Culture Magazine Thursday  24/06/2010 G Issue 316
الملف
الخميس 12 ,رجب 1431   العدد  316
 
اللجان المربعة
أ.د عبد الله بن عبد الرحمن الربيعي*

عرفت محمداً الربيع - علمياً - فور عودتي من فرنسا عام 1989م، فقد كان عميداً للبحث العلمي في الجامعة عدد سنين، وما إن سمع بقدومي حتى اختبرني بملف ضخم ضاقت به مكتبة المركز بما رحُبت، وكان غلافه يئن من وطأة وثائقه التي كانت حول مؤتمر عُقد في باريس عن جماليات المحراب في الإسلام.. وطلب مني إبداء الرأي فيه.. أما معرفتي به - عن كثب - فكانت عندما عُينت وكيلاً ثم عميداً للبحث العلمي في الجامعة (1416-1421هـ)، وكان - إذ ذاك - وكيل الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي.. ودعوني أبحر في أعماق هذه الشخصية «الكوكتيل» وإن شئتم «البانوراما»:

لم يكن يدور في خلد والده الذي يملك دكاناً في الديرة أن ابنه يختلس لحظات من «وقت الدكان» ليختلف إلى «مكتبة الملك سعود في دخنة»، فيقرأ كل كتاب يقع بيده وتحت ناظريه دون تقيُّد بفن.. أو تحديد لمستوى.. حتى أجهز على ما فيها من كتب قيمة ونادرة.. وربما «محدودة الاطلاع».. شبَّ عن الطوق ووجباته السريعة كتيبات «أعلام العرب» ومقالات «الرسالة».. ووجباته الدسمة أساطين المعارك الأدبية في الصالونات المصرية، هضم مقامات الحريري، وشرب من شلالات الشعر العربي، ودلف إلى قاعات الروايات المترجمة.. ويبدو أن أباه أدرك أن ابنه لم يخلق تاجراً، فقرر أن يتركه مع حبيباته اللاتي يمثلن بين يديه، فيمعن فيهن النظر، ويقضي معهن وطره الثقافي، ثم يودعهن أرفف المكتبات العامة إلى أن تمكن من شراء بعضهن بملك اليمين، ليرقدن في مكتبته رقدة أهل الكهف، لولا أنه يقلبهن ذات اليمين وذات الشمال، فيما لو أشكل عليه أمر ذو بال.

عجمت عوده فألفيته شديد المراس في كل ما يتعلق بعزة النفس.. أو حين تحدث «دنفسة» في القرارات، لا يتراجع عن قرار اتخذه لأنه لا يتخذه إلا بعد روية وبُعد نظر، لا يحب التثاؤب في الجلسات، يحسم الجدل، ويكافح الدجل، ويختبر النوايا، فتخرج التوصيات، أو القرارات خلواً من المجاملات أو الشللية أو التصنيفات، يكره «موديل» وش وقفنا عليه» من الكائنات التي تخرج من لجنة إلى لجنة دون أن تقرأ جدول الأعمال أو تدلي برأي ومثلها -وأيم الله- يهدم ولا يبني.. أين منها فأر سد مأرب الذي اتهم - زوراً وبهتاناً - بتفجير السد لينجو عرب الأمس من كارثة هم سببها.. كان حظي أن أشترك في معظم اللجان التي يترأسها الربيع أو يكون عضواً فيها.. ومعنا أو نحن معه الأستاذ الدكتور عبد العزيز الربيعة عضو المجلس الأعلى للقضاء، حتى إن بعض الظرفاء كان يطلق على هذه اللجان «اللجان المربعة».

ولأن السفر يسفر عن طبائع الرجال ويسقط أقنعة الماكياج، والتصنع، والمراعاة والمداراة، فقد تسنى لي السفر مع المُحتفى به إلى المغرب وإسبانيا، وقد اختصر المسافة والزمن بحديث لا يمل وبتسلسل متصل، عبر حدائق في الأدب واللغة والثقافة والعقيدة وأصول الفقه والفلسفة والفن والرياضة.. حياته مُترعة بالمواقف والطرائف بحكم جولاته وتنقلاته وكثرة صداقاته في الداخل والخارج، كأنه يستعرض شريطاً لا ينقطع من الذكريات ومصدرها ذاكرة غير منخلية.

أما في الندوات والمؤتمرات فحدِّث عنه ولا حرج، حيث يعتكف في مقر المؤتمر أو الندوة لأنه في الغالب مكلف باللجنة التحضيرية أو العلمية، ولا يعود إلى منزله إلا بعد تلاوة التوصيات الختامية، والعجيب أنه يستمتع بمثل هذا «الإرهاق» الذي يثقل كاهل من يعمل معه.. كان يتابع أوراق العمل ويناقش ويداخل، فاكتسب من قراءاته ومشاركاته وعلاقاته ثقافة عامة تحرر بها من أسرْ التخصص فهو أديب، مفكر، إداري.. وهو في الجانب الآخر وطني لا تعوقه وطنيته عن الانفتاح على الخارج بكل تقلباته وأفكاره.. هو باحث عن الجديد، حريص على التطوير.

إن محمداً الربيع شخصية ذات جوانب متعددة، يملك موهبة التذكر واسترداد المعلومات، وحضور البديهة بثقة يصفها البعض بالمفرطة، بتواضع جم، غير أنه يثور فجأة كالبركان الخامد عندما يتعرج الموضوع، ويظلم الطريق، ويغدو الحديث تيهاً ونفقاً لا آخر له.. طبَّق الأنظمة حتى على نفسه، فرفض أن يقدم بحوثه للترقية إلى الأستاذية، لأنه رئيس المجلس العلمي، فاستنكف أن يمضي قراراً بترقية نفسه، لأنه يرى في ذلك شبهة، هو بغنى عنها.. ولم يدر أن موقفه هذا رقّاه إلى أستاذ الأساتيذ بشهادة عارفيه، وتزكية مجالسيه من أساطين الأدب العربي.. وله ولأبي يزن.. ولمن قرأ تحاياي.

* أستاذ العلاقات الحضارية - أستاذ الدراسات العليا - كلية العلوم الاجتماعية، قسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام - روابي الرياض - ص.ب 100107 الرياض 11635
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة