Culture Magazine Thursday  25/02/2010 G Issue 299
فضاءات
الخميس 11 ,ربيع الاول 1431   العدد  299
 
أمام مرآة «محمد العلي»
لعبة الزمن.. لعبة الصدفة!! (1-2)
علي الدميني

مفتتح:

كان يهيأ لي دائماً، وبحكم علاقتي الشخصية الحميمة مع «محمد العلي» ومتابعتي لجل ما يكتبه، أو ينشر من حوارات ثقافية معه في العديد من المنابر الصحفية والإعلامية الأخرى، أنه بمقدوري أن أكتب عنه ما أشاء، وأنّى اردت ذلك... ولكنني وأنا أقرأ وأعيد قراءة ما بين يديّ مما تم تجميعه وإصداره في كتب من مختارات «مقالاته، ومحاضراته، وحواراته، وقصائده»، قد وجدت نفسي في مأزق صعب، كان عليَّ أن أتقبل مفاجأتي به أولاً!

لماذا؟

لأن النص الذي كنت أستمتع به مغلفاً برائحة الذاكرة يختلف عن النص الذي أقرأه وأحاوره بين يديَّ، في مجلدات عديدة.

أرأيت كيف يكتب الشاعر المتفرد نصه، محتشداً بالحالة الوجدانية، ومفعماً بعذوبة التعبير ومجازاته، ودلالاته التي لا تستطيع الإمساك بها بمجرد القراءة الأولى، والتي تبث ّ عدواها في مخيلتك ووجدانك لاستعادة التماس معها ثانية وثالثة؟

ذلك ما تقرأه في كل نتاج «محمد العلي» وكأنك تراه أمامك، يحاورك شفاهياً، ولكن بأسلوب تحليلي وفلسفي عميق ومتماسك، فيدهشك بهذه القدرة على محبة الكتابة، وامتلاك مقوماتها المعرفية والفنية، حين يمضي كنهر يفيض بحوار المفاهيم (التراثية والمعاصرة من أقوال ورؤى الآخرين)، فيغرس حقلاً من شبكة تعالقات المعرفة، بأسئلة الجدل، والنقض، وجمالية التعبير التي تنشر في قلب قارئها عدوى «لذة النص»، بما يحملك على مراجعة قناعاتك وتكوين رؤية أخرى، حتى وإن اختلفت معه عليها.

تلك إحدى سمات كتابة «محمد العلي» لمقالاته وتأملاته ومحاضراته، حتى أشدها اقتراباً من حصون الأكاديمية، مثل محاضراته: «المثقف والأيديولوجيا»، و»الفرق بين الرؤية والموقف» و»نمو المفاهيم»، على سبيل التمثيل فقط.

لقد كتبت عن كثيرين.. شخصيات ومنجزات كتابية، ولكنني لم أكتب مرة واحدة عن «محمد العلي».. إلا في إشارات والماعات خاطفة..

كان تهيباً معرفياً، وتواضعاً صادقاً، واحتشاداً داخلياً بالكثير الذي لا تفيه المقالة أو الدراسة حقه عن هذا الرمز الكبير...

«القرب حجاب»، كما قال أحد أسلافنا، وذلك هو حجابي عن «العلي» أو حجابه عني!!

فصل من ذكريات مشتركة:

أشياء كثيرة تصنع حياة الإنسان..

بيئته الاجتماعية والثقافية تحتل مركزيتها الأولى.. مكوناته النفسية وملكاته الفردية تأخذ موقعها في تلك المساحات..

وفي ظروف مجتمع يعيش مسار التحول الدائم مثل مجتمعنا، تأتي الصدف لتلعب دورها الحاسم في تحديد القناعات ومسارات الاختيار، ومنها صدفة لقائي بالأستاذ «محمد العلي».

ربما كان الزمن قريباً إلى منتصف عام 1970م، حين استوقفتني زاوية «أمام المرآة» التي كان يكتبها في جريدة اليوم، فشدتني بشكل لا أصفه إلا بانخطاف الروح تجاه ما يؤججها أو يملأ مخيالها بما لم تكن قد فكرت فيه أو حلمت به!! وكان عصر كل يوم خميس حفلة خاصة استمتع فيها بقراءة تلك المرآة.

لم أكن أعرف أن «العلي» شاعر ضخم، لأنه لم ينشر في زاويته نصوصاً من شعره، بل أنه أوغل في إيهامي، أنا القارئ الذي لم أكن قد تعرفت عليه بعد، بأنه لا يمتلك موهبة كتابة القصيدة. وفي تلك الزاوية التي لا أنسى وقعها عليَّ، تمنى لو أنه كان شاعراً ليكتب عن حالات شديدة الحرقة والعذاب، مهيباً بالشعراء لتمثلها في قصائدهم.. ومنها: ماذا سيكتب شاعر عن عيني امرأة خطفته من صمته على البحر؟

قلت لنفسي: أنا لها.. فكتبت نصاً خلته كافياً للتعبير عن تلك الحالة.. وقررت إرساله إليه، ولكنني حين أعدت قراءته بعد يومين تلعثمت أمام فقر اللغة، وافتقاد النص إلى صدق التجربة وجمالية التعبير، فمزقته، وشتمت محمد العلي في سرّي!!

في أواخر ذلك العام، كنت قد بدأت نشر قصائدي في مجلة اليمامة، وكان أحد زملائي الحميمين في الدراسة («محمد الحسن»، الذي أصبح أستاذاً للعلوم الإدارية في جامعة البترول، فيما بعد) قد عمل كمذيع متعاون مع محطة تلفزيون الدمام، وفاجأني بأنه يعرف «محمد العلي» ويقابله هناك، حيث كان العلي يعمل أيضاً متعاوناً مع المحطة لمراجعة وتصحيح «نشرة الأخبار» من الناحية اللغوية!!

طربت للخبر، وحسدت صديقي على متعة الالتقاء بشاعرنا، وطلبت منه أن يطلعه على بعض قصائدي، ولكن العلي لم يعلق على أيٍ منها!

وحين نشرت قصيدة بعنوان «تسوّرت خارطة الليل»، عام 71م في مجلة «البيان» الكويتية، حملها صديقي إليه، فجاءتني أولى ردود الفعل الإيجابية، حين نطق الجبل وقال: «إن صاحبك يمتلك موهبة شعرية»!

ظلت العلاقة بيني وبين «محمد العلي « مفتوحة للاحتمالات، غير أن حوار المذيع «عبد الرحمن الغامدي» معه في تلفزيون الدمام في أوائل عام 72م، قد أشعل تشوفي للالتقاء به، فقد أسرتني شخصيته وجرأته وعمقه حين تحدث عن انتقاله شعرياً إلى قصيدة التفعيلة، وعبر عن ذلك بقوله: إن القصيدة العمودية شجرة ضخمة تم دفنها في الأرض فأنبتت أغصاناً جديدة نسميها «قصيدة التفعيلة»، وأنا قد حسمت خياري بانتسابي إلى تلك الأغصان الخضراء!

كانت تجربة قصيدة «التفعيلة» تمثل بالنسبة لي آنذاك مرموز التغيير والتطور والتقدم الثقافي، مثل ما تمثله لي اليوم أولويات حرية التعبير، وجمعيات المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، لذلك فقد ألححت على صديقي برغبتي الحارة في الالتقاء ب»محمد العلي».

الأب الثقافي:

لم يطل انتظاري لذلك اللقاء الحلمي الموعود، حتى رأيت «العلي» يأتي لزيارة قريبه وزميلي في الدراسة أيضاً (الشاعر هاشم الشخص) في البيت نفسه الذي أسكنه في كلية البترول!!

كانت لحظة فارقة في حياتي، دشّنت لعلاقة تاريخية جميلة وعميقة ربطتني بهذا «الأب الثقافي» الجديد، وفتحت أمامي آفاقاً معرفية وإنسانية تجاوزت في مفاعيل تأثيرها كل ما عرفته من علاقات عائلية أو إنسانية أو اجتماعية أو ثقافية سابقة، فأسهم لقائي به في إنضاج سلسلة الصدف التاريخية الطويلة في حياتي، لتأخذ أبعادها الأخرى ومواقفها الأكثر وضوحاً وجذرية في مسيرتي، منذ تلك الليلة وحتى اليوم!

ولعل النص التالي يعبر عن ذلك المعنى المختزن والمختزل لتلك العلاقة، وقد وضعته في ديواني الأخير بعنوان «ملاك الصدف»:

«يا ملاك الصدف

كيف لم نختلف

أنت عرّيتني من صباي

وهيأتني للمسرّات في كل هذي الغرفْ

و أنا كنت رمحك في الصيدِ

لكنني

دائماً

لا أصيب الهدفْ!!»

أقفال كبيرة، ومفاتيح صغيرة!

يمكن لكل من اقترب من فضاء «محمد العلي» أن يلمس باليدين صعوبة التواصل اليومي معه، وأن يقرأ على الباب سيماء أقفال متعددة تحد من بساطة التحاور معه، أو اقتحام معاقله!

كثيراً ما ترى «العلي» وهو يستغرق في الصمت والتأمل.. بين الأصدقاء أو حتى في ندوة أو لقاء عام... في مكاتب الجريدة، أو في السفر بالسيارة، ونحن نتنقل من مكان قصي إلى آخر!!

ذلك سرّه الكبير الذي لا يستطيع التعامل معه إلا الراسخون في معرفته الثقافية والإنسانية، والوجدانية.

ولكن أي منا سيجد أمامه سلّةً مملوءة بمفاتيح التسلل إلى أعماق تلك الروح الخصبة، حين يكون «العلي» ضيفاً في أمسية أو ندوة، فتعمل مفاتيح الأسئلة على كشف مذخور كنوزه وأسراره وصدقه حتى حواف الجارح والجريء منها!!

أما خارج ذلك المناخ الثقافي، فإن أبرز ما يحرضه على فتح أبوابه، يأتي من قدرة الصديق أو الضيف أو أي شخص على إثارة مكامن الدهشة الطفلية أو الشعرية لديه، من خلال الحديث عن مفارقة باعثة على الدهشة، أو استذكار مقطع من نص شعري لافت، وحينها ستجده قد انفجر ضاحكاً، كبركان محبوس من براكين اليابان!!

كنا نلتقي في غرفة مدير تحرير جريدة اليوم منذ عام 72م وما بعدها، وكان صمت «العلي» المهيب يجعلنا نلوذ بالصمت حتى لكأن سقف الغرفة سيطبق علينا، ولكن حين يدخل العم سالم الحضرمي - حارس الجريدة - فإنه يخترق ذلك الصمت بكلماته العفوية والساخرة الموجهة إلى شاعرنا، فيفتح الله على يديه ما يهزّ الغرفة من ضحكات «العلي» المجلجلة!!

كان العم سالم يمتلك مفاتيح صناديق الصمت، أما أنا فقد عجزت عن امتلاكها مذ تعرفت على «محمد العلي» وحتى اليوم، برغم ما أحمله من تقدير وحب وإعجاب لم يوجد بعدُ في أعماقي منافس له!!

دعوته ومجموعة من الأصدقاء للعشاء في بيتي، وكان عمر ابني «عادل» آنذاك لم يتجاوز الثالثة من العمر، وقد اعتاد ابني على ما يلقاه من ملاطفة واهتمام من محمد العلي خلال زياراته المتعددة لنا. ولكن شاعرنا في تلك الليلة لم يكن مهيئاً للاهتمام بالطفل الذي ألف مداعباته، ولا بالأصدقاء الملتفين حوله.

وحين تساءل أحد الأصدقاء بصوت عال: «وش في أبو عادل الليلة ما يتكلم»، رد عليه ابني الصغير قائلاً «كنه مقفّل للصلاة»!!

وهنا انفجر محمد العلي ضاحكاً، واحتضن عادل بحميمية، وبدأ في إشعال الليلة حتى نهايتها..

ومن مفاتيحه، أن تبادره بانتقاد كتابته أو شعره، فيبدأ الحوار معك لا مدافعاً ولكن متسائلاً عن مكامن سؤالك!، أما إذا بادرته بإطراء، فلن تجد إلا صدى ما كان يردده في إحدى قصائده عن البحر»وساجٍ أنت كالأكفان»!!

ومنها أيضاً، أن تطرح عليه سؤالاً ثقافياً محدداً بعيداً عن مهام العمل السياسي اليومي، لتفتح مغاليقه، شريطة ألا تقاطعه وهو يتحدث بهدوء عميق.. عميق..

وعليك إن استضفته في عشاء خاص ألا تثقل عليه بعدد الحاضرين متنوعي المشارب، وأن تحرص على استضافة القلة ممن يرتاح إليهم أو يثق في وعيهم وثقافتهم.

ولكنك حين تزوره لتعرض عليه مشروعاً ثقافياً، أو أمراً يرتبط بالشأن العام، فإنك ستجد أذناً صاغية ما عهدتها من قبل، وستتلقى إجابة دقيقة وعليمة وعملية تغنيك عن استشارة الكثيرين، كما أنها ستعينك على اتخاذ الموقف الصائب، من رجل لا يهتم غالباً بالعمل السياسي اليومي!!

الدمام
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة