الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th October,2003 العدد : 33

الأثنين 24 ,شعبان 1424

إدوارد سعيد وجهنا الثقافي إلى العالمية

د. عبدالإله بلقزيز
أستاذ الفلسفة جامعة الحسن الثاني
أمين عام المنتدى المغربي العربي الرباط
من نافل القول ان المساهمة الفكرية التي قدمها المفكر الراحل ادوارد سعيد من القيمة والغنى في ميزان التراكم المعرفي الى الحد الذي لا يتجادل فيه.
اعترف له بذلك الغرب الثقافي: بجامعاته، ودور نشره، وصحافته، ومجامعه العلمية، ودوائره الأكاديمية المختصة في مجالات العلوم الانسانية، وجمهور الباحثين والقراء فيه، بل حتى قطاعات عريضة من «الرأي العام» في الولايات المتحدة وأوروبا ولم يكن ذلك بسبب مواقفه السياسية الشجاعة المدافعة عن حقوق شعب فلسطين، والمشتبكة مع السياسات الأمريكية والصهيونية في الصحافة والاعلام ومنتديات المناظرة الثقافية.. فحسب، بل أيضا وأساساً من باب اعتراف «من الغرب» بعلم الرجل وانتاجه المعرفي المتميز الذي أهله في تقديرات غريبة نزيهة لأن يوضع في مصاف آخر عمالقة الفكر الانساني في العقود الثلاثة الأخيرة: جنبا الى جنب مع لوي ألتوسير، وميشيل فوكو، ويورغن هابرماس، وبيير بورديو، وجاك دريدا، ونعوم تشومسكي.
ولم يكن حظه مع المثقفين العرب كبيراً «والحق ان حظهم الذي لم يكن كبيرا ما خلا زمرة قليلة العدد انتبهت الى عطائه الفكري النير في القرن العشرين عاما المنصرمة، فاستضاف بعضها دراساته في متن كتابتها أو مراجعها، ولم يكن ذلك الاهمال بسبب لغة ادوارد، فقد ترجم أهمها الى العربية منذ عقدين ويزيد، ناهيك عن الانجليزية شأن غيرها من اللغات الكبرى في عالم المعرفة ما كانت حائلا دون اكتشاف نصوص نوعية قادرة على تدشين رؤية جديدة لقضايا الفكر من جنس تلك النصوص التي حررها ادوارد سعيد، ولا تفسير لدينا لذلك الاهمال سوى ان الفكرة الفكر العربي المشتغل في حقل العلوم الانسانية، لم يرتق بإشكاليته بعد الى حيث ينتبه الى نقد سعيد الفكري، وأي ذلك ان مساهمته في نقد الخطاب الاستشرافي وهي تعود الى ربع قرن مضى لم تجد من يستأنفها من الباحثين العرب، وإذا ما استثنينا دراسة عبدالله العروي لأبحاث فون غرنباوم وكتاب هشام جعيط عن «أوروبا والاسلام» وقد كتبنا قبل حدود كتاب الاستشراق، لسعيد لا تعثر على عمل من حجم عمل سعيد أو ينحو منحاه في النظرة النقدية الأيبيستيمولوجية العميقة للاستشراق. أما قيمة المساهمة الفكرية النوعية التي قدمها ادوارد سعيد، فمأتاها أن أموراً ثلاثة بالغة الأهمية بالنسبة الينا نحن العرب:
أولها ان هذه المساهمة أماطت اللثام عن قدر هائل من الموسوعية والعمق المعرفيين انطوت عليهما «المساهمة إياها» وهي قرينة على قدرة العربي على اقتحام آفاق بعيدة في ميدان الثقافة والمعرفة والابداع ومجاراة المثقفين من مبدعين وباحثين في مجتمعات أكثر تفوقاً في حقل المعرقة، حتى وان كان العربي مكلوماً بجرح الهوية العميق الذي أحدثه فيه الاقتلاع العدواني الخارجي، كما في حال ادوارد سعيد، أو محمولا على مغادرة الوطن وربما العيش فيه بغير حرية ولا كرامة، وتجربة الراحل تحمل على الاعتقاد بأن مثل ذلك الجرح قد يكون من مداميل الشفوف المعرفي والتألق الفكري: حتى بالمعنى الفرويدي الذي يعطيه لي «التسامي» كميكانيزم سيكولوجي للتعويض عن توازن «طبيعي» لم يتحقق وبهذا المعنى، كأن فكر سعيد ملحمة، وهو قطعاً درس غني للثقافة العربية قد يساعدها على الخروج من شرانق الدرامية الحادة التي تجتاح مثقفيها.
وثانيها ان مساهمته نجحت في تقديم أرقى مخاطبة فكرية عربية معاصرة للثقافة الغربية من الداخل: من داخل هذه الثقافة وفي عقر دارها، أخرجت خطاب المثقف العربي حول الغرب من المساجلة الإيديولوجية، الى المناظرة العلمية، ومن العصابية الدونية الى ثقة بالنفس ندية ومن الدفاعية الفوييائية الى الاقدام المسلح باستراتيجيات المعرفة، وبعد ان رفعنا عقيرتنا طويلا منددين بالاختراق الثقافي الغربي لنسيجنا الثقافي، ها هو عربي منا يخترق القلاع الحصينة المحروسة لثقافة «الرجل الأبيض» فيثير فيها زوبعة فكرية هزت يقينها واطمئنانها الى النفس، وطرحت عليها أسئلة حرجة ستستهلك عقوداً قادمة قبل ان تجيب عنها وتتحرر من ثقلها، في غياب جيش من المثقفين والباحثين العرب يملك أحدث أسلحة المعرفة للمنافسة الثقافية مع خصيم مرسبل بالعتاد النظري، كان ادوارد سعيد المثقف الفدائي العربي الوحيد الذي نسف منظومة «الغرب» الفكرية وأحدث أعطاباً بنيوية في نظام اشتغالها وثالثها ان هذه المساهمة اقترنت عند صاحبها بمنزع حاد الى ممارسة فعل الالتزام الوطني والقومي، وتكييف شطر منها «من المساهمة الفكرية» للتفكير في اعضالات السياسة والتحرر من الدائرتين الفلسطينية والعربية، وللتعبير عن مواقف سياسية جهيرة في دفاعها عن حقوق شعبه وأمته، لم يكن ادوارد سعيد من سلالة فكرية تحرص على «حماية» المعرفة من «لوثة» السياسة بدعوى «الحياد» و«الموضوعية» كان من مدرسة تؤمن بأن المعرفة غير المنتسبة الى الموقف السياسي عرجاء، وبأن المواقف السياسية غير المسترشدة بالمعرفة عمياء، وما لا يقل أهمية عن ذلك كله، أن الرجل مارس التزامه في أصعب ساحة يمكن لامرئ أن يعبر فيها عن وطنيته الفلسطينية أو عن عروبته: في الخندق الدولي المتقدم الذي لم تتوقف رصاصاته عن الاطلاق على فلسطين والعرب.
هذا بعض قليل من سفر فكري ضخم عنوانه ادوارد سعيد، لم يتعرف القراء العرب على كل صفحات هذا السفر.. عرف منها أعني ما كتبه الأربعة عشر أربعة تآليف: «تغطية الاسلام، وهدر بعد الثورة الايرانية يفضح تهافت النظرة الاعلامية الأمريكية للاسلام ولايران، و«الاستشراق» وهو كناية عن محكمة معرفية وضعت فيها نصوص الاستشراق أمام عدالة الموضوعية والحقيقة، «والثقافة والإمبريالية» وهومغريات معرفية في خطاب الهيمنة الغربية الثقافي، وفضح لدعواه الإيديولوجية، وأخيراً كتابه النقدي «اتفاق أوسلو» الذي أنهى علاقته بالقيادة الفلسطينية وجرَّ عليها منعاً لكتبه في مناطق السلطة! ناهيك عن عشرات المقالات التي نشرها في الصحافة الأمريكية والفرنسية والعربية عن القضية الفلسطينية.
ومع أهمية ما كتبه في مجالات النقد الأدبي والأدب المقارن، والدراسات الاقليمية، فإن كتبه الأربعة هذه تظل أقرب النصوص الى قضايانا العربية والفكرية والسياسية وهي الأولى بعناية القراء والباحثين العرب لاتصالها بأسئلتهم الراهنة، ثم انها من حسن الصدف، نقلت الى اللغة العربية وباتت في مكن أو مع قاعدة من القراء والمهتمين بشؤون المعرفة والممارسة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
المحررون
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved