستاذ محمد الفايز، وزير الخدمة المدنية، ومعالي الأستاذ خالد القصيبي وزير الاقتصاد والتخطيط، وقد يزداد العدد إلى أكثر من ذلك، وكنت أجد في ذلك اللقاء العابر قبل الجلسة حميميةً لا توصف، وفرحاً لا يضاهى، وأنا أستقبل تلك الكوكبة العزيزة من الوزراء، يتقدمهم (العملاق) غازي، الذي يبث بحضوره أنفاساً من الفرح والمرح، خاصة حين (يناكف) صديقه الودود معالي الدكتور الخويطر.

وقبل الختام:

قبل أن اختم حديثي لهذا الجمع المبارك، أشير إلى ما سمعته أكثر من مرةٍ منذ رحيل الفقيد الغالي غازي القصيبي حول ضرورة إحياء ذكره وذكراه بأكثر من وسيلة، وأود أن أدلي بدلوي في هذا السياق ممهداً لذلك بالقول: إن قامة غازي الإنسانية والإبداعية لم ولن تغادر أفئدة محبيه ومريديه ليس في بلده فحسب، ولكن في الوطن العربي بلا استثناء، فقد رسم في القلوب لوحاتٍ من الأدب الرفيع شعراً ونثراً، وأوقد في الأذهان مشاعل من الجدل الفكري يمتد وهجها على ضفاف الحياة العامة، طولاً وعرضاً، ترى.. هل مات ذكر المتنبي بعد ألف عام من رحيله، وهو الذي لم يخرج للناس سوى ديوان واحد، فما بالك بغازي القصيبي الذي ترك بين أيدينا أكثر من ستين إنجازاً أدبياً، بين شعر ونثر ورواية وبحث مما جاد به فكراً وقريحةً عبر مسيرته الحياتية الطويلة.

لكنني رغم ذلك أستدرك فأقول: إن الدعوة (للاحتفاء) الدائم بغازي الإنسان تعبيراً عن مشاعر الفقد له وتخليداً لذكراه أمر وارد، بل ضروري، وذلك عبر مشروعٍ طموح من نوعٍ ما يرمز إلى بعض مآثره وآثاره، ليبقى ذكرىً في أذهان هذا الجيل والأجيال القادمة زمناً طويلاً، واستأذنكم بطرح بعض الأمثال:

1- هناك من قد يقترح إنشاء موقع باسم غازي في الشبكة العنكبوتية يدلي فيه محبوه بما يريدون ذكره عنه، ولن أكتمكم الظن الذي ليس في كل الأحوال إثماً - بأن هذه الشبكة الخبيثة لا تستحق شرف استضافة اسم علمٍ وطني مثل غازي القصيبي، فلكم أساءت له عبر خفافيشها المستترة وغير المستترة، في حياته، وبعد مماته، وإنشاء موقعٍ كهذا قد لا ينجو من اختراق من في قلبه مرض من تلك الخفافيش.. محاولاً تشويه إحسان من يروم الإحسان إلى الرجل الذي لم يأت في حياته إلا أحساناً إزاء بلاده وأهله.

2- أتمنى على صانعة المبادرات الوطنية، جامعة الملك سعود، التي انطلق منها الدكتور غازي يجوب الآفاق إبداعاً وتغريداً، أن تنشىء باسمه كرسياً خاصاً للدراسات التنموية تحتضنه الكلية التي انطلق منها قبل أربعين عاماً.

3- أما معهد الإدارة العامة فهو مدين لغازي بالفضل مع آخرين في تكوين وتشكيل البرنامج الأشهر المعروف ب (برنامج الأنظمة) الذي تخرج منه رواد وقادة وصانعو قرار، ويمكن أن ينشئ المعهد كرسياً مماثلاً للغاية ذاتها.

4- أخيراً: لقد أحسنت صحيفة (الجزيرة) صنعاً ممثلةً في رئيس تحريرها، الصديق خالد المالك ورفاقه الكرام حين استكتبت قبل أكثر من عام عدداً كبيراً من الأقلام العربية في المملكة وخارجها في تظاهرة أدبيةٍ كبرى، نشرتها عبر مجلتها (الثقافية) المبدعة، ثم أخرجت تلك الأحاديث في كتاب ضخم أسمته (الاستثناء) وصفاً للدكتور غازي، وقد لقي ذلك الكتاب وما برح من الترحيب نصيباً كبيراً، فلها ولأسرة تحريرها كل الشكر والعرفان.

وأتمنى على (أبي بشار) خالد المالك أن يكمل مشوار الوفاء بإنشاء مبادرةٍ جديدةٍ تكريماً للرجل الذي أحب (الجزيرة) وأحبته، وذلك بجمع مختارات مما كتب عنه تأبيناً، شعراً كان أو نثراً، وإصدارها في كتاب، يذهب ريعه لمرافق البر التي تعود رحمه الله في حياته أن يهبها ريع كتبه، دون استثناء، وما ذلك على (الجزيرة) الغراء وفرسانها الكرام بعزيز!

خاتمة:

وبعد.. أيها الجمع الكريم:

سأختم مداخلتي بهذا السؤال: لماذا يكرس كل هذا (الاستثناء) لغازي القصيبي؟!

لأنه كان مسكوناً بسطوة الإبداع وصولته وصيته مشاعر وتعبيراً!

ولأنه كان مبدعاً في شعره ونثره، وكان مبدعاً في تحصيله العلمي المتفوق، وفي تناوله لقضايا التنمية في بلاده وتعاطيه معها فهماً وموقفاً وقراراً.

رحمه الله رحمة الأبرار، وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان.

* ورقة قدم ملخص عنها في ندوة مركز حمد الجاسر
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة