Culture Magazine Thursday  25/02/2010 G Issue 299
الملف
الخميس 11 ,ربيع الاول 1431   العدد  299
 
شاعر الفجر الصادق!!
علي العبادي

عندما اطلعت على خماسيات الشاعر الدكتور.. إبراهيم بن محمد العواجي، التي صدرت في ديوان حمل اسم: (فجر أنت لا تغبْ).. كان عندي يقين بأن ما جاء فيها من كلمات، قد صنعت إيقاعات جديدة، ومن معانٍ قد ذابت ألحانها في شدو جميل، وفيها نظرات حكيمة إلى الحياة، تريك منها ما خفي عليك، وتصور لك معالمها، بخيرها وشرها، فتحس فيما يكتبه الشاعر روح الشعر، التي تعطينا أثراً رائعاً تتجلّى فيه براعة الشاعر، فيما يصف ويكتب، وفي ديوانه هذا: (فجرٌ أنت لا تغبْ)، صور شائقة، لا أستطيع في هذه الكلمة القصيرة استعراضها، وحسبُك أن تقرأ له هذه الأبيات وهو يخاطب الفجر:

وإنْ سألت فلول الشكّ

يوماً أيها أهوَى

ضِياؤكَ أمْ نداءُ الأرضِ

أيُهُما غداً أقوَى

أجبتُ هُما معاً حُبّي

وسرُّ الصبرِ والتقوَى

هُما نبعانِ يمتزجانِ

في نهرٍ من النجوَى

وعشقي قاربٌ يطفُو

رفيقُ الحِلّ والسلوَى

ثم يقول للفجر:

شُعاعكَ حينَ تسْكُبه

على خدّ الفضا الصافي

زُلالٌ يغسلُ الأسْدافَ

عن وجهِ السما الحافي

ويُصبح في شتاءِ العُمْرِ

ضوءَ بلادِنا الدّافي

يُجسِّدُ كل ما في الحبِّ

من طُهْرٍ وأعرافِ

ويجْلو ما يسومُ النفسَ

من هجْسٍ ومنْ خافٍ

وفجر الشاعر العواجي في هذه الخماسيات، فجر لا يريد أن تحجبه الغيوم، ولا يريد أن يغيب أبداً:

صباحٌ دائمُ الإشراقِ

لا ليْلٌ يبدِّدُهُ

ولا ظلّ ولا غيْمٌ

ولا رمْلٌ يراوِدُهُ

فجر يريده أن يبقى قلعة للحب الصادق، والوئام الأخوي، فجر يريده أن يعلّم الإنسان معنى الحب، ويهديه إلى معالم طريقه التي وضع العواجي صُوَاها، وحدّد مسالكها.

فجر يريده أن يرسم لوناً للبسمة على الأجفان، ونهاراً يمسحُ وجهَ الليل، ليعيد الرؤية للإنسان، ويزيل طيوف الشك بضوئه الساطع، ويعيد الصحو، ويعلن الحرب الضروس ضد قُوى الشيطان:

يا مَنْ قد يرسُمُ في يدِه

لوناً للبسمة في الأجفانْ

ونهاراً يمسحُ وجهَ

الليل يُعيدُ الرؤيةَ للإنسانْ

أعلنْ في وجهِ ظلالِ التّيهِ

حُروباً ضدّ قُوى الشيطانْ

وأزِل يا فجرُ طُيوفَ الشكّ

بضوءٍ يُقْبلُ كالطوفَانْ

ويعيدُ الصحوَ لسيرتِهِ

والحبُّ يعلّمُهُ الإنسانْ

ورسم الشاعر في خماسياته البديعة فوق خدّ الأرض، صوراً جميلة للعشق: عشق الوطن، وصوراً للأخلاق والمثل العليا.

وفي هذه الخماسيات، خروج على المألوف من أوزان الشعر، ولكنه خروج جميل، لم يفقد الشعر رونقه وجماله، وقد التزم الشاعر موسيقى عذبة، لها إيقاعها الجميل في الآذان المصغية، أظهرتْ المقدرةَ الصناعية عند الشاعر القدير..

وآذاننا بطبعها قد ألفَتْ هذا النغم، الذي توارثت سماعه على مر العصور.

وخماسيات الشاعر، جاء جُلّها من وزن مجزوء الوافر، هذا الوزن الذي يحاكي (البحر الهزَجِ)، إلا أنه أقل رتوباً، لجمعه بين (مفاعَلَتُنْ)، و(مفاعيلُنْ) في أغلب الأحيان.

والبحر الهزج قد أعرض عنه فحول الشعراء القدامى، ولم نر شاعراً منهم خاض غماره، وفي الخماسيات: أربع خماسيات من البحر المتدارك، وثلاث خماسيات من مجزوء الرمل، وخماسية من البحر الخفيف، وخماسيتان من وافي الوافر، وخماسيتان من مجزوء الكامل، وإحدى خماسيات مجزوء الرمل، جاءت من وزن غير مطروق عند الشعراء، وهي الخماسية التي يقول فيها الشاعر العواجي:

أيُّ عهْدٍ؟ يا زمانَ

الوصْلِ بالأندَلُسِ

يا زمانَ الفتحِ أينَ

الفتحُ يجلو غلسي

هل رأيتَ القُدْس تبكي

تحتَ سوطِ الدنَسِ

كيف يا فجْرُ أغنّي

لاقتتَالِ الحرسِ

أطبقَ الضعفُ وصرنا

في فَمِ المفْترِسِ

عروضها (فاعلاتنْ)، وضربها محذوف مخبون (فَعَلُنْ) بتحريك العين، يقول الدماميني عن هذا الوزن: زعم الزجّاج أنه لم يُرْوَ مثل هذا الوزْن شعراً للعرب.. قال ابن برّي: يعني قصيدة، كاملة.. غير أن خماسية العواجي لها شاهد عند علماء العروض، وهذا الشاهد هو:

قلْبُهُ عنْد الثُّريَّا

بائنٌ عن جَسَدِهْ

العروض (د ث ث ر ى يا)، ووزنها (فاعلاتنْ)، والضرب (جَسَدِهْ)، ووزنه (فَعَلنْ) بتحريك العين.. وخماسية العواجي هذه تثبت لنا أن الشعر العربي الموزون، سيبقى خالداً على مر العصور، وسيتطرق الشعراء بأصالتهم وقدرتهم الإبداعية، إلى جميع أوزانه، بما فيها الأوزان التي اختلف عندها العروضيون، وكثر جدالهم حولها، كهذا الضرب المحذوف الذي لم يأت به شاعر قط في عصرنا الحاضر، ولم أقرأ غير البيت الشاهد اليتيم عند علماء العروض: قلبه عند الثريّا.. إلخ، وهو بيت لم يتكرر مجيئه، إلا عند الشاعر الكبير إبراهيم محمد العواجي.

والشاعر العواجي له في البحر (المتدارك)، خروج على المألوف ولكنه خروج جميل، سبقه إليه الشاعر السوري (نزار قباني)، في قصيدة من ديوان (أحبّكِ أحبّكِ والبقية تأتي)، يقول العواجي:

يا مَنْ قدْ يرسُمُ في يدهِ

لوناً للبسْمةِ في الأجفانْ

ونهاراً يمْسَحُ وجْهَ

الليلِ يُعيدُ الرؤيةَ للإنسانْ

إلى آخر الخماسية، وهي من البحر (المتدارك) الذي يأتي على: فعلنْ - فعلنْ - فعلنْ - فعلنْ.. إما بتحريك العين، وإما بسكونها، فيحدث هذا الوزن جرساً حلواً ترتاح إليه أذن السامع.. غير أن الشاعر العواجي قد أحدث ضرباً سائغاً في هذه الأبيات (فعْلانْ)، وهو ضرب لم أقرأه إلا عند الشاعرين العواجي ونزار قباني، حيث يقول نزار قباني من قصيدته:

أعطيني وقتاً حتى أدرسَ حالَ الريحِ

وحالَ الموجِ وأدرسَ خارطةَ الخُلجانْ

فيأتي بالضرب (فعْلانْ) في هذا البيت، وإن كان البيت منْ شعر التفعيلة الذي يغاير أبيات شاعرنا العواجي، التي جاءتْ من الشعر العمودي الهادئ، الذي يستسيغه الذوق، وترتاح إليه الأذن.

وللعواجي بضع خماسيات من مجزوء الوافر، خرجتْ على المألوف، كعادة الشعراء الكبار، إلا أنها صنعت لوناً جديداً من الأوزان، لا يَمَجُّه الذوق، ولا تصطدم به الأذن، كخُماسيته التي يقول فيها:

غداً تُشْرقُ يا فجراً

تُعرّي طغْمَةَ التضْليلُ

فيهْربُ تحت وطء الضوءِ

خُفّاشٌ هناك كليلْ

فالضرب في هذه الخماسية (مفاعيلانْ)، وهو ضرب غير معروف في (مجزوء الوافر)، وقد سبقه إلى الخروج على المألوف، الأستاذ الكبير حسين سرحان (رحمه الله) في قصيدته التي يقول فيها:

ما أتعسَ الإنسانْ

في حيثُما كانا

إنْ اغتدى جوْعانْ

أوْ عاشَ شبْعانا

لو أنهُ يدري

فعمد السرحان إلى تشكيل جديد في الوزن ونقطعه هكذا:

مستفْعلنْ - فعْلانْ - مستفْعلنْ - فَعْلنْ

مستفْعلنْ - فعْلانْ - مستفْعلنْ - فَعْلنْ

مستفْعلنْ - فَعْلنْ

وهذا الوزن قريب من الموشحات الأندلسية، وقد نُشرتْ القصيدة كاملة في ديوانه (الطائر الغريب)، الصادر عن نادي الطائف الأدبي.

كما سبقه إلى الخروج على المألوف أيضاً الشاعر سعد عبد الله الحميدين، في قصيدته الطويلة المنشورة في ديوانه: (وتنتحر النقوش أحياناً)، حيث يأتي بعد كل مقطوعة من شعر التفعيلة بيتان وزنهما:

مستفْعلنْ - فعْلنْ - مستفْعلنْ - فَعْلنْ

مستفْعلنْ - فعْلنْ - مستفْعلنْ - فَعْلنْ

وهو وزن قريب من وزن قصيدة الأستاذ الكبير حسين سرحان، يقول الحميدين:

ما عاد بالقادرْ

يمْشي على الساترْ

أو يرتجي الآخرْ

أن يرْتدي زِيَّهْ

وقد سبقهم إلى الخروج على المألوف، كما زعم مؤرخو الأدب العربي القدامى: الشاعر أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم حين قال:

عُتْبُ ما للْخيالِ

خبّريني ومالي

لا أراهُ أتاني

زائراً مذْ لَيالي

لو رآني صديقي

رقَّ لي أوْ رثَى لي

أو يراني عدُوّي

لانَ منْ سُوءِ حَالي

فهذه الأبيات، عدّها مؤرخو الأدب العربي من الخروج على المألوف، فلما قيل لأبي العتاهية: خرجتَ على العروض، قال: أنا سبقت العروض، وقد جاء هذا الخبر في كتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة، وغيره من كتب الأدب التراثية، بيد أني أشك في صحة هذا الخبر، لأن مجزوء الخفيف يأتي بعروض وضرب مقصورين، فيأتي على وزن:

فاعِلاتنْ - مفْعولنْ - فاعِلاتنْ - مفْعولنْ

فإذا دخلهما الخبن صارا على وزن:

فاعِلاتنْ - فَعولنْ - فاعِلاتنْ - فَعولنْ

وهو وزن قصيدة أبي العتاهية، ولابن المعتز قصيدة على هذا الوزن، وزن قصيدة أبي العتاهية يقول فيها:

طالَ وجْدي وداما

وفنيتُ سِقامَا

أكل اللحْمَ - منّي

وأذابَ العِظاما

قلْ لمنْ نامَ عنّي

صفْ لعيني المنامَا

ما يضرُّ خليّا

لو شفَى مسْتهاما

مفرداً بضَناهُ

يحسبُ الليلَ عَاما

وهذه حقيقة يجب توضيحها، لأن الكثيرين من مؤرخي الأدب العربي، يجهلون علم العروض، فيختلط عليهم الأمر. وشاعرنا الدكتور إبراهيم العواجي، لم ينس وطنه كعادته في كل ما نشره من شعر مطبوع، استمعْ إليه وهو يخاطب وطنه بهذه الخماسية البديعة، التي تجلّتْ فيها نفحات وطنية، قد انفرد بها شاعرنا الكبير، وتجلّتْ هذه النفحات في كل لون من ألوان شعره حتى الغزل يقول:

وطني شموسُ المجْد ترضَعُ

ثَدْيَهُ حتّى الثُمالهْ

من رحْمهِ وُلدَ النبيّ

وأشْرقَتْ منه الرسالهْ

في أرضهِ نبتَ الهوَى

والحبّ في دمه أصالهْ

من عقلهِ عُرفَ النُّهى

منْ نوره للبدْرِ هالهْ

ولفجره مغنى الخلودِ

ألسْتَ يا فجْري مِثالَهْ

ولقد قرأنا أبياتاً لابن الرومي وأُعجبنا بها، واختارها علماء التربية نصاً يُتْلى على طلبة المدارس:

يقول ابن الرومي:

ولي وطنٌ آليْتُ ألاّ أبيعَهُ

وألاّ أرَى غيْري لهُ الدهرَ مالكا

عهدتُ به شرخَ الشبابِ ونعْمةً

كنِعْمةِ قومٍ أصبحوا في ظِلالكا

فقد ألِفتْه النفسُ حتى كأنّه

لها جسدٌ إنْ بانَ غُودرْتُ هالكا

وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهُمُو

مآربُ قضَّاها الشبابُ هُنالكا

إذا ذكَروا أوطانَهمْ ذكّرَتْهُمو

عُهودَ الصِّبا فيها فحنّوا لذالِكا

ولو نظرنا إلى النصين بعين الإنصاف، لجاء نص الشاعر العواجي متفوقاً، لدقة تصويره وعمق فكرته، نص يحيي الشعور، وينمّي معنى الوطن، ويزكّي الحماس، ويبعث الأريحية في النفوس، لأن الشاعر العواجي يكتب شعره عن عاطفة ملحّة، وشعر العاطفة غذاءُ النفوس، ومثيرُ الهمم، ورسولُ الوطنية، وهو الذي يستحق أن يدرَّسَ لجيلنا الصاعد. وسيجد القارئ في هذه الخماسيات، الشعر الصادق بصوره الرائعة، التي يرسمها لنا الشاعر العواجي، بنظرته الدقيقة، وتعمقه الواسع، وسيخرج القارئ راغباً في تلاوة الخماسيات مرة أخرى، وخير الشعر ما يستهويك إلى قراءته، مرّاتٍ ومرّاتٍ.

*رئيس النادي الأدبي في الطائف سابقاً
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة